كانت حركة ثورية اثارت في ذلك الحين دهشة العالم وحماس كل الثوريين فيه، كما أثارت من ناحية أخرى مخاوف العديد من الأطراف والأفراد والجماعات. وكانت حركة اثارت السجالات العنيفة بين المخاصم والمناصر في طول العالم وعرضه. أصحابها أطلقوا عليها اسم "الثورة الثقافية"، ولكن حسبنا اليوم ان نقرأ شهادات الجيل الذي عاشها وشارك فيها او كان ضحيتها، لكي ندرك كم ان "ثوريتها" و"ثقافيتها" لم تكونا في نهاية الأمر سوى غطاء ايديولوجي واه لصراعات على السلطة كانت معتملة في قمة هرم الحكم الصيني، سواء أكان ذلك في صفوف قيادات الحزب الشيوعي، او في أوساط أعيان الحكومة. والحال ان شهادات الجيل الذي انتمى الى تلك "الثورة الثقافية" تحاول ان تقول، بعد كل شيء، بأن الصين لم تعرف في تاريخها الحديث حقبة تبدت اكثر قسوة واجهاماً من حقبة "الثورة الثقافية"، مما يتناقض بالطبع مع صورة الحماس الكبير الذي ساد الشبيبة الصينية بأسرها يوم اندلعت تلك الثورة وجعلت - خاصة - الشبيبة الصينية تعتقد انها هي سيدة الموقف، وقد تسلحت، الى حماستها الشديدة وحميّاها الثورية، بكتاب ماوتسي تونغ الأحمر الذي سيدخل منذ ذلك الحين تاريخ القرن العشرين باعتباره واحدة من كبار أساطيره. اشارة البدء لاندلاع "الثورة الثقافية" أتت يوم الثاني عشر من آب اغسطس 1966 خلال الجلسة الختامية للدورة الحادية عشرة التي عقدتها اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني. وكانت تلك الجلسة قد اسفرت عن الموافقة "الجماعية" على مجمل القرارات التي كان ماوتسي تونغ قد اتخذها قبل ذلك، وفي مقدمتها قراران هما الأساسيان: قرار يقضي بالابتعاد اكثر وأكثر عن موسكو باعتبارها محكومة، الآن، بحزب وقيادة تحريفيين، وقرار يدعو الى القيام بحملة "تطهير ثقافي" داخل صفوف الحزب. وكان من الواضح ان هذا القرار الثاني كان هو الأساس، لأنه في خلفية الدعوة الى احداث تبدل أساسي في العوائد المتبعة في المجالات الاقتصادية والسياسية كافة انطلاقاً من شعار يدعو الى القيام بپ"خطوة كبيرة إلى الامام" كان من الواضح ان القرار يستهدف تصفية العديد من القيادات التي كان ماوتسي تونغ راغباً في التخلص منها، او بشكل اكثر تحديداً كان راغباً في التخلص من جناح في الحكم ينسب نفسه الى ماو ويريد ان يستفيد من ذلك لتسجيل انتصار تاريخي. إذن، بالاختباء وراء ماو وتعاليمه، تحولت مدن الصين، وفي مقدمتها بكين منذ صباح ذلك اليوم نفسه الى بؤرة ثورية حماسية غريبة الأطوار، إذ غزت الشوارع جماعات من الشبان تقدر اعدادها بمئات الألوف، وهم يبشرون بانبثاق فجر صيني جديد، وقيام نمط عيش مختلف عن كل ما عرفته الصين قبل ذلك، وكان السلاح الوحيد الذي يرفعه اولئك الشبان العابقون بالحماس كتاب ماو الصغير الأحمر. فما الذي كان اولئك الشبان يدعون اليه بشكل عملي؟ كانوا يدعون الى ترك الأسلوب الغربي في الميادين التجارية وفي أسلوب عمل المقاهي والمطاعم، وهم بدلوا أسماء الشوارع التاريخية محملينها، على سبيل التسمية الجديدة، شعارات ثورية رنانة، وعلقوا في الشوارع يافطات وملصقات ضخمة تدعو الى "اعلان الحرب على العالم كله"، وراحوا ينددون بتعاليم كونفويوس، وبالأدب البورجوازي وبهيمنة القوتين الامبرياليتين: الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، على العالم. وفي الوقت نفسه راح الشبان المتحمسون الذين اطلقت عليهم وكالة الأنباء الصينية "كسنهوا" اسم "الحرس الأحمر" راحوا يهاجمون الكنائس المسيحية الموجودة في الصين ويرفعون البيارق واليافطات الحمراء فوق جدران وسطوح تلك الكنائس. وراحت أدبيات السلطة وصحافتها تصف اولئك الشبان بأنهم "شبان شجعان طيبون" باتوا الآن في "طريقهم الى تحويل بكين وغيرها من مدن الصين الى مدن بروليتارية حقاً وثورية حقاً".