أظهر الكشف الجيني أن الأجناس البشرية أكثر تجانساً من جميع الكائنات الحية الاخرى. ويرجح العلماء أن جميع سكان الأرض نشأوا من مجموعة بشر لا يزيد عدد أفراها عن بضعة آلاف. ويشير تلاحم وتداخل الأعراق الى أن شجرة السلالات البشرية قد تكون أقرب الى عريشة تتقاطع غصونها وتلتقي وتعود تتباعد لتلتقي مجدداً من دون أن تستمر في النمو كتلة واحدة كالشجرة. والسؤال المحير الذي يواجهه علماء الجينوم البشري، هو: "ما الانسان؟ وما الذي يميزه عن باقي الكائنات الحية"؟ عريشة السلالات هل يمكن رسم التاريخ الحقيقي للبشر؟ هذا أحد الأسئلة الكبرى التي يسعى علم الجينات الى الاجابة عنها. ذكر ذلك بحث في المجلة العلمية الأميركية "ساينتفيك أميركان". وأشار البحث الذي أعده مدير "معهد الجينوم البشري" في الولاياتالمتحدة فرانسيز كولنز والباحثة في المعهد كارين جيغاليان الى ان الدراسات التي تمت في العقد الماضي كشفت عن التجانس الكبير بين أجناس البشر. وقد انتشرت الكائنات البشرية في الأرض وتزاوجت بشكل لا يمكن معه تصور شجرة عائلية واحدة تحمل تاريخ البشرية كله. ويستبعد الباحثون أن تشبه صورة تاريخ المجموعات السكانية الشجرة بل تبدو أقرب الى عريشة كرم تتداخل وتتلاحم فروعها بعد فترات من الافتراق. لكن على رغم التنوع الكبير يرى العلماء أن البشر جميعاً نشأوا من مجموعة أفراد قد لا يتجاوز عددهم عشرة آلاف. واستخدم العلماء خريطة الجينات لتتبع مسيرة البشرية بوضوح لم يسبقه مثيل. أحداث كبرى مرت على البشر كالهجرات وتقلص السكان وانتشارهم غيرت التواترات الجينية وجعلتها سجلاً شاملاً للأحداث الكبرى في تاريخ البشرية. ودعمت المعطيات الجينية وجهة النظر التي تقول أن البشر نشأوا من وقت قريب نسبياً قد يراوح ما بين 100 و200 ألف سنة في أفريقيا وانتشروا تدريجياً عبر المنطقة العربية الى باقي أجزاء العالم. واستعان علماء الانسان الأنثروبولوجي بالمعطيات الجينية لفحص التراث الحضاري لاصول مجموعات بشرية محددة، كالغجر لتتبع هجرة البشر الى جزر جنوب المحيط الهادي وقارتي أميركا وفهم موجات انتشار السكان في أوروبا. وستؤدي سهولة استخدام تقنيات الجينات الى كشف المزيد من العلاقات بين المجموعات البشرية وكشف عن تاريخ التداخلات السكانية والهجرات. وتتوقع دراسة "ساينتفيك أميركان" أن تبرهن الجينات على أن الأعراق والأثنيات ليست في الجانب الأكبر منها سوى أفكار اجتماعية وثقافية و"لا وجود علمياً للحدود بين المجموعات البشرية". هل يمكن تتبع الخطوات الرئيسية لتطور الحياة عموماً على الأرض؟ أجل، وهذا ما كشفت عنه دراسات تصنيف الكائنات الحية على أساس الجينات. فالحمض النووي "دنا" DNA يمثل سجل تطور الحياة على امتداد أكثر من 3 بلايين سنة الماضية. ويجري حالياً تصنيف الكائنات الحية على أساس تكوينها الجيني الى 3 مجموعات. المجموعة الاولى، وهي "البدائية" تتكون من عضويات من خلية واحدة، و"البكتريات" و"المتحولة" وهي عضويات تحمل نواة في خلاياها. وكشف التصنيف الجيني عن تفرعات مئات من ممالك الأحياء وامتداداتها. لكن جانباً من الوراثة جعل من الصعب تحديد فروع جميع الكائنات الحية في شجرة واحدة للحياة. ففي كثير من الحالات تفترض الجينات المختلفة تواريخ عائلية مختلفة لنفس الكائنات. سبب ذلك أن الجينات تقفز أحياناً عبر فجوات تطورية واسعة. تساهم في هذا التعقيد أكثر التكوينات الجينية إثارة وغموضاً وهي "الميتوكوندريا" التي تقوم بانتاج الطاقة داخل خلايا الحيوان والنبات. تحتوي "اليمتوكوندريا" التي تتوارث لدى البشر عبر الاناث فقط على مادة جينية تتحدر من بكتيريا ابتُلعت كما يبدو بالكامل من قبل خلايا العضويات المتحولة. وتكشف "الميتوكوندريا" أن شجرة الحياة معقدة كشجرة البشر، وهي مثلها أقرب ما تكون الى عريشة متداخلة مما هي الى شجرة واحدة شاملة. ويتوقع العلماء أن يملأوا في السنوات المقبلة معظم الفراغات في هذه العريشة التي لم تلتحم فروعها أبداً، بل واصلت التفرع والتعرش. ولا يُستبعد عدم التوصل الى فهم كامل لظهور أول كائن حي شرع بالتكاثر ذاتياً. لكن قد يتوصل العلم خلال النصف الأول من القرن الحالي الى معرفة متى وكيف ابتكرت أول السلالات الحية الجينات واتخذتها أساساً لها وحورتها للحصول على أنماط جديدة من التفاعلات البايوكيماوية. في كل هذا يكمن الانقلاب الكامل في علم الأحياء الذي حل الجينات محل العضويات والأنواع الحية باعتباره الوحدة الأساسية لدرس الكائنات الحية. ويتوقع أن يكشف العلماء خلال السنوات القليلة المقبلة أسراراً مثيرة عن مسار الجينات وحركتها عبر الكائنات المختلفة. وقد يقترب العلماء من ايجاد الجواب عن السؤال الذي يشغل البشرية منذ قرون، وهو: "ما الذي يجعلنا بشراً؟ وما الذي يميزنا عن باقي الكائنات الحية"؟