تنظيم جديد لتخصيص الطاقة للمستهلكين    المنتخب السعودي للغطس يحصد 15 ميدالية    خادم الحرمين يأمر بترقية 26 قاضيًا بديوان المظالم    طبخ ومسرح    اطلع على مشاريع التطوير لراحة الحجاج.. نائب أمير منطقة مكة المكرمة يتفقد المشاعر المقدسة    مواقف مشرّفة    «تيك توك» تزيد مدة الفيديو لساعة كاملة    330 شاحنة إغاثية إلى اليمن وبيوت متنقلة للاجئين السوريين    اشتباك بالأيدي يُفشل انتخاب رئيس البرلمان العراقي    زيارات الخير    الأهلي يقسو على أبها بخماسية ويتأهل للنخبة الآسيوية    سمو ولي العهد يستقبل الأمراء والمواطنين    النقطة 60 كلمة السر.. من يرافق القادسية لدوري روشن ؟    الدوري الإنجليزي يحبس الأنفاس حتى الجولة الأخيرة.. مان سيتي يتطلع للقب رابع..وآرسنال ينتظر معجزة    محتالة تحصل على إعانات بآلاف الدولارات    البرق يضيء سماء الباحة ويرسم لوحات بديعة    الماء (2)    جدول الضرب    «التعليم»: حسم 15 درجة من «المتحرشين» و«المبتزين» وإحالتهم للجهات الأمنية    قرى «حجن» تعيش العزلة وتعاني ضعف الخدمات    ضبط أكثر من 16 ألف مخالف لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    المقبل رفع الشكر للقيادة.. المملكة رئيساً للمجلس التنفيذي ل "الألكسو"    27 جائزة للمنتخب السعودي للعلوم والهندسة في آيسف    انطلاق المؤتمر الأول للتميز في التمريض الثلاثاء    «باب القصر»    عبر التكنولوجيا المعززة بالذكاء الاصطناعي.. نقل إجراءات مبادرة طريق مكة إلى عالم الرقمية    للسنة الثانية.. "مبادرة طريق مكة" في مطار إسطنبول الدولي تواصل تقديم الخدمات بتقنيات حديثة    تحدي البطاطس الحارة يقتل طفلاً أمريكياً    دعاهم إلى تناول السوائل وفقاً لنصائح الطبيب.. استشاري: على مرض الكلى تجنّب أشعة الشمس في الحج    مختصون ينصحون الحجاج.. الكمامة حماية من الأمراض وحفاظ على الصحة    جماهير المدينة (مبروك البقاء)!    أهمية إنشاء الهيئة السعودية للمياه !    إطار الابتكار الآمن    أمير عسير يُعزّي أسرة «آل مصعفق»    كيلا يبقى تركي السديري مجرد ذكرى    وزير التعليم: تفوّق طلابنا في «آيسف 2024» يؤسس لمرحلة مستقبلية عنوانها التميّز    كيان عدواني غاصب .. فرضه الاستعمار !    موسكو تتقدم في شمال شرق أوكرانيا    الهلال يحبط النصر..    الخبز على طاولة باخ وجياني    «حرس الحدود» بجازان يحبط تهريب 270 كيلوغرام«قات»    إسرائيل تواجه ضغوطا دولية لضمان سلامة المدنيين    الرئاسة العامة تستكمل جاهزيتها لخدمة حجاج بيت الله الحرام هذا العام ١٤٤٥ه    نيابة عن ولي العهد.. وزير البيئة يرأس وفد المملكة في المنتدى العالمي للمياه    المملكة رئيسا للمجلس التنفيذي للألكسو حتى 2026    199 مليار ريال مساهمة قطاع الطيران في الناتج المحلي    التخصصي: الدراسات السريرية وفرت نحو 62 مليون ريال    "إرشاد الحافلات" يعلن جاهزية الخطط التشغيلية لموسم الحج    توطين تقنية الجينوم السعودي ب 140 باحثا    نعمة خفية    البحث العلمي والإبتكار بالملتقى العلمي السنوي بجامعة عبدالرحمن بن فيصل    قائد فذٌ و وطن عظيم    سفارة المملكة في قرغيزستان تحذر المواطنين بأخذ الحيطة والحذر والابتعاد عن أماكن التجمعات    رئيس جمهورية موريتانيا يغادر جدة    الأمير سلمان بن سلطان يرعى حفل تخرج طلاب وطالبات البرامج الصحية بتجمع المدينة المنورة الصحي    ولي العهد في المنطقة الشرقية.. تلاحم بين القيادة والشعب    «الأحوال»: قرار وزاري بفقدان امرأة «لبنانية الأصل» للجنسية السعودية    جامعة الملك خالد تدفع 11 ألف خريج لسوق العمل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المدينة المقدسة بين 1925 و2000 : القدس تقفل في وجه بلفور وتنتفض ضد شارون
نشر في الحياة يوم 15 - 10 - 2000

في العام 1925، حاول اللورد بلفور، "بطل" الوعد الشهير باسمه، أن يقوم بزيارة للمسجد الأقصى المبارك، محاطاً بالمندوب السامي والجنود الانكليز، غير أن القدس قالت له "لا" بالصوت العالي وبالتظاهرات.
وفي العام 2000، نجح آرييل شارون، "بطل" مجزرة صبرا وشاتيلا، دخول الأقصى من دون أن يستأذن أحداً. فالقدس الآن تحت الاحتلال الاسرائيلي، وساحات الأقصى مكشوفة لأقدام الجنود الصهاينة. وقالت القدس، أيضاً هذه المرة "لا"، كما قالت فلسطين كلها "لا". وهناك أوجه تشابه، وهناك أوجه اختلاف بين الزيارتين.
لنبدأ بالأولى، التي كان يفترض فيها أن تكون قبل 75 عاماً. ولنتذكر قليلاً كيف كان عليه الحال في فلسطين آنذاك.
"زيارة" بلفور
كانت زيارة اللورد بلفور إلى فلسطين في العام الأخير من عهد المندوب السامي البريطاني الأول هربرت صموئيل، وهو الحاكم اليهودي / الصهيوني الذي فاقت خدماته وعطاءاته للمشروع الصهيوني كل أقرانه المندوبين السامين من بعده، إذ تعتبر سنوات حكمه الخمس 1920 - 1925 بمثابة الأوتاد الحديد للوطن القومي اليهودي.
في عهد هذا المندوب السامي الأول تكرست اللغة العبرية لغة رسمية إلى جانب الانكليزية والعربية" وتم استقلال مؤسسات اليهود عن مؤسسات الدولة في إطار الوكالة اليهودية" وحصلت أفضل الامتيازات الاقتصادية، ومن أهمها مشروع روتنبرغ الكهربائي" فضلاً عن البدء بعملية تسهيل انتقال الأراضي إليهم من قبل السلطة الانتدابية" والهجرة إلى البلاد" أما أبرز "الإنجازات" للعيان فكانت إنجازاً عمرانياً وآخر ثقافياً.
الإنجاز العمراني نعني به بشكل أساسي بناء المستعمرات اليهودية على هضاب القدس وضواحيها وهي التي أصبحت تعرف لاحقاً بالمستوطنات. فهذه المستعمرات بدأ تشييدها في عهد هربرت صموئيل، وبني القسم الأكبر منها في عهده. وبلغ عدد المستعمرات التي بنيت في مرحلة الانتداب، 12 أو 16 مستعمرة، وفقاً للمقاييس المعتمدة مساحة وسكاناً" ووصل عددها في عهد المندوب السامي الاول وحده الى 11 مستعمرة وضاحية يهودية.
الإنجاز الثقافي يتلخص في منح اليهود كل التسهيلات لبناء مدارسهم ومؤسساتهم الثقافية، فكانت لهم منذ البداية دائرة يهودية خاصة للإشراف على مدارسهم، ثم كان حفل تتويج استقلالهم الثقافي سنة 1925، بافتتاح الجامعة العبرية على جبل سكوبس، في وقت خضعت مدارس العرب الرسمية وغيرها من المدارس الخاصة لدائرة المعارف البريطانية الانتدابية، ومنع العرب من إنشاء الجامعة الإسلامية التي أقرها المؤتمر الإسلامي في نهاية سنة 1931.
أما فكرة إنشاء الجامعة العبرية فقد انطلقت مع المؤتمر الصهيوني العاشر الذي عقد عام 1911، وانتخب فيه أوتو واربورغ رئيساً للجنة التنفيذية وهو من رجالات "الصهيونية المركبة" التي أطلقها حاييم وايزمان منذ المؤتمر الثامن في لاهاي سنة 1907، والمقصود بها الصهيونية الجامعة لمختلف التيارات وخصوصاً للتيارين المتشاحنين يومذاك، وهما "السياسي" الديبلوماسي الذي أوجده تيودور هرتسل، والتيار "العملي" الذي قاده أوسشكين. ومن أهم قرارات المؤتمر الصهيوني العاشر في الشأن الثقافي قراران: الاول يجعل اللغة العبرية لغة رسمية للصهيونية، وهي اللغة التي لم يكن يعرفها سوى القلة من اليهود المتكلمين بلغات شتى، كما أنها لم تكن كلغة قد تطورت بعد" والثاني قرار بإنشاء جامعة عبرية في القدس. وبعد عامين، أي في سنة 1913، تبنى المؤتمر الصهيوني الحادي عشر خطة لإنشاء الجامعة على جبل سكوبس، وكان من بين الحضور آحاد هاعام، أحد آباء الصهيونية الثقافية، فهو من قال في هذا المؤتمر: "إن أهمية إنشاء جامعة واحدة تضاهي إنشاء مئة مستعمرة".
بعد سنة واحدة قامت الحرب العالمية الأولى، وعمل اليهود الصهاينة كل ما في وسعهم لاستغلال ظروف هذه الحرب المدمرة التي قضت على أربع امبراطوريات في العالم، وتمكنوا من الحصول على الوعد البريطاني بإنشاء وطن قومي يهودي، في 2/11/1917، وذاك هو الوعد الذي ارتبط باسم مرسله اللورد بلفور. وفي 9/12/1917 دخل الجيش البريطاني وقوى رمزية من الحلفاء مدينة القدس. وقام أعيان المدينة برفع العلم الأبيض خوفاً على المقدسات. وابتدأ الحكم العسكري الذي امتد ثلاث سنوات.
خلال هذا العهد العسكري وصلت أول لجنة يهودية صهيونية إلى فلسطين برئاسة رئيس المنظمة الصهيونية العالمية وايزمان سنة 1918، وكان أول من أعلن عن قدومها في مجلس اللوردات البريطاني اللورد بلفور نفسه. فقال أمام زملائه أن اللجنة قادمة لتقصي الأوضاع الحالية للمستعمرات اليهودية في فلسطين، ولتشرف على إصلاح الخراب الذي حل بها في سنوات الحرب. غير أنه كان يراوغ ويكذب، ذلك أن أهم أهداف هذه اللجنة لم يكن مجرد تقصي أوضاع الحاضر، بل دراسة امكانات الأوضاع للمستقبل، ولإرساء دعائم الصهيونية. أما أبرز أعمالها فكانت في التهيئة لإنشاء مجلس يهودي دستوري، وفي إرساء الحجر الأساس للجامعة العبرية على جبل سكوبس. وقامت الجامعة العبرية، سنة 1925، بعد سبع سنوات من وضع الحجر الاساس.
دعا اليهود الصهاينة لحضور حفل الافتتاح حشداً كبيراً من كبار الأساتذة الجامعيين في العالم، ودعوا سياسيين كان على رأسهم بلفور، وفي أثناء وجود اللورد في القدس، اتخذت السلطات الانتدابية أقصى الاحتياطات الأمنية خوفاً من أي عمل يقوم به عرب متحمسون ضده. وأصدرت اللجنة التنفيذية الفلسطينية، التي كان على رأسها موسى كاظم الحسيني، نداء رسمياً للشعب، دعت فيه العرب إلى مقاطعة حفل افتتاح الجامعة العبرية، والمقصود بالعرب هنا القلة من الوجهاء التي كانت تُدعى إلى مناسبات كهذه، كما دعت اللجنة في ندائها العرب إلى الإضراب الشامل يوم وصول بلفور.
فعلاً، أضرب الشعب كله. وتوجه الرجال والفتيان في مدنهم وتجمعاتهم إلى الجوامع والكنائس للصلاة والابتهال. كما صدرت كل الصحف العربية مجللة بالسواد، واحتوت على فقرات بالانكليزية حتى لا يحتاج بلفور إلى مترجم، وراحت تهاجمه بالعناوين البارزة. فكتبت صحيفة الشورى تخاطب بلفور: "لقد أصبحْتَ الصورة المجسدة للظلم، الشبحَ الأسود، والرمزَ الدائم للكارثة في فلسطين".
قبيل تلك الأيام المشحونة بالغضب، طلب المندوب السامي من رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، مفتي القدس الحاج أمين الحسيني، أن يسهل زيارة يرغب بلفور أن يقوم بها للمسجد الأقصى" وظن المندوب أن المفتي لا بد وأن يلبي طلبه بحكم موقعه الرسمي.
أما لماذا كانت السلطات تعتبر منصب الإفتاء منصباً رسمياً، فذلك لأن المندوب السامي كان حل بإرادة بريطانية "عليا" مكان متصرف القدس العثماني في تعيين مفتي القدس من بين الأعضاء الفائزين بالانتخاب" وبالتالي، كانت حكومة الانتداب تتوقع من المفتي أن يكون "مطيعاً". غير أن سيرة المفتي الحاج أمين في عهد الانتداب تتركز حول كيفية تحويله المنصب "الرسمي" ومقر المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى إلى مقر وطني. ولو حدثت زيارة بلفور سنة 1937 مثلاً، لما تجرأ المندوب السامي على طلب الإذن بالزيارة، ولما كان ممكناً لأمثال بلفور أن يفكروا بالقدوم إلى أرض فلسطين أصلاً، فالثورة كانت انتشرت في فلسطين كلها، بقيادة المفتي الحاج أمين.
أما سنة 1925، فكانت سنة هدوء، وما كان العداء للإنكليز تبلور عن تيار معاد مقاوم لهم أساساً، كان العداء العلني ما زال موجهاً نحو الصهاينة وحدهم حتى ذلك التاريخ. أما العداء السري للانتداب والصهيونية معاً، فلم يكن عرف عنه شيء بعد، لكن عرف لاحقاً أنه في تلك السنة كان الشيخ عزالدين القسام يقود خلايا جهاد سرية في مدينة حيفا والشمال، وهي الخلايا التي ابتدأ بتشكيلها منذ مطلع العشرينات بصمت وهدوء، وكان بحاجة إلى عشر سنوات كي يعلن عنها.
هذه الأوضاع العامة لم تسمح للمفتي أن يرد بعنف من اللحظة الأولى برفض الزيارة، لكنه قام بخطوات هادئة ديبلوماسية لم تترك مجالاً لأي اعتراض من قبل المندوب السامي. وراح المفتي يستمهله حتى يقوم باستشارة أعضاء المجلس، وفقاً للأصول، ثم قام فعلاً بجمع أعضاء المجلس وعرض الأمر عليهم.
هل من داع للتأكيد على أن كل أعضاء المجلس اتفقوا على منع الزيارة بأني ثمن؟
هذا السياسي الاستعماري المحنك، اللورد بلفور، لا يمكن السماح له في أن يدنس الحرم الشريف حتى وهو يرتدي قناع العلم والعلماء. رجل كهذا، لا يمكن استقباله في أي مكان، أو حتى السماح له بدخول باحة المسجد الأقصى المبارك.
وهكذا، لم يشعر المندوب السامي إلا والبلاد أضربت احتجاجاً على مجيء بلفور، وما كان له الانتظار طويلاً حتى تلقى الجواب من المفتي باسم المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى بالرفض. غير أن المجلس استمر منعقداً. واستمر يبحث في الوسائل الكفيلة بمنع اللورد من الزيارة اذا اتخذت حكومة الانتداب قرارها باستعمال القوة للدخول.
عن تلك الأيام الدقيقة التي مرت قبل 75 عاماً، روى المؤرخ عجاج نويهض - مفتش المحاكم الشرعية وسكرتير المجلس في تلك المرحلة - روى في مذكراته بعنوان "ستون عاماً مع القافلة العربية"، كيف تمكن المجلس فعلاً من إيصال الرسالة للمندوب السامي بأن أي محاولة لاستعمال القوة من قبل السلطة، سوف تنتهي باستعمال القوة أيضاً من أهل القدس، فقال: "للحرم الشريف بوابات كبرى يتم بواسطتها دخوله. وفوق هذه البوابات المباني الضخمة من عهد المماليك، وتقع هذه البوابات من الشمال والغرب. أما شرقاً وجنوباً، فسور القدس الذي بناه السلطان سليمان القانوني في القرن السادس عشر، هو في الوقت نفسه سور الحرم من هاتين الجهتين. وقد قرر المفتي أن تغلق بوابات الحرم الشريف جميعها، ويقف عندها حراس يمنعون القادم من الدخول. وفي هذه الحال، تكون الحكومة هي المتحرشة بالعرب. ومشعلة فتيل الثورة. فسكتت الحكومة عن الزيارة".
لو تتبعنا تاريخ المسجد الأقصى المبارك طوال القرن العشرين، لوجدناه تاريخاً حافلاً بصد الكثير من محاولات السيطرة، من محاولات حرقه، إلى محاولات هدمه، إلى حفريات ابتدأت ولم تنته بعد. ولوجدنا أن التوقف عند المرات التي قال فيها المقدسيون "لا" لهذا الاعتداء أو ذاك، كثيرة جداً. لكننا قبل التوقف إزاء الخطر المحدق بالأقصى، ننتقل من اليوم الذي حاول فيه بلفور الزيارة، ففشل، إلى اليوم الذي حاول فيه شارون الزيارة، فنجح. ونتساءل: ما هي الأوضاع العامة التي سمحت لشارون أن ينجح؟ وهل تراه نجح؟
"زيارة" شارون
في الذكرى الثلاثين لرحيل جمال عبدالناصر، في 28 ايلول سبتمبر 2000، توافد الفلسطينيون بالمئات من كل أنحاء فلسطين المحتلة لا للصلاة عن روح الزعيم العربي، فالحدث / التحدي بالزيارة المرتقبة لشارون في ذلك اليوم للمسجد الأقصى، كان شغلهم الشاغل، فجاؤوا للتصدي لشارون، ولإفهامه أن للأقصى أبناء يدافعون عنه بأرواحهم، وحتى بصغارهم.
جاء الفلسطينيون في الصباح الباكر من مناطق فلسطين المحتلة وهم يحملون هوياتهم الاسرائيلية حتى لا تقول لهم اسرائيل "لا" على هذا الحاجز أو ذاك، والتقى معهم كل من استطاع الوصول وتخطي الحواجز من بقية أنحاء فلسطين. وربما كان شارون وحده من تذكر في صبيحة ذلك اليوم، في مدينة القدس، أنها الذكرى الثلاثون لرحيل عبدالناصر، وربما اختار هذا اليوم بالذات، عمداً وليس مصادفة. ذلك أن لشارون أسبقيات في توقيت معركة معينة، في يوم معين...
دخل شارون باحة الأقصى محاطاً بجند، قيل إنهم ألف، وقيل ثلاثة آلاف. ولكن... ما أن غادر شارون المكان، حتى ابتدأت المجابهات بين العرب وعناصر الشرطة الاسرائيلية، ابتدأ رشق الحجارة، وما انتهت المواجهات مع انتهاء اليوم، فالانتفاضة بعثت في فلسطين كلها، أو الأصح، أن الانتفاضة عادت للنهوض كما تتوهج النار من تحت الرماد.
ولعل هذه الانتفاضة أو هذه الثورة، وفي خلال الأيام العشرة الأولى منها فقط، هي من الثورات النادرة التي يقتل فيها بدم بارد هذا العدد الكبير من الفتيان والصغار الذين ما كانوا يرشقون عدوهم بغير الحجارة، أو ما كانوا يحملون أي سلاح، كما قتل الفتى الصغير محمد جمال الدرة وهو مع والده يتكومان على جانب طريق. وتشهد الدنيا التي شاهدت مقتل الفتى على شاشات التلفزيون أنه ما كان هناك غير الأب وابنه والرصاص. كان الصغير يحاول الاحتماء خلف جدار، تارة يصرخ بخوف وألم، وتارة يحاول إبعاد الرصاص عن وجهه بيديه، وتارة يختبئ وراء أبيه. تلك صورة لا تمحي من ذاكرة كل من شاهدها. تلك هي صورة فلسطين التي تحاول صد الهجمات الشرسة طوال قرن من الزمان. ولعل هذه الثورة هي الثورة.
إن قصف رام الله وغزة ونابلس وأريحا بالطائرات المروحية ليس مجرد تصعيد تقرر أبعاده ومداه إسرائيل وحدها، فهذه الثورة ما زالت في البدايات، ولكنها مع التجاوب الرائع من عواصم ومدن عربية مشرقاً ومغرباً، ومع وحدة الشعب الفلسطني كما لم تكن في أي يوم مضى، فلن تكون هذه الثورة، إلا الثورة المرتقبة. ولنعد إلى شارون وتصريحه الذي برر فيه زيارته، قائلاً: "أتيت إلى هنا حاملاً رسالة سلام، أؤمن أننا يمكن أن نعيش جنباً إلى جنب مع الفلسطينيين. جئت إلى هذا المكان الذي يعتبره الشعب اليهودي أقدس الأماكن لأطلع على ما يحدث هنا ولتقوية الشعور أننا مستعدون الآن حقاً للمضي قدماً. لم أسع للاستفزاز هنا...".
هل من داع للتوقف كي نقول إن العقل "الصهيوني" عندما يتكلم، لا يتكلم كما تتكلم العقول والعقلاء. هنا يتميز الصهاينة لا اليهود أنهم حقاً "شعب مختار"، لكنهم شعب مختار للمراوغة وظلم الآخر كلمة صهاينة لا تشمل اليهود قاطبة، وتشمل كثيرين من غير اليهود. بلفور مثلاً.
أما تعريفنا للعقل الصهيوني فيمكن تلخيصه في أنه العقل الذي يقول شيئاً، بينما هو يقصد أشياء أخرى مختلفة تماماً، بل ومتناقضة مع الكلمات ومعانيها الظاهرة. وكان إيلان هاليفي، الكاتب اليهودي، أول من تعرض لمثل هذا العقل الصهيوني، من خلال تحليله لتقرير لجنة كاهان. في قوله هذا يدعي شارون أنه لا يريد استفزاز أحد، لكنه في الوقت نفسه يقول إنه جاء إلى "المكان الذي يعتبره الشعب اليهودي أقدس الأماكن"، متجاهلاً كل التجاهل أن المسلمين هم الذين يعتبرونه من أقدس الأماكن لديهم أيضاً.
ثم... إنه يدعي أنه جاء يحمل رسالة سلام، بينما هو يؤكد في هذه الرسالة المقتضبة نفسها أنهم "مستعدون الآن حقاً للمضي قدماً". ولكن للمضي قدماً إلى أين؟ ولماذا؟ أليس للمضي بالمشروع الصهيوني المتكامل؟ فأين إذاً هو السلام الذي يدعيه؟
سؤالنا: ما هي التغيرات الرئيسية التي حدثت ما بين الزيارتين، التي سمحت لشارون أن يفعل ما فعل، بينما لم يجرؤ بلفور على تخطي إرادة المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى، ولا إرادة الشعب الفلسطيني؟
لن نتعرض للتطورات التاريخية. لن نقول إن اسرائيل احتلت ثلاثة أرباع القدس سنة 1948 في حرب اصطلح عليها العرب بأنها حرب نكبة، ثم احتلت كل ما تبقى من القدس ومن فلسطين سنة 1967 في حرب اصطلح عليها العرب بأنها حرب نكسة.
لن نتوقف عند كل الأحداث والمنعطفات التي آلت في النهاية إلى تهويد القسم الأكبر من المدينة المقدسة، ولن نغرق في أحياء وشوارع مدينة "أورشليم" / القدس التي تتوسع وتكبر باستمرار، كمدينة يهودية، على حساب أملاك العرب، وعلى حساب وجود العرب، كما لم يحصل في تاريخ أية مدينة محتلة معاصرة، ولا غابرة.
لكننا... نود التوقف عند الخطر الذي يتهدد المسجد الأقصى، فهذا الخطر قائم منذ العشرينات على الأقل. أوليست ثورة البراق سنة 1929 هي الدليل التاريخي على مجابهة الشعب الفلسطيني لتلك النوايا والأعمال العدوانية، منذ ذاك الزمن؟
ترافق الخطر المتزايد على الأقصى المبارك مع الخطرين الرئيسيين اللذين يهددان عروبة القدس، وتراثها العربي والإسلامي بكامله، وهما الخطر المتجسد بإصدار سلسلة من قوانين جائرة متنوعة للاستيلاء على أراضي الفلسطينيين ليس هناك ما يقابلها في أسوأ العهود الاستعمارية، أولاً: والخطر المتزايد من إقدام السلطات بشكل متواصل على تخفيض عدد السكان العرب بشتى الوسائل التي لا تتوافق مع القوانين والأعراف الدولية، ثانياً.
أما بعد احتلال اسرائيل للقدس كاملة، فقد برز الخطر على المقدسات الإسلامية بوضوح، وهو يتلخص في القضاء على المعالم الأثرية والدينية الإسلامية ما أمكن، تحت أكثر من ستار أحياناً، وعلى المكشوف في أحيان كثيرة، ولم تسلم المقدسات الدينية المسيحية كذلك، لكن لا مصلحة اسرائيلية في إغضاب الفاتيكان والغرب منها، بينما هي تربط بين بقاء الدولة، وإقامة هيكل سليمان في موقع الأقصى. ولم تكن حرب 1967 انتهت بعد، حين ابتدأت اسرائيل بعمليات الهدم والنسف لأحياء كاملة في القدس القديمة، وكان أولها حي المغاربة، لكنه لم يكن الوحيد. وكانت تدعو الصحافة لتشاهد الهدم وتشريد السكان.
كان بن غوريون خطط لمحو المدينة العربية التاريخية كلياً بعد حرب 1967، وإزالة السور نهائياً، ثم بناء الهيكل على أنقاض الأقصى. وارتفعت صيحات يهودية بهدم الأقصى، غير أنه ما كان ممكناً الإقدام على تدميره في مرحلة كان على اسرائيل نفسها أن تتعايش فيها مع حجم تلك الانتصارات العسكرية والسياسية، غير أن المطامع الصهيونية في الحرم الشريف ظهرت بكل وضوح، من أول اعتداء سافر سنة 1968 يوم أشعل فيه النار رجل استرالي قالوا إنه معتوه.
شهدت الثمانينات محاولات عدة من وضع متفجرات، وارتقاء سلالم، وتسلل أفراد متطرفين، ومحاولة تفجير قبة الصخرة، ووضع متفجرات تحت المسجد، وقامت مجابهة سنة 1990 بين فلسطينيين وشبان يهود تسللوا إلى قلب الحرم، وفي هذه المجابهة استشهد 18 فلسطينياً.
وتنصلت الحكومات المتعاقبة من كل مسؤولية عن تلك الأعمال، لكنها لم تتمكن من أن تتنصل من مسؤوليتها المباشرة عن كل أعمال الحفريات وبناء الأنفاق التي تقوم بها دائرة الآثار الاسرائيلية في منطقة الحرم وتحت المسجد الأقصى، وباتت تشكل خطراً جدياً على المسجد قد يؤدي إلى انهياره.
كذلك يصعب تنصل السلطات من مسؤولية وضع الجهاز الالكتروني داخل النفق الذي يتدفق عليه السواح، وفيه تظهر صورة القدس القديمة من دون المسجد الأقصى، وبرز مكانه مجسم الهيكل، حتى الشوارع الشهيرة في القدس العتيقة، اختفت تقريباً وراء طابع يهودي جديد يجعل من القدس القديمة بلدة مختلفة تماماً وذات طابع يهودي صرف.
أما اتفاق أوسلو في 13/9/1993، لم يحسم الجدل القانوني بالنسبة إلى القدس، بل على العكس من ذلك، اضاف إلى وضعها غموضاً، وكل ما ورد بشأنها كان هامشياً في المادة الخامسة التي تحدثت عن مفاوضات الوضع الدائم، غير أن مفاوضات الوضع الدائم ما انتهت حتى مع انتهاء القرن العشرين. وأسوأ ما في اتفاق أوسلو بالنسبة إلى القدس والمقدسات انه لم يكن أكثر من مرجعية قانونية "وهمية"، فالتأجيل كان سيد الموقف، ولا يزال. وهذا ما يثبت أن المطلب الاسرائيلي بتأجيل قضية القدس ليس إلا من أجل فرض سياسة الأمر الواقع. ونكتفي بالإشارة إلى وجه واحد من أوجه سياسة الأمر الواقع. وقلصت اسرائيل مساحة الحرم الشريف وحصرته في البناء نفسه نقصد به المسجدين، الصخرة والأقصى، وهي تدعي السيادة على كل شبر في باحة الحرم الشريف والساحات التابعة له.
فهل من ضرورة للسؤال: كيف دخل شارون إذاً؟ وأين هي المداخل والبوابات التي حرسها المقدسيون سنة 1925 بوجه بلفور؟
الكل يتحدث في مطلع القرن الواحد والعشرين عن المسجد الأقصى، ولكن من يتحدث عن الحرم الشريف كله، عن المسجد الأقصى ومسجد الصخرة معاً، وعن الساحات المحيطة بهما والتابعة لهما، وتبلغ خمس مساحة القدس القديمة التاريخية داخل الأسوار؟ ومن يتحدث عن سائر الأماكن الدينية المقدسة لدى المسلمين؟ إن القضاء على قسم كبير منها، وتغيير معالمها، هو ما سمح باستفراد الأقصى، وكأنه قائد جريح سقط في الميدان من حوله معظم ضباطه وجنوده.
يوم احتلت القدس القديمة سنة 1967، كان هناك 199 أثراً وموقعاً إسلامياً من عهود الأمويين والعباسيين والفاطميين والأيوبيين والممالك والعثمانيين ما زالت قائمة، وهي مواقع جوامع وقبب ومآذن وزوايا وأبواب ومدافن وصهاريج وأروقة وسبل ومدارس وأسواق وقناطر وغيرها" فمن حقق بمصير كل هذه الأماكن والآثار بعد أكثر من ثلاثين عاماً؟ وهل يحتفظ المفاوضون بجدول فيها؟
وكان في القدس القديمة أيضاً سنة 1967 للمسيحيين 60 أثراً وموقعاً مسيحياً من كنائس وأديرة وبطريركيات ومدارس من عهد البيزنطيين حتى القرن العشرين" وكان هناك لليهود 15 موقعاً يهودياً من كنس ومدارس، أنشئت كلها خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، و أقيمت في مبان مستأجرة.
من الواضح أن اسرائيل تتجه نحو التمييز بين المقدسات المسيحية والمقدسات الإسلامية حتى تكون هناك مرجعية مسيحية مسؤولة عن كنيسة القيامة وسائر المقدسات المسيحية في القدس، وأما عن المقدسات الاسلامية فلا بوادر للاعتراف بمرجعية اسلامية. حتى الحديث في أعقاب اتفاق أوسلو واتفاق وادي عربة بشأن احتمال إضفاء المسؤولية إما على الأردن أو السلطة الفلسطينية، فلا بوادر على أنه ما زال وارداً.
في ظل انعدام الوزن هذا قام شارون بالزيارة، ونجح في دخول الأقصى مع كل تلك الحراسة، غير أن اسرائيل لم تنجح بعد من الخروج من الهوة التي أوقعها فيها شارون، والخط الذي يتبناه شارون، ومن هم على شاكلته. وفي ظل انعدام وزن مشابه، كان شارون نفسه هو الصهيوني الذي اتخذ له بيتاً في قلب المنطقة الإسلامية في القدس القديمة، سنة 1987. وليس قصده الرئيسي في الحالتين سوى إفهام المسلمين جميعاً أن تلك الاحياء القديمة الاسلامية التاريخية لن يبقى لها من وجود.
في المؤتمر القومي - الإسلامي الأخير الذي عقد قبل عام في بيروت، قدم اقتراح بضرورة إيجاد مرجعية اسلامية عليا للإشراف على المقدسات الإسلامية في القدس. وليس المقصود بها لجنة رسمية من دول إسلامية، بل من مرجعيات دينية إسلامية تضم مبدئياً علماء دين مسؤولين من الأزهر الشريف والنجف الأشرف والحوزات الدينية في قُم، وغيرهم من علماء المسلمين... وضم الاقتراح إلى الملفات.
أما شارون من خلال زيارته للأقصى، فهو ساهم في فتح مثل هذه الملفات من دون أن يدري، ومن دون أن يدري أيضاً فتح الباب واسعاً أمام المجاهدين كي يبرهنوا على أن مسؤولية حماية كل المقدسات الإسلامية. وأينما كانت. أمانة في عنق كل مسلم، وتلك هي أهمية العملية الجهادية التي قام بها عناصر من حزب الله بأسر ثلاثة جنود اسرائيليين من مزارع شبعا.
أين هي حدود مزارع شبعا من المسجد الأقصى؟ من حدود القدس؟ هذه الحدود ليست حدوداً. ومثل هذه الأرض أو تلك، مثل شبعا أو القدس، مثل مكة أو الرباط، هذه الأرض كلها في قلب المسلم المؤمن، والعربي المؤمن، أرض واحدة. ومن يحافظ على مزارع قرية في وطنه الصغير، يحافظ على أقدس المقدسات في وطنه الأكبر. وذاك هو التلاقي الإيماني والوطني العفوي ما بين أرض الجنوب اللبناني المجاهدة، وأرض فلسطين الصامدة منذ قرن من الزمان. وتلك هي اللحظة البالغة الحساسية التي مرت كما يمر البرق أو الشهاب، فاستطاع مجاهدو حزب الله أن يلتقطوها، ونعني بها لحظة القول بالصوت العالي والشجاع بأن المقدسات الاسلامية كلها في فلسطين تدعو كل المسلمين للحفاظ عليها. تلك هي اللحظة التي ما كان لها أن تكون، لو أن شارون نجح في زيارته حقاً.
ونختم بالقول إنه من أبرز المفارقات بين الزيارتين، 1925 و2000، أن المجاهدين الحقيقيين من أمثال الشيخ عزالدين القسام وصحبه، كانوا قبل 75 عاماً يعملون بكل صمت وسرية. أما اليوم، فالمجاهدون الحقيقيون في وضح النهار، لكنهم في واقع الأمر، يجاهدون تماماً كما كان القسام يجاهد، بكل صمت وسرية.
* مؤرخة فلسطينية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.