م. الحيدري: إلغاء "المقابل المالي" يعيد معادلة كلفة الصناعة السعودية    إصدار أول فوترة لرسوم الأراضي البيضاء في مدينة الرياض اعتبارًا من 1 يناير 2026    عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى    المملكة تدين هجومًا استهدف أفرادًا من الشرطة الباكستانية    عودة سلمان الفرج وأحمد حجازي وجاهزيتهم للمشاركة أمام النجمة    القبض على شخص لترويجه 18 كيلو جرامًا من نبات القات بجازان    "الجوازات" تصدر 17.767 قرارًا إداريًا بحق مخالفين لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود    مدينة جدة تتوج كأفضل منظم جديد في تاريخ سباقات الزوارق السريعة للفورمولا 1    فرنسا تندد بقرار أمريكا حظر منح تأشيرات دخول لمفوض أوروبي سابق    أمير تبوك يواسي في وفاة الشيخ أحمد الخريصي    تعليم الطائف يطلق اللقاء التعريفي لبطولة «عقول» لمديري ومديرات المدارس    رئيس جامعة القصيم يرعى مؤتمر «الحرف اليدوية في عصر التحول الرقمي: فرص وتحديات»    تعليم جازان يودِع مكافآت الطلاب والطالبات لشهر ديسمبر 2025م    جمعية أدبي الطائف تقيم أمسية أدبية منوعة احتفاء بيوم اللغة العربية العالمي    البرلمان الجزائري يصوّت على قانون يجرّم الاستعمار الفرنسي    الذهب يتجاوز 4500 دولار للأونصة    نائب أمير تبوك يؤدي صلاة الميت على الشيخ أحمد الخريصي    سلطان عُمان يستعرض مع ابن فرحان المستجدات الإقليمية والدولية    نخبة آسيا.. بن زيما يقود الاتحاد لتجاوز ناساف    الجولة 13 بدوري يلو.. الأنوار يستقبل الباطن والبكيرية يواجه العربي    سلطان عُمان يستقبل سمو وزير الخارجية    نائب أمير الشرقية يهنئ مدير تعليم الأحساء    مصرع رئيس الأركان العامة للجيش الليبي في حادث تحطم طائرة بتركيا    الإدارة الذاتية: استمرار التوتر تهديد لاتفاق الشرع وعبدي.. ارتفاع قتلى قصف «قسد» في حلب    تحت رقابة دولية وإقليمية وسط استمرار المعارك.. الحكومة السودانية تطرح وقفاً شاملاً لإطلاق النار    فلكية جدة: النجوم أكثر لمعاناً في فصل الشتاء    أقر القواعد الموحدة لتمكين ذوي الإعاقة بالخليج.. مجلس الوزراء: الموافقة على قواعد ومعايير أسماء المرافق العامة    اطلع على سير العمل في محكمة التنفيذ.. رئيس ديوان المظالم: تفعيل المبادرات الابتكارية في مفاصل «التنفيذ الإداري»    موجز    جمع 31 نوعاً من النباتات البرية المحلية.. السعودية تسجل رقماً قياساً في «غينيس» ب «مخزون البذور»    «الخوص والسعفيات».. تعزز ملامح الهوية المحلية    مشروعات «الشمالية» في جناح «واحة الأمن»    روح وريان    خربشات فكر    بين الكتب والخبز    مسجد القبلتين.. شاهد على التاريخ    استعراض إجراءات حماية عقارات الدولة أمام أمير الشمالية    «الشؤون الدينية» تعزز رسالة الحرمين    «فايزر» تعلن وفاة مريض بعد تلقيه دواء لعلاج سيولة الدم في تجربة    المنظار الأنفي.. تطور علاجي في استئصال الأورام    السعودية تستورد 436 ألف كيلو جرام ذهبا خلال 4 سنوات    في عامه ال100 أبو الشعوف يواصل الزراعة    3095 شخصا تعرضوا للاختناق ثلثهم في مكة    ساخا أبرد بقعة على الأرض    جدة تستضيف نهائيات دوري أبطال آسيا للنخبة 2026    الجولة 13 بدوري يلو.. الأنوار يستقبل الباطن والبكيرية يواجه العربي    كرات ثلج تحطم رقم Guinness    القيسي يناقش التراث الشفهي بثلوثية الحميد    الضحك يعزز صحة القلب والمناعة    المشروبات الساخنة خطر صامت    نجاح أول عملية للعمود الفقري بتقنية OLIF    فلتعل التحية إجلالا وإكبارا لرجال الأمن البواسل    أمير الجوف يرأس اجتماع اللجنة العليا لدعم تنفيذ المشاريع والخدمات للربع الثالث 2025    «نسك حج» المنصة الرسمية لحجاج برنامج الحج المباشر    تخريج دفعة جديدة بمعهد الدراسات للقوات الجوية بالظهران    الكلام    أمير جازان يستقبل رئيس جامعة جازان الدكتور محمد بن حسن أبو راسين    إنفاذاً لأمر خادم الحرمين الشريفين.. وزير الدفاع يقلد قائد الجيش الباكستاني وسام الملك عبدالعزيز    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوجود والإنسان عند ابن عربي 2 من 2
نشر في الحياة يوم 25 - 03 - 2000

وعلى رغم ان ابن عربي يصرح بأن ما يأتي به ليس نابعاً من إعمال العقل والفكر الرويّة في المسائل المطروحة في كتبه، وإنما هو فيض رباني وفتح إلهي ونوع من الالهام، فإن في مذهب ابن عربي جوانب لا يمكن الوصول إليها إلا بجهد عقلي ملحوظ، وهي الجوانب الفلسفية المتعلقة بمذهبه في وحدة الوجود، الأمر الذي يجعله فيلسوف الصوفية من دون منازع.
لقد نظر ابن عربي إلى الوجود نظرة كلية تستكشف الوحدة من خلال التعدد، وترد الكثرة الموجودة في هذا العالم إلى مبدأ واحد. وتلك معضلة فلسفية طالما أرقت الفلاسفة قديماً وحديثاً. ورأى ابن عربي ان الحقيقة الوجودية واحدة في جوهرها، متكثرة في صفاتها واسمائها، لا تعدد فيها إلا بالاعتبارات والنسب والاضافات، وهي قديمة أزلية لا تتغير، وإن تغيرت الصور الوجودية التي تظهر فيها. فإذا نظرت إليها من حيث ذاتها قلت هي الحق، وإذا نظرت إليها من حيث مظاهرها قلت هي الخلق 6.
وتلك هي وحدة الوجود عند الشيخ الأكبر، النظرية التي أثارت جدلاً كبيراً عند خصوم ابن عربي ومؤيديه. وللأسف فإنها لم تفهم على حقيقتها من قبل المعارضين، بل ومن بعض أتباع ابن عربي أيضاً. لأن الخصوم تصوروا أنها تؤدي إلى وحدة الله والكون، بينما حاول بعض المدافعين تبرئته من تهمة القول بوحدة الوجود تحاشياً لما تؤدي إليه من إشكالات، كما فعل الإمام الشعراني في "اليواقيت والجواهر" و"الكبريت الأحمر في علوم الشيخ الأكبر"، حيث حذف أو أوّل جميع النصوص المتعلقة بذلك في الفتوحات وفصوص الحكم وغيرهما7، في حين اعتقد كثير من تلامذة ابن عربي بمذهبه في الوجود من دون ان يزعزع ذلك عقيدتهم الدينية في تنزيه الله عن مشابهة أو مجانسة مخلوقاته.
والحق ان متصوفاً كابن عربي يفني عمره في التقرب من الله، ويعلي من شأن الحقيقة الروحية ودورها الأساسي في حياة الإنسان، ويعتبر الله هو الموجود الحقيقي وان العالم مظاهر أو تجليات له، لا يمكن ان يؤمن بوحدة وجود مادية تجمع بين الله والعالم أو تلغي التمايز القائم بين الله ومخلوقاته، لأن الحق تعالى وهو الموصوف بالوجود المطلق - حسبما يصرح ابن عربي في الفتوحات - هو خالق العلل وموجود بذاته من ذاته، لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء، ومعرفتنا به لا ترقى إلى معرفة حقيقة الذات الالهية، "إذ حقيقة الذات لا تعلم بدليل، ولا ببرهان عقلي، ولا يأخذها حد... فمعرفتك به تعالى إنما هي أنه ليس كمثله شيء" 8.
وما دام الشيخ اتخذ آية التنزيه هذه قاعدة يقوم عليها مذهبه الاعتقادي، فمن الواجب علينا تأويل النصوص الواردة عنه في هذا المجال والتي يفهم من ظاهرها الوحدة الكاملة بين العالمين إلى خلاف ذلك، خصوصاً أن ابن عربي استعمل الرمز بغزارة في مؤلفاته كافة، ودعانا إلى صرف النظر عن ظاهر كلامه للتعرف على الحقيقة المحجوبة عن الأعين "فاصرف الخاطر عن ظاهرها".
إن الإنسان مهما بلغ من رتبة معرفية في حال القرب أو الفناء في الله، فإن ذلك لا يؤدي إلى الحلول أو الاتحاد. حيث يشير خلال حديثه في الفتوحات عن "معراج الإنسان في سلم العرفان" إلى قضية مهمة جداً تشرح طبيعة العلاقة المتمايزة بين الله والعالم والإنسان والتي لم ينتبه لها الكثيرون وذلك حينما يقول: "لا يزال العبد عبداً ولا يزال الرب رباً" 9.
ومؤدى ذلك ان العبد في حالة فنائه وفي حالة بقائه لا يزال عبداً بالنسبة إلى حقيقته وطبيعة جوهره. وان الرب كذلك، في تجلياته الخلقية واللطفية لا يزال رباً بالنسبة إلى حقيقته وطبيعة وجوده. ومن هنا فإن وحدة الوجود التي يقول بها ابن عربي لا يعني بها ان الله هو العالم وان العالم هو الله، بل هي في مستوى الوجود الخارجي، أي الوجود من حيث مظاهره وآثاره، وحدة ايجاد لا وحدة موجودات، هي وحدة "كن" لا وحدة الكون. وهذا الايجاد الواحد هو قوام "الموجودات المتعددة"، أي به تكون الموجودات كماً وكيفاً، حقيقة ووجوداً، من غير حلول ولا تركيب ولا مزج. فالوجود في هذا الموطن ليس هو الحصول والتعيين الخارجيين، بل ما به الحصول والتعيين الخارجيان. وعلى هذا الأساس نفسر قول ابن عربي "سبحان من أوجد الأشياء وهو عينها"، أي أن عينية الله لجميع الأشياء الموجودة على الصعيد الكوني ليست هي عينية ظهور ووجود، بل عينية إظهار وايجاد، أي به ظهرت وبه وجدت جميع الأشياء 10.
أما وحدة الوجود على الصعيد الانطولوجي، أي الوجود من حيث هو في ذاته مجرداً عن مظاهره وآثاره الخارجية، فهي وحدة الوجود المطلق، لا وحدة الوجود مطلقاً. فالوجود مطلقاً هو متعدد، لأنه يقال على الوجود الحادث والوجود القديم، على الموجود بذاته وعلى الموجود بغيره. أما الوجود المطلق فلا يحمل إلا على الوجود القديم وعلى الموجود بذاته من ذاته ولذاته. ولا شك في ان هذا الضرب من الوجود هو واحد، وهو الذي يصح اسناده إلى الله الذي لا يفتقر في تصوره ولا في وجوده إلى شيء آخر 11.
فإذا انتقلنا من الوجود إلى الإنسان عند ابي عربي، نلاحظ ان كل قضية يمكن ان تبدأ من الإنسان وتنتهي إليه، بل انه جعل الغاية في كل ما كتب أن يدل على عظمة الإنسان الفكرية وأن يشرح أسرار تلك العظمة، وأن ينبه ما غفا منها ويصقل ما صدئ ويرد كل سر منها إلى أصله وخصائصه الذاتية، ويسمو به إلى أعلى ملأ.
يقول ابن عربي في مقدمة كتابه "عنقاء مغرب": "فليس غرضي في كل ما اصنف في مثل هذا الفن معرفة ما ظهر في الكون وإنما الغرض معرفة ما وجد في هذا العين الإنساني والشخص الآدمي" 12.
والإنسان هو الخليفة الذي سخر الله له هذا العالم، ويستشهد ابن عربي في هذا المجال بقوله تعالى: "وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه". وقد خلق على أكمل نشأة وفي أحسن صورة، يقول: "أكمل نشأة ظهرت في الموجودات هي الإنسان، عند الجميع. لأن الإنسان الكامل وجد على الصورة، لا الإنسان الحيوان، والصورة لها الكمال" 13. والصورة هنا تحمل معنى دينياً يشير إليه الحديث النبوي "إن الله خلق آدم على صورته"، كما تحمل معنى فلسفياً هو الذي ذهب إليه ابن سينا ويعني به الكمال الذي يستكمل به النوع 14.
وخلافة الإنسان تترتب عليها مسؤولية كبرى، لأن مصيره بعد الموت مرهون بتصرفه وعمله في هذه الدنيا، خيراً أو شراً، سلباً أو ايجاباً. يقول ابن عربي: "صورة الإنسان بعد الموت تتنوع بتنوع أحواله في الدنيا، فكن على أحسن الحالات تكن على أحسن الصور" 15. وهذا الرأي يعزز موقف ابن عربي كواحد من أنصار الحرية الإنسانية في الفكر الإسلامي، ويدحض رأي من قال إن مذهب الشيخ الأكبر يؤدي إلى إنكار الحرية والإرادة 16.
ما زال لابن عربي اتباع ومريدون في مختلف بقاع العالم حتى يومنا هذا. لأن أعماله تمثل افقاً مفتوحاً هو مزيج من التأمل الفكري والتجربة الوجدانية التي لا يمكن ان يتجرد عنهما الإنسان في كل زمان ومكان. قد نختلف معه أو نتفق في أجزاء مما كتب، لكننا لا نختلف على أن مذهبه شكل منعطفاً كبيراً في تيار الفكر الإسلامي، وعبّر عن محاولة لإنقاذ الحضارة الإسلامية التي بدأ خطها البياني يميل نحو الانحدار، عن طريق تفجير الطاقات الروحية الكامنة في أعماق الناس. أما نجاحه أو فشله في تلك المحاولة فهذه مسألة أخرى تحتاج إلى بحث خاص.
مصادر البحث
1 و2 و3 و4 - د. عثمان يحيى: مقدمة "الفتوحات المكية" لابن عربي، ص 28 - 29، السفر الاول، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1958.
5 - د. محمد مصطفى حلمي: كنوز في رموز، ص 40، الكتاب التذكاري لابن عربي، القاهرة، 1969.
6 - د. أبو العلاء عفيفي: ابن عربي في دراساتي، ص 15، الكتاب التذكاري لابن عربي.
7 - عبدالوهاب الشعراني: اليواقيت والجواهر في معرفة عقائد الأكابر، وبهامشه "الكبريت الأحمر في علوم الشيخ الأكبر"، طبعة الحلبي، القاهرة، 1959.
8 - ابن عربي: الفتوحات المكية، السفر الثاني، الباب 6، الفصل 317، تحقيق د. عثمان يحيى.
9 - الفتوحات، س 3، ف 38، ص 16.
10 - مقدمة الفتوحات، س 3، ص 28.
11 - المصدر نفسه، ص 28، وانظر المعجم الفلسفي، ص 186، مجمع اللغة العربية، القاهرة.
12 - د. عبدالكريم اليافي: التعبير الصوفي ومشكلته، 136، دمشق، 1982.
13 - الفتوحات، السفر 3، ف 14، ص 64.
14 - ابن سينا: رسالة الحدود، ص 7، ضمن "تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات"، تحقيق: د. حسن عاصي، دار قابس، بيروت، 1986.
15 - د. اليافي: التعبير الصوفي ومشكلته، ص 132.
16 - د. ابراهيم مدكور: وحدة الوجود بين ابن عربي وسبينوزا، ص 371، الكتاب التذكاري.
* مدير الدراسات والبحوث - الجامعة الإسلامية، لندن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.