من الصور الكثيرة التي ستبقى في الذاكرة لحدث وفاة الرئيس الراحل حافظ الأسد صور نقلتها شاشات التلفزيون العالمية للشارع السوري وهو يبكي فقيده، وهي تشير - في بعض دلالاتها - الى أن هناك جيلاً كاملاً من السوريين لم يعرفوا سورية إلا مع الأسد ومن خلاله. ومن ثم فإن غيابه شكل فقداً للمتعارف عليه الساكن والمألوف، كما يمكن أن يدل هذا البكاء والعويل من جهة أخرى على الخوف من المستقبل، لأن ما عرف خلال العقود الثلاثة الماضية، بخيره وشره، يمكن أن يتغير، بينما ينظر الناس الى المستقبل، في الوقت الراهن على الأقل، على أنه مشكوك في مساره. إذا سارت الأمور كما تبدو ملامحها الأولية الآن فإن بشار الأسد البالغ من العمر أربعا وثلاثين سنة سيتربع على قمة السلطة في دمشق، وهو ما يجمع، في آن واحد، بين الأمل والتحدي، والرغبة والرهبة، والمتابعة والتغيير، ليس لسورية والسوريين فقط، ولكنه أمل وتحد لمنطقة كبيرة هي الشرق الأوسط التي عانت منذ فترة طويلة من اضطرابات سياسية جذرية أدخلتها في عواصف عاتية لم تمهلها لتقديم ما تحتاج إليه شعوبها من تنمية للحاق بالعصر. وباختيار بشار الأسد قائداً ورئيساً لسورية يكون السوريون قد اختاروا الاستمرار مع الاستقرار، وقد يكون الأخير متاحاً، إلا أن الاستمرار في السياسات القديمة نفسها أمر مشكوك فيه بطبيعة الحال. فانتخاب بشار الأسد قد يمثل استقراراً لسورية، لكنه يمثل في الوقت نفسه سابقة لم تحدث من قبل في المنطقة، وهي سابقة حسنة في ظل الظروف الخاصة التي تكتنف سورية، ولكن ليس بالضرورة أن تكون قابلة للتقليد في المستقبل في مناطق أخرى من عالمنا العربي من دون آثار سلبية. فهناك في الخريطة العربية من يريد من الجيل الجديد أن يرث ما للآباء من نفوذ وسلطة في جمهوريات عدة، ربما من دون تأهيل أو دراية، وقد يرى هذا البعض أن ما حدث في سورية يمكن أن يكون قاعدة لتحويل الجمهوريات الى حكم موروث، وأن هذا الأمر يمكن تكراره وقبوله في جمهوريات أخرى. وذلك افتراض تحوطه المخاطر، وقد يسفر عن قدر كبير من عدم الاستقرار، وهو أول تحد كبير يواجهه بشار الأسد بأن اختياره جاء لمناقبه وليس فقط لكونه ابن الرئيس الراحل. أما استمرار السياسات السابقة فهو يمثل ثاني التحديات. فأمام الرئيس المرشح ملفات ضخمة، تركها الراحل حافظ الأسد لمن بعده، وهي حزمة من السياسات تكمن صعوبتها في أن استمرارها يمثل أمراً شبه مستحيل، كما أن التحول عنها أمر محفوف بالمخاطر، ويعرض الوريث للنقد الحاد من الحرس القديم من أركان حكم الرئيس الراحل. من يتأمل ملفات الموروث الصعب في سورية يجد ملفين اثنين يبرزان بشكل واضح، وهما الحلم القديم ب "الشام" والوضع الاقتصادي والسياسي الداخلي. فسورية كانت تحلم دائماً بالشام باعتباره منطقة نفوذ سياسي، الشام الكبير الذي تشكل سورية قاعدته ويشكل كل من الأردنولبنان وفلسطين التاريخية أطرافه. وقد حول الأسد سورية من موضع يستهدف الآخرون بسط نفوذهم عليه، الى قاعدة تبحث عن نفوذ لها بين جاراتها العربية، من بلد مهدد بالتفتت الى بلد مستقطِب. فالجيران في النطاق "الشامي" هم محط أمل سورية سياسياً، وباستقطابهم ترى سورية انها تستطيع أن تكون لها كلمة ليس على المستوى العربي فقط، ولكن أيضاً على المستوى الدولي، هذه الفكرة التي تتمحور حول "الشامية" نجدها بارزة في مسيرة السياسة السورية الخارجية، كما نجدها في تصريحات لكثير من الساسة السوريين. فالتقسيم الذي قام به المستعمر بين الحربين العالميتين يصفه وزير الخارجية فاروق الشرع بقوله: "ان سورية هي البلد الوحيد الذي قسم الى أربعة بلدان" في اشارة منه الى الشام الكبير. ففي العقود الثلاثة الماضية، اتبعت سورية علاقة نشيطة بين هذه الأطراف الشامية، وان لم تكن بالضرورة ايجابية. وكانت المفارقة ان يصل الرئيس الأسد الى سُدة الحكم والرئاسة بسبب عدم رضاه على طريقة التدخل الذي قرره صلاح جديد ورفاقه من المتشددين الذين حكموا سورية في نهاية الستينات تجاه أحداث أيلول سبتمبر 1970 في الأردن، حيث ترك الأسد القطاعات العسكرية السورية التي أصدرت اليها القيادة السياسية أوامر بالتدخل في الأردن، تركها من دون غطاء جوي بصفته مسؤولا عن الدفاع، فمنيت هذه القوات بهزيمة استفاد منها الأسد في حسم تنازع القوى في دمشق، ثم قام بالحركة التصحيحية. لم يغب المجال الحيوي السوري في الشام الكبير عن عيني الرئيس الأسد، وان اختلفت تكتيكات تحقيقه. فمن أجل ألا يقع لبنان داخل نفوذ الدائرة الاسرائيلية تحمل الأسد وسورية مهمات صعبة في لبنان منذ أن قرر العرب التدخل لوقف الحرب الأهلية المتفجرة في 1976، وتركوا بعد ذلك سورية وحدها، ولم يكن ذلك التدخل من دون معارضة سورية داخلية. كانت أهم أولويات السياسة السورية في لبنان هي لجم النفوذ العرفاتي غير المنضبط، ليس حباً في تقليص قوة الفلسطينيين، ولكن أيضاً حتى لا تزداد غربة الجانب المسيحي اللبناني وتهميشه في وطنه، فيضطر الى التعامل مع اسرائيل بأي ثمن. لذا كان من الضروري الوقوف في مواجهة سياسة الفلسطينيين في لبنان وحلفائهم في القوات المشتركة من خلال معارك عدة دموية وضارية، دفع الفلسطينيون البسطاء في المخيمات واللبنانيون أيضاً اثماناً باهظة لها. هذا النهج على رغم صعوبته كان هو الخيار المتاح سياسياً لتحقيق الهدف الأكبر وهو الحفاظ على لبنان بعيداً عن الدائرة الاسرائيلية، كما استخدمت سورية كل الوسائل المتاحة سياسياً وعسكرياً لإقناع مختلف الفئات اللبنانية المتعارضة بأن مستقبل لبنان مرتبط ببيئته العربية مهما بدا عليها من ضعف واحباط في ذلك الوقت. لكن ذلك في نهاية الأمر هو الذي أنقذ فريقاً من اللبنانيين من هزيمة وذل مثل الهزيمة والذل اللذين مني بهما جيش لحد عندما تخلى عنه الاسرائيليون من دون أن تطرف لهم عين، لو قبلوا الانضواء تحت دائرة النفوذ الاسرائيلي. وكان الاحباط هو الدافع وراء السياسة السورية تجاه الفلسطينيين في السلطة. فقد كان لعرفات دوماً حسابات خاصة يراها محققة للأهداف الفلسطينية، التي كان كثير منها يخضع لحسابات سياسية محدودة الأفق والتصور وقصيرة الأجل، وجدها حافظ الأسد متسرعة ومتهاونة. فتحت شعار "استقلال القرار الفلسطيني، لم يعد عرفات يكترث بضرورة ارتباطه بالشام بالرغم من أن الشام كان يمثل في البداية الحضن الدافئ للقضية الفلسطينية. من هنا استمر العداء السياسي بين عرفاتودمشق في العشرين سنة الأخيرة من حياة الرئيس الأسد، وهو العداء الذي جعل من القضية الفلسطينية قضية معزولة عن المسار السوري الذي ارتبط وبقوة بالمساراللبناني. وعلى رغم أن السياسة السورية كانت دائماً مرنة في جانبها العربي فإنها لم تمارس هذه المرونة تجاه ما سمي لاحقاً بالسلطة الفلسطينية، بل كان هناك تنافس بين المسارين السوري والفلسطيني، شعر الفلسطينيون بذلك دائماً، سواء كان ذلك حقاً أو باطلا، فقد كان شعورهم بأن أي تسوية سورية مع اسرائيل ستمثل خصماً من حسابهم، وهو دليل قاطع من حيث النظرية، على تلازم مستقبل الشام السياسي كما كان يراه الاسد، وربما المدرسة القومية في سورية، إذ شعر الفلسطينيون، على رغم الخلاف، بأن موقف سورية المبدئي تجاه التسوية يدعمهم للحصول على أفضل الشروط الممكنة، بينما رأوا انهم مع أي اتفاق سوري - اسرائيلي سيفقدون ورقة ضاغطة، ولو غير مباشرة، وهذا ما لم يكن الأسد يرتاح اليه، ووجده أقرب الى الانتهازية السياسية منه الى النضال الوطني. في الجانب الأردني لم تكن الصورة ببعيدة عن الهم الشامي. فعلى رغم ان الرئيس الاسد عارض تدخل القوات السورية ابان الأزمة مع الفلسطينيين في العام 1970 لأسباب توازن القوى، فإن ذلك كان محصلة لعوامل عدة، أولاً ان هذا الحدث كان في حياة عبدالناصر الذي لم يكن يحبذ أن تتدخل دولة عربية بالقوة في شؤون دولة عربية أخرى. وثانياً كان نتيجة رؤية الأسد التي تتصف بمرونة سياسية لم تكن متبعة من قبل المتشددين وقتها في دمشق، وبرغم ذلك فإن الموقف تجاه الأردن حكمته بعد ذلك نظرة سورية الى "الشام"، فلم يُنظر الى أطروحات وسياسات الملك حسين من دمشق نظرة الموافقة أو المسايرة، فشهدت العشرون سنة الأخيرة على الأقل من حكم الملك حسين في مجملها اضطراباً في العلاقة مع دمشق، وكانت فترات التوتر أطول من فترات التقارب القصيرة، وقد بلغت السياسة الأردنية ذروتها بتوقيع عمان معاهدة وادي عربة مع اسرائيل. في نهاية الأمر شهدت فترة حافظ الأسد الطويلة نجاحات سياسية اقليمية كان هاجسها مثل هاجس التاريخ القومي في سورية بر الشام والدولة الكبيرة المقسمة، ونظرت دمشق الى تجارب وحدوية حديثة، في المحيط العربي، تقوم بين أطراف متقاربة مثل دولة الامارات أو اليمن، على أنها مقدمة منطقية لوحدة الشام. هذه السياسة الشامية هي أكبر الملفات التي سيواجهها الرئيس المرشح بشار الأسد. فهل يمكن أن تستمر هذه السياسة برؤية جيل جديد يعرف أن الدول لا تقاس بعدد سكانها، وانما بقدرتها الانتاجية وانفتاحها وقوة اقتصادها وولوجها في عصر التقنية، وفوق ذلك وقبله، بانسجامها مع الجيران الذين تظهر بينهم في القيادة وجوه شابة. كما أن الملف اللبناني والملف الأردني، ثم ملف السلام هي أهم ما يشكل مجمل السياسة الشامية لسورية. وإذا كان الرئيس الراحل حافظ الأسد، من خلال تاريخه الطويل وخلفيته القومية والعسكرية يمتلك رؤية "شامية" محددة، فليس بالضرورة أن تبقى هذه الرؤية كما هي، مع تغير الزمن والظروف الجديدة ومن ضمنها تكتيكات السلام مع اسرائيل. فالمتغيرات كثيرة لعل أولها متغير الزمن الذي لم يعد كما كان. فالموضوع اللبناني سرعان ما سيظهر على السطح ويحتاج الى رؤية مختلفة عما كانت عليه، وكذلك مفردات هذا الملف المختلفة. أما الملف الثاني الكبير والذي يناظر في أهميته الملف الأول، والذي سيتعين على بشار الأسد مواجهته عاجلا، فهو إعادة النظر في ما يمكن أن يسمى بشكل واسع "اشتراكية الاقتصاد السوري" في الوقت الذي تخطى فيه معظم الجيران هذا النوع من الاقتصاد المبني على حماية الدولة وسيطرتها على مقدرات الاقتصاد، الذي يرتكز على الزراعة وشيء من الصناعات الأولية وملكية الدولة التي تنفذ سياستها الاقتصادية، بأدوات تنفيذية بيروقراطية تقادم العهد بها، وهو نظام لن يكون بالضرورة هو المرغوب في سورية في المستقبل. كما ان طبيعة القيادة الشابة سوف تفرض تغيرات في هذا الاتجاه، لا بد أن تصطدم ببعض أفكار الحرس القديم، وهي أفكار تلقى التبني والاحتضان ليس من جانب كبار السن فحسب، بل انها تتخلل النسيج الفكري والثقافي في العقل الجمعي للشعب السوري منذ سنوات طويلة. إذا كانت السوابق التاريخية تنفع في تحليل اللاحق من الأحداث، فإن التغيير الذي حدث في كل من الأردن والمغرب متمثلاً في وصول قيادات شابة لسدة الحكم أثبت - حتى الآن على الأقل - أن التغير قد يكون شعائرياً أكثر منه واقعاً عملياً، ففي البلدين كان التغيير محدوداً في صفوف الحرس القديم مع بقاء معظم الطاقم، وهنا يحدث التناقض بين آمال جيل جديد ومتطلبات سياسية واقعية تتطلب قدراً محسوباً من الحركة والمرونة. أمام بشار الاسد معادلة صعبة تتلخص في التوازن بين الاستقرار والتغيير، وهو بالتأكيد - شأن سورية نفسها - يحتاج الى الكثير من حسن النيات والأفعال أيضاً. * كاتب كويتي