ثمة انفصام ملفت بين النظرة الاميركية، الرسمية والعامة، الى التطورات في الجنوباللبناني بعد توقف المفاوضات السورية - الاسرائيلية المستأنفة، وبين الرؤية والمشاعر في المنطقة تجاهها. ثمة انقطاع عميق في الفهم وفي أطر التفاهم. ثمة فجوة قديمة بين الفكرين الاميركي والعربي شديدة الحاجة للتعمق في اسبابها والعمل على استدراك مخاطر الخلل في التواصل في شأنها. ثمة علاقة غريبة بين اميركا والعالم العربي تفتقد أول ما تفتقده الركيزة. ولربما حان الوقت للمؤسسات الفكرية، الاميركية والعربية، للبحث ليس فقط في الخلفية التقليدية لهذه العلاقة المحصورة عموماً في النفط واسرائيل، وانما ايضاً في مقومات تطويرها. وربما يخطر في بال القيادات العربية أنها تهدر فرص التفاهم المجدي اذا استمرت في نمط الاستفراد في صنع العلاقة الاميركية - العربية وكأنها فرضاً، تستلزم إما احتواء المشاعر الشعبية أو تجاهلها لأن أصحابها مجرد قطيع لا علاقة له بصنع العلاقات والقرارات. حال اللاتفاهم ليس عائداً حصراً الى العلاقة العضوية بين الولاياتالمتحدة واسرائيل. وان كانت هذه احدى أهم وأعمق حلقاتها. وليس عائداً فقط الى أهمية النفط وتأثيره، الايجابي كما السلبي، في العلاقة الثنائية. كما انه ليس عائداً الى الخلاف الجذري في البيت العربي حيال الرئيس العراقي صدام حسين. ان حال اللاتفاهم تأخذ في طياتها اسرائيل والنفط وصدام والحضارة والتطرف والارهاب والتضارب بين ما يقال على لسان القادة وراء الابواب المغلقة وبين ما يُعلن للاستهلاك. في هذه المرحلة من العلاقة الاميركية - العربية وفي ما يخص النزاع العربي - الاسرائيلي تحديداً، فلا تزال الاكثرية الساحقة الاميركية متُحجّرة منذ الستينات حين تمترست المعادلة المبسطة المبنية على تهمة العرب بالعمل على رمي اليهود في البحر والاعتداء على اسرائيل لإبادتها. والأكثرية الساحقة لا تزال تعتقد ان المشكلة الرئيسية هي ان العرب لا يعترفون باسرائيل وان الحل هو في الاعتراف بها. القلة بين الاميركيين، على المستوى الرسمي والعام، تدرك اهمية حدث مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط قبل عقد تقريباً. والغالبية تعتقد ان مفاتيح عراقيل السلام عربية قطعاً. فاسرائيل معفاة باستثناء حدث هنا وآخر هناك. وإذا كان رئيس الوزراء السابق بنيامين نتانياهو، تمكن من إبراز مساوئ المواقف الاسرائيلية أكثر من أي طرف عربي، فإن حذفه من السلطة حذف من الفكر الاميركي وما مثّل حالة استثنائية في السياسة الاسرائيلية. لذلك يصعب على الفكر الاميركي فهم مدى التنازلات الفلسطينية الخطيرة في اطار صنع السلام والتعايش الفلسطيني - الاسرائيلي. يصعب فهم الاسلوب السوري في التفاوض ما يؤدي الى لومه خصوصاً في شخص الرئيس حافظ الأسد. يصعب فهم الاندفاع الرسمي والشعبي للتعبير عن الرفض القاطع لاعتبار "حزب الله" منظمة ارهابية ولتأكيد الاعتزاز به بصفته أبرز مقاومة تقليدية عربية ضد الاحتلال الاسرائيلي. وللتدقيق، فإن التوقف عند العلاقة السورية - اللبنانية، بطابعها الرسمي وذلك الذي ينطوي اساساً على "حزب الله"، له علاقة بسوء الفهم، كما بعقلية التشكيك، كما بصنع السياسات المتضاربة حيناً والمتهادنة أحياناً اخرى. واقع الأمر ان أمام اسرائيل الآن خيارين لا ثالث لهما: اما تحقيق انسحاب القوات الاسرائيلية من جنوبلبنان عبر البوابة السورية، وهذا يتطلب شجاعة اتخاذ القرارات السياسية. أو تحقيق الانسحاب عبر التنفيذ الدقيق للقرار 425 الذي نص على الانسحاب غير المشروط، وهذا يتطلب التمييز بين لغط الانسحاب الانفرادي الذي اقترن بشروط لامنطقية وبين دقة الانسحاب طبقاً للقرار 425. لولا المقاومة اللبنانية في الجنوباللبناني لما كان البحث في انسحاب القوات الاسرائيلية مطروحاً، كما هو، بإلحاح. ومن دونها لا يمكن ان تعتبر اسرائيل انها سقطت في فخ نصبته لنفسها سمي "الحزام الأمني" في جنوبلبنان. وربما تستطيع المقاومة اللبنانية التباهي بأنها المقاومة الوحيدة في الصراع العربي - الاسرائيلي التي اجبرت اسرائيل على الاعتراف بفشل سياسة لها والتراجع عنها واوصلتها الى اتخاذ قرار الانسحاب. وبهذا المعنى، فإنها المقاومة بمفهومها الكلاسيكي، اي قهر الاحتلال وإلحاق الهزيمة به وإزالته غصباً عنه. السياسة الاميركية لم تدعم احتلال اسرائيل لجنوبلبنان، والولاياتالمتحدة ساهمت في صياغة القرار 425 والقرار 426 الذي وضع آليات تنفيذ الانسحاب الاسرائيلي، وصوتت لإقرارهما. الا ان تصنيفها للمقاومة عبر حزب الله وغيره "إرهاباً" ميّع معارضتها للاحتلال. هذا الموقف الاميركي الذي لا يبارك احتلال أراضي الغير بالقوة وينطلق من استخدام التفاوض السلمي الوسيلة الوحيدة لإنهاء الاحتلال ينظر الى "حزب الله" بصفته منظمة "ارهابية" لأنه اطلق صواريخ الكاتيوشا عبر الحدود الى شمال اسرائيل وتسلم الدعم من سورية وايران لمحاربة اسرائيل عسكرياً متبنياً منطق المقاومة لتحرير الأرض المحتلة بدلاً من منطق المفاوضات. فليس وارداً في الذهن الاميركي إلقاء نظرة على "حزب الله" من المفهوم العربي له كمقاومة شرعية للاحتلال. وهذا يفسر جزئياً ردود الفعل المتباينة على الجولة الأخيرة من المواجهة في الجنوب. فالأوساط الاميركية اعتبرت التصعيد ارهاباً مدروساً من جانب حزب الله، وسورية وراءه، ردّت عليه اسرائيل بضبط النفس، في الوقت الذي أدى تعمد اسرائيل تدمير البنية التحتية والمدنية الى حشد الدعم العربي لمنطق المقاومة إزاء انحسار آفاق منطق التفاوض. الأخطر في حلقة الانفصام ان الاكثرية من الأوساط الاميركية بررت ضرب اسرائيل عمداً للبنية التحتية المدنية باعتباره مجرد افراز، وافراز معقول، للتصعيد الذي يتحمل "حزب الله" مسؤوليته. لكن ردود الفعل العربية، خصوصاً تلك التي تمثلت بزيارات القادة العرب للبنان تضامناً وتعاطفاً معه، ساهمت في إيقاظ البعض الى ذلك الانفصام وحوار الطرشان بين اميركا والعرب. إذاً، تداخل منطق المقاومة مرة اخرى مع منطق المفاوضات على الساحة اللبنانية - السورية - الاسرائيلية. والسؤال الآن هو، من يمسك بخيوط هذا التداخل في المرحلة المقبلة ولأي أهداف؟ أساس الطروحات السورية وجوهرها هو تماماً التداخل أو التضارب أو التجاذب أو التنافس بين المنطقين. ودمشق بعثت الرسالة الى كل العناوين الضرورية اكثر من مرة وفحواها انها على استعداد لتغليب منطق التفاوض على منطق المقاومة كوسيلة لتحرير الأراضي. أما إذا فشل منطق التفاوض، فإن الرسالة السورية واضحة في ابلاغ المعنيين ان لديها خيوطاً مهمة في تحريك منطق المقاومة. وبالطبع فإن الساحة الاساسية له ليست الجبهة السورية وانما الجبهة اللبنانية أولاً ثم الفلسطينية حيث لدمشق علاقات مميزة. للبعض مآخذ على هذه الطروحات السورية خصوصاً ان لبنان يدفع ثمنها تكراراً. بل هناك من يعتبر ان السياسة السورية تستخدم لبنان وتقدمه قرباناً من أجل المصلحة السورية. ويتساءل لماذا لا تطبق دمشق منطق المقاومة على حدودها مع اسرائيل اذا كان الهدف تحقيق إزالة الاحتلال عبر تحرير الاراضي بالمقاومة. البعض الآخر يرى ان في الطروحات السورية براغماتية وسياسة واقعية علماً بأن فتح الجبهة السورية يعني الحرب الرسمية مع اسرائيل وفي ذلك انتحار. ويرى هذا البعض ان جزءاً مهماً من الفضل يعود لسورية في اطار تمكين المقاومة اللبنانية من احراز الانتصار على الاحتلال. أما ان يقال ان لا علاقة للمقاومة بالتفاوض فإنه تكتيك مفهوم غير انه ليس الحقيقة الصادقة. ولهذا، قد يكون ضرورياً الآن لأطراف المقاومة في لبنان، وعلى رأسها حزب الله، كما للحكومة اللبنانية، التفكير في مختلف سيناريوات التداخل بين منطقي المقاومة والتفاوض. فإذا استأنفت المفاوضات السورية - الاسرائيلية، وإذا أقدم رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك، على القيادة واتخاذ القرارات بشجاعة، فلن يكون هناك داع للتعمق في العلاقة بين منطق المقاومة ومنطق التفاوض . وبذلك ينتصر منطق التفاوض في تحقيق السلم والأمن والتعايش على الحدود اللبنانية والسورية. وبذلك أيضاً يُلجم منطق التحرير العسكري كله في المنطقة، بسبب افرازات الاتفاق السوري - الاسرائيلي - اللبناني على الساحة العربية بما فيها الفلسطينية. أما إذا أتى شهر تموز يوليو بلا هيكل تفاهم سوري - اسرائيلي، وقرر باراك تنفيذ تعهده الانسحاب من لبنان وان من دون اتفاق فإن هناك واحداً من سيناريوين: ان يتم الانسحاب الانفرادي بكارثة اخطاء وشروط وانذارات وتهديدات اسرائيلية، أو ان يتم بتنفيذ دقيق للقرارين 425 و426. السيناريو الأول يفتح آفاقاً دموية على الساحة اللبنانية وقد يؤدي الى تفعيل للتوتر على الساحة السورية وتفجير للإحباط على الساحة العربية بما فيها الفلسطينية. أما السيناريو الثاني فإنه يقتضي، منطقياً، انحسار المقاومة في ضوء إزالة الاحتلال وتنفيذ الحكومة اللبنانية تعهداتها بموجب القرارين 425 و426. وفي مثل هذه الحال ينقطع التداخل بين منطق المقاومة ومنطق التفاوض بحيث يصبح واضحاً ان المقاومة حسمت المعادلة وأدت الى ازالة الاحتلال. عندئذ يمكن القول ان لا علاقة بين المقاومة وبين المفاوضات. فإذا كان هذا هو قصد المسؤولين في "حزب الله" عندما يؤكدون ان لا علاقة بين الاثنين، لا بد من الاستنتاج ان هناك رؤية لدور "حزب الله" ومصيره وعلاقته بالحكومة اللبنانية اذا قررت اسرائيل تحقيق الانسحاب عبر التنفيذ الدقيق للقرارين 425 و426، مع التمييز بينه وبين الانسحاب الانفرادي بشروط وانذارات. فإذا كانت تلك الرؤية مفقودة أو مؤجلة الى وقت لاحق، قد يكون الوقت ملائماً للتفكير الجدي بها، ذلك ان امام اسرائيل، اذا كانت واعية، خيارين لا غير: إما البوابة السورية للتوصل الى اتفاق سلام شامل، أو بوابة 425 لتحقيق الانسحاب النظيف. فقد فات الزمن على معادلة الانسحاب الانفرادي بمفاوضات أو بضمانات أو بإنذارات أو بتهديدات. وهذا ما بدأت الأوساط الاسرائيلية والاميركية بإدراكه. فالتجربة أو المغامرة الاسرائيلية في لبنان لقنت دروساً عديدة لم تستوعبها الأوساط الاميركية بمقدار ما استوعبتها الأوساط الاسرائيلية. ذلك ان العلاقة الاميركية - العربية، في أسسها، متفككة ومجزأة تؤخذ في الاعتبارات الاميركية بتناثر وتصنيف بلا تفاعل مع التجارب والمشاعر العربية. فالفجوة قديمة العهد عميقة الجذور تستدعي التدقيق والدراسة والبحث في ماضيها ومستقبلها خصوصاً في هذا المنعطف المهم من العلاقة بمفاهيم التداخل بين منطق المقاومة ومنطق المفاوضات.