نار «الأصلية» أم هجير «التشاليح» ؟    492 ألف برميل نفط يومياً وفورات يومية    مقامة مؤجلة    هوس «الترند واللايك» !    صعود الدرج.. التدريب الأشمل للجسم    تقنية مبتكرة لعلاج العظام المكسورة بسرعة    التنفس بالفكس    أمير حائل يرفع التهنئة للقيادة نظير المستهدفات التي حققتها رؤية المملكة 2030    مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة صاحب السمو الملكي الامير خالد الفيصل يهنئ القيادة نظير ماتحقق من مستهدفات رؤية 2030    افتتاح المعرض التشكيلي "الرحلة 2" في تناغم الفن بجدة    أمير جازان ونائبه يهنئان القيادة بما تحقق من إنجازات ومستهدفات رؤية المملكة 2030    60 مزارعا يتنافسون في مهرجان المانجو    هيئة السوق المالية تصدر النشرة الإحصائية للربع الرابع 2023م.    الصحة: رصد 15 حالة تسمم غذائي في الرياض    "أوبرا زرقاء اليمامة" تبدأ عروضها بحضور عالمي    الهمس الشاعري وتلمس المكنونات    الأخضر تحت 23 عاماً يواجه أوزبكستان في ربع نهائي كأس آسيا    أمين الرياض يحضر حفل السفارة الأميركية    تحول تاريخي    المملكة تبدأ تطبيق نظام الإدخال المؤقت للبضائع    العين يكشف النصر والهلال!    تشجيع الصين لتكون الراعي لمفاوضات العرب وإسرائيل    خلط الأوراق.. و«الشرق الأوسط الجديد»    فلسطين دولة مستقلة    محمية الإمام تركي تعلن تفريخ 3 من صغار النعام ذو الرقبة الحمراء في شمال المملكة    الفيحاء يتجاوز الطائي بهدف في دوري روشن    تفكيك السياسة الغربية    القيم خط أحمر    لو ما فيه إسرائيل    نائب أمير الشرقية يستقبل نائب رئيس جمعية «قبس»    مقال «مقري عليه» !    موعد مباراة الأهلي القادمة بعد الخسارة أمام الرياض    الكشف عن مدة غياب سالم الدوسري    أرامكو السعودية و«الفيفا» يعلنان شراكة عالمية    ريال مدريد في مواجهة صعبة أمام سوسيداد    مانشستر سيتي يضرب برايتون برباعية نظيفة    النواب اللبناني يمدد ولاية المجالس البلدية والاختيارية    الهجوم على رفح يلوح في الأفق    سلمان بن سلطان يرأس لجنة الحج والزيارة بالمدينة    رئيس الشورى يرأس وفد المملكة في مؤتمر البرلمان العربي    حزمة الإنفاق لأوكرانيا تشكل أهمية لمصالح الأمن الأمريكي    وزير الدفاع يرعى حفل تخريج الدفعة ال82 من طلبة كلية الملك عبدالعزيز الحربية    أمير القصيم يثمن دعم القيادة للمشروعات التنموية    إطلاق برنامج تدريبي لطلبة تعليم الطائف في الاختبار التحصيلي    مريض سرطان يؤجل «الكيماوي» لاستلام درع تخرجه من أمير الشرقية    "ذكاء اصطناعي" يرفع دقة الفيديو 8 أضعاف    مستشفى ظهران الجنوب يُنفّذ فعالية "التوعية بالقولون العصبي"    «رؤية 2030»: انخفاض بطالة السعوديين إلى 7.7%.. و457 مليار ريال إيرادات حكومية غير نفطية في 2023    أمير عسير يعزي الشيخ ابن قحيصان في وفاة والدته    استمرار هطول أمطار رعدية مصحوبة برياح نشطة على المملكة    تسليم الفائزات بجائزة الأميرة نورة للتميُّز النسائي    أدوات الفكر في القرآن    إنشاء مركز لحماية المبلغين والشهود والخبراء والضحايا    النفع الصوري    أسرة البخيتان تحتفل بزواج مهدي    انطلاق "التوجيه المهني" للخريجين والخريجات بالطائف    تجهيز السعوديين للجنائز «مجاناً» يعجب معتمري دول العالم    تحت رعاية الأمير عبد العزيز بن سعود.. قوات أمن المنشآت تحتفي بتخريج 1370 مجنداً    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



غابريل غارسيا ماركيز : "في اغسطس نرى بعضنا"
نشر في الحياة يوم 07 - 07 - 1999

هذه المرة، على غير عادته، كشف الكاتب الكولومبي غابريل غارسيا ماركيز عن مضمون كتابه المقبل. ففي 18 آذار مارس، فاجأ صاحب "مئة عام من العزلة"، الجمهور الذي حضر اللقاء التقليدي الذي يقيمه "بيت أميركا" لمناقشة القضايا المتعلقة بثقافة شبه الجزيرة الايبيرية البرتغال واسبانيا وأميركا اللاتينية بقراءة القصة القصيرة الأولى من كتابه الجديد.
"في اغسطس نرى بعضنا" التي نشرت في مدريد في 21 آذار 1999، هي القصة الأولى من رواية قصيرة Novela في مئة وخمسين صفحة مع أربع قصص قصيرة أخرى. ووفق تصريح وكيلته الأدبية الاسبانية روزا، فإن القصص الخمس، ربما بدت مغلقة على نفسها بصورة كاملة، لكنها تشكل شخصية محورية واحدة: "أنا ماغديلنيا باخ"، في نهايات العقد الثالث من عمرها، تسافر كل عام في السادس عشر من آب اغسطس إلى القرية الصغيرة، حيث دفنت أمها، في مقبرة الفقراء، لكي تحدثها عن أمورها وتحمل إليها باقة من زهور "ذيل الحصان". وفي القصة التي ترجمناها قرأها ماركيز في ذلك اللقاء، تعيش في الرحلة الأولى مغامرة عاطفية لم تتوقعها في تغيّر حياتها.
لم يتحدث ماركيز عن حيثيات القصة، بل يبدو أنه ألقى هذه المرة كل شيء على عاتق وكيلته الأدبية، التي تحدثت عن "أنا ماغديلنيا باخ" بوجد، مؤكدة ان القراء سيستطيعون عند نشر الكتاب، أن يعرفوا المرأة، وبعد رجوعها إلى بيتها، ستعي أنها كانت شخصية تختلف عن الشخصية التي تصورتها عن نفسها حتى وقوعها في المغامرة العاطفية، وأنها امرأة ستعيش طوال العام بذهول دائم، مقتنعة بأنها عندما تعود في آب لزيارة قبر أمها، سيحدث لها شيء ما.
وحسب كلام الوكيلة الادبية لماركيز، ففي القصص الأخرى، ستعيش ماريا ماغدلينا باخ، مغامرات جديدة، حتى تقع في حب رجل آخر. "المرأة تسبب الأزمات"، وذلك رأي ماركيز أيضاً، الذي - وفق تصريحاته - يشعر بالاقتناع بالطريقة التي اشتغل فيها هذا الجزء.
والمعلومات التي افصح فيها الكاتب شحيحة، لكنها تلقي القليل من الضوء على كتابه، الذي ربما سيحمل العنوان الموقت "في اغسطس نرى بعضنا".
الأمر الأكيد الذي يعرفه الكاتب حتى الآن ان هذه القصة ستشكل جزءاً من كتاب سيضم ثلاث روايات قصيرة أخرى بالحجم ذاته 150 صفحة، وانتهى من كتابتها منذ زمن، ومن المحتمل أن يحتوي الكتاب على رواية قصيرة رابعة، إذ خطرت على باله فكرة تغريه بكتابتها. والموضوع المسيطر على الكتاب هو معالجة قصص حب للكبار في السن. وقبل ظهور الكتاب هذا، سينشر الكاتب الجزء الأول من مذكراته عند نهاية هذا العام.
عادت إلى الجزيرة يوم الجمعة 16 آب في مركب الساعة الثانية بعد الظهر. كانت تلبس بلوزة ذات رسوم اسكتلندية وبنطلوناً من الجينز وحذاء بسيطاً بكعب واطي من دون جوارب، وقبعة مسطحة وحقيبة وحيدة، على شكل حقيبة بلاج صغيرة.
عند موقف المرفأ للتاكسيات ذهبت مباشرة باتجاه تاكسي قديم مقشر الطلاء بسبب ملح البارود. استقبلها السائق بتحية كأنه أحد المعارف القدماء، فحملها معه عبر الطريق الذي يحدث اهتزازات في قرية الهنود، قرية البيوت المنهدة، التي سقوفها من سعف النخيل، وشوارعها من رمل أبيض، في مواجهة بحر حارق. كان عليه أن يسوق على شكل قفزات لتجنب الخنازير الباسلة والأطفال العراة، الذين كانوا يسخرون منه بحركات مصارعي الثيران. في نهاية القرية وقف التاكسي عند ممر مشجر بنخلات حقيقية، حيث كانت الفنادق السياحية، بين البحر المفتوح وبحيرة داخلية مسكونة باللقالق الزرقاء. أخيراً توقفت عند فندق قديم بائس.
كان البواب ينتظرها بمفاتيح الغرفة الوحيدة في الطابق الثاني المطلة على البحيرة. صعدت الدرجات العريضة التي سعتها أربعة خطوات، ودخلت الغرفة الفقيرة المليئة برائحة قوية لمبيد الحشرات واحتلها كلها تقريباً الفراش الزوجي الضخم. أخرجت من الحقيبة علبة الزينة وكتاباً غير مقطوع الحواشي وضعته فوق طاولة بجانب السرير. أخرجت قميص نوم من الحرير، وردياً ووضعته تحت المخدة. أخرجت وشاحاً من الحرير عليه صور طيور اتسوائية، وقميص أبيض بردنين صغيرين وبعض أحذية تنس مستعملة، وحملتها إلى الحمام مع علبة الزينة.
قبل أن تتزين نزعت القميص الاسكتلندي، وخاتم الزواج والساعة الرجالية التي كانت تستخدمها في الذراع الأيمن، وعملت تطهيرات سريعة للوجه لكي تغسل غبار الرحلة وتطرد نعاس القيلولة.
عندما انتهت من تفحص نفسها في المرآة وتجاويفها الدائرة العالية على رغم اجهاضها مرتين، قبل زمن طويل، عندما كانت في العقد الثالث من عمرها. مطت الوجنتين إلى الخلف بأطراف يديها لكي ترى كيف كانت في شبابها، ورأت قناعها ذاته بالعينين الصينيتين، والأنف المدبب والشفتين المتوترتين.
مرت من الأعلى عند التجاعيد الأولى في الرقبة، حيث لا يمكن تجنبها، وتطلعت إلى الأسنان الكاملة المنظفة بالفرشاة منذ تناول الغذاء في المركب. دعكت نفسها بوعاء مضاد لرائحة عرق الأبطين المحلوقين منذ وقت قريب ولبست بلوزة من القطن طرية مطرزة الكمين بحروف AMB. فتحت بالفرشاة الشعر الهندي، الطويل حتى الكتفين، وشدت ربطة ذيل حصان بشال الطيور. لكي تنتهي، رفقت الشفتين بقلم شفاه من الفازلين البسيط، ولمست بلسانها لكي تصقل الحواجب الطويلة، ورشت نفسها بعطرها خلف كل اذن وواجهت في النهاية المرآة بوجهها: وجه أم في خريفها. الجلد، دون قناع جميل، دافع عن نفسه بلونه الأصلي، والعينان من الياقوت الأصفر لا يُحسب لهما عمر، بالرمشين الغامقين البرتغاليين. درست نفسها بعمق، وحكمت دون رحمة ووجدت نفسها جيدة.
كان اسمها آنا ماغديلينا باخ، كانت أكملت اثنين وخمسين عاماً، ثلاثة وعشرون قضتها متزوجة سعيدة مع رجل كان يعشقها، تزوجت من دون أن تضطر إلى قطع دراستها الأدب، كانت لا تزال عذراء من دون علاقات حب من قبل. كان أبوها مدرساً للموسيقى واستمر في وظيفة المدير لمعهد الموسيقى الاقليمي حتى بلغ الاثنين والثمانين. وكانت أمها مدّرسة مثقفة في المدارس الابتدائية الجبلية.
آنا ماغديلينا ورثت منها رشاقة العينين الصفراوين، ومهارة الكلمات القليلة والفطنة لإخفاء طبيعتها. رغبتها في أن تدفن في الجزيرة، شرحتها لها قبل ثلاثة أيام من موتها. آنا ماغديلينا كانت ترغب بمصاحبتها، منذ الرحلة الأولى، لكن لم يبد ذلك حصيفاً لأحد، لأنها نفسها لم تعتقد أنها ستبقى على قيد الحياة. على رغم ذلك، عند مناسبة السنة الأولى، حملها أبوها إلى الجزيرة لكي يضع شاهدة القبر. أذهلها العبور بمشحوف له ماطور خارجي عند الحافة واستغرق اربع ساعات تقريباً من دون لحظة سكون واحدة لعبور البحر. اعجبت بالشواطئ الرملية المذهبة عند الحافة نفسها للغابة العذراء، ضوضاء صاعقة الطيور والطيران الخيالي للقالق في الماء الراكدة في البحرية. لكن أحزنها بؤس الضيعة، حيث كان عليهم ان يناموا بسبب رداءة الطقس في "كلة" معلقة بين شجرات جوز الهند، وعدد الصيادين السود ذوي الأذرع المشوهة بسبب الاستخدام الدائم لعقب الديناميت. على رغم ذلك، فهمت رغبة أمها عندما رأت بريق العالم من قمة المقبرة. كانت تلك اللحظة عندما ارغمت نفسها على واجب حمل باقات من الزهور إلى أمها طوال تلك السنوات.
آب الشهر الأكثر حراً كل عام، شهر وابل الأمطار الغزيرة، لكنها أدركت أن ذلك واجب عليها تنفيذه دون غياب. كان هذا الشرط الوحيد الذي فرضته على زوجها قبل الزواج منه، وكان فطناً فاعتبر ذلك شيئاً بعيداً عن سلطته.
هكذا كانت آنا ماغديلينا ترى سنة بعد سنة نمو تراكمات فنادق الزجاج السياحية، فهي عبرت عن مشاحيف الهنود الحمر حتى مراكب الماطورات، ومن هذه إلى العبّارات، وكانت تعتقد بأن عندها الأسباب لكي تشعر مثل شعور أكثر المعمرين من سكان القرية.
تلك الظهيرة، عندما رجعت إلى الفندق، تمددت في الفراش من دون ملابس، عدا اللباس الداخلي المطرز بالحرير، وأعادت قراءة الكتاب الذي كانت بدأت به خلال الرحلة. "دراكولا"، الكتاب الأصلي لبران ستوكير. كانت دائماً قارئة جيدة. كانت قرأت بصرامة أكثر مما يعجبها، مثل "دليل الأعمى" لتورميس، والشيخ والبحر والغريب. في السنوات الأخيرة، على حافة الخمسين، كانت تنغمس عميقاً في قراءة الروايات الخيالية.
"دراكولا" أعجبها منذ البداية، لكن تلك الظهيرة، أسلمها إلى الارتعاد المستمر للمروحة المعلقة في الفضاء الوردي، وظلت نائمة والكتاب على صدرها. استيقظت بعد ساعتين وهي محلقة في الخيال، ينزّ عنها العرق غزيراً، بمزاج سيء وجائعة.
لم يكن استثناء في روتين سنواتها، كان بار الفندق مفتوحاً حتى العاشرة ليلاً، ونزلت مرات عدة لتأكل أي شيء قبل أن تنام. لاحظت ان هناك زبائن أكثر من العادة في هذه الساعة، والنادل لا يشبه النادل السابق. طلبت سندويتشاً من شرائح السجق مع الجبن على قطعة خبز محمصة، وقهوة بالحليب. فيما حملوا تلك الأشياء إليها، خطر على بالها أنها كانت محاطة بالزبائن أنفسهم، كبار السن في الفندق الوحيد.
انتهت بسرعة، لأنها أكلت وحدها، لكنها شعرت بارتياح بسبب الموسيقى، التي كانت رقيقة وخفيفة، والطفلة كانت تجيد الغناء. عندما رجعت وحدها بقي ثلاثة أشخاص عند طاولات متفرقة، في مواجهتها، رجل لم تكن رأته يدخل قبل ذلك. كان يلبس الكتان الأبيض، كما في الأزمان الماضية التي عاش فيها أبوها، بالشعر المعدني والشنب الذبابي. كانت على طاولته زجاجة وكأس وكان يبدو وحيداً في العالم.
شرع البيانو ب"وضوح القمر" لدبوسي بتوافق جيد للحن "البوليرو"، والطفلة الهجينة غنته بحب. طلبت آنا ماغديلينا جيناً مع الصودا والثلج، المشروب الكحولي الوحيد الذي كانت تسمح به لنفسها بين الحين والآخر، وكانت تشعر بالراحة عند شربه. كانت تعلمت على قطف ثماره لوحدها مع زوجها، وكان يتصرف معها بكياسة ومشاركة عاشق سري.
العالم تغير منذ أول رشفة. شعرت بنفسها منتعشة، فرحة، ومؤهلة لكل شيء، ومزينة بسبب الخلط المقدس بين الموسيقى والكحول. كانت تفكر بأن الرجل وراء الطاولة المواجهة لم ينظر إليها، لكن عندما نظرت إليه للمرة الثانية بعد الجرعة الأولى من الجين، فاجأها وهو ينظر إليها خجلاً. هي، بالمقابل، ركزت عليه النظرة فيما تطلع هو إلى الساعة، راقبها بنفاد صبر، تطلع باتجاه الباب، صب كأساً آخر، مبهوراً، لأنه كان على وعي أنها تنظر إليه. عندما تطلعت إليه مباشرة، ابتسمت له دون تحفظ، حياها بميل خفيف من رأسه. عندئذ نهضت، سارت حتى طاولته.
- هل بإمكاني ان أدعوك إلى كأس؟
- سيكون شرفاً. قال.
- سيكفيني ان يكون ذلك نشوة - قالت.
لم يكن انتهى، عندما كانت تجلس عند الطاولة، وخدمت نفسها بجرعة من كأسه، فعلت ذلك وبأسلوب جيد، حتى أنه لم ينجح في سحب الزجاجة منها لكي يخدمها. صحة، قالت. وتناولا الكأس فجأة.
غص وسعل إلى ان سالت دموعه. وحافظ الاثنان على صمت طويل حتى جفف نفسه بالمنديل واستعاد صوته، فتجرأت وسألت:
- هل أنت متأكد من أن لا أحد سيأتي؟
- كلا.
تابعت مراعاته بلباقتها الرقيقة. حزرت معه بتكهن سنه، وأخطأت بسنة واحدة أكثر: ست وأربعون. حزرت باكتشاف بلده الأصلي من خلال لهجته، لكنها لم تتأكد على رغم محاولات ثلاث. حاولت التكهن بوظيفته، لكن هو الذي استعجلها بقوله إنه مهندس مدني، فشكت بذلك.
تحدثا عن جرأة تحويل "البوليرو" في قطعة لديبوسي، لكنه لم يكن مر في "الدانوب الأزرق". حدثته أنها تقرأ "دراكولا". هو قرأها فقط عندما كان طفلاً في مختصر للأطفال، وما زال منذهلاً من فكرة ان الكونت نزل في لندن فتحول إلى كلب. عند الجرعة الثانية شعرت هي بأن المشروب "ضربها" مع الجين عند جزء ما من قلبها، وعليها ان تركز لكي لا تفقد رأسها. انتهت الموسيقى عند الحادية عشرة، وكانوا ينتظرونهما لكي يخرجا.
عند هذه الساعة تعرفت إليه كما لو كانت تعيش معه منذ زمن. كانت تعرف أنه نظيف، لا يخلو من عيب في اللبس، بيدين بيضاوين مشدودتين. خطر على بالها أنها كانت مرتبكة بسبب العينين الصفراويين حتى أنها لم تنصرف عنهما، وأنه كان رجلاً طيباً وخجولاً. شعرت بالشيطان يدفعها كفاية لكي تبدأ هي الخطوة التي لم تخطر على باله في أحلامه ولا طوال حياته، وقالت له من دون غموض:
- نصعد؟
قال بإذعان متناقض:
- لا اسكن هنا.
لكنها لم تنتظر حتى يكمل جملته، نهضت، هزت بالكاد رأسها لكي تطرد تأثير الكحول، وعيناها المحترقتان التمعتا.
- أنا أصعد أولاً، وتدفع الحساب حضرتك. الطابق الثاني، رقم الغرفة 203، عند يمين السلم. لا تدق، ادفع الباب فقط.
صعدت إلى الغرفة في نشوة حلوة لم تشعر بها منذ ليلتها الأخيرة كعذراء. شغلت المروحة. تعرت في الظلام. تركت الملابس على الأرض تباعاً من الباب حتى الحمام. عندما أشعلت لمبة خوان الزينة، كان عليها أن تغمض عينيها وتتنفس بعمق وبجهد لكي تنظم التنفس وتراقب ارتعاش يديها. اغتسلت بسرعة، فهي على رغم العرق في الظهيرة، لم تفكر بالاستحمام حتى ساعة النوم. لا وقت لتنظيف أسنانها بالفرشاة، وضعت في فمها قطعة من معجون الاسنان، ورجعت إلى الغرفة، المضاءة بالكاد بالضوء الخابي لخوان الزينة.
لم تنتظر أن يدفع مدعوها الباب، فتحته من الداخل عندما شعرت به قادماً. زفر هو: "آه أمي!" لكنها لم تعطه وقتاً في الظلام. نفضت عنه السترة بضربات متحمسة، نزعت عنه ربطة العنق، والقميص، وراحت ترمي كل شيء إلى الأرض من فوق كتفها. فيما كانت تفعل ذلك، كان الهواء يتسرب برائحة قوية لماء الصندل. حاول في البداية مساعدتها، لكنها منعته بجسارتها وسلطتها. عندما امتلكته عارياً حتى الحزام، أجلسته فوق الفراش وركعت لتنزع عنه الحذاء والجوارب. فك في الوقت نفسه الحزام من دون ان يهتم أي منهما بخيط المفاتيح وحفنة الأوراق النقدية التي سقطت إلى الأرض. ساعدته على نزع ملابسه ....
سألها:
- لماذا أنا؟
- بدوت لي رجلاً جداً.
- إنه لشرف لي.
...
دقت الساعة الثانية عندما ايقظها رعد هزّ مزلاجي الغرفة، فعجلت باغلاقها، وعند منتصف النهار رأت البحيرة المجعدة، وعبر المطر رأت القمر الضخم في الافق واللقالق الزرقاء ترتفع في العاصفة. عند رجوعها إلى الفراش اعترضت طريقها ملابسهما. تركت ملابسها على الأرض لرفعها لاحقاً، وعلقت سترته على الكرسي، علقت فوقها القميص وربطة العنق، ثنت البنطلون لكي لا تتجعد خطوطه، ووضعت فوقه المفاتيح والسكين والنقود التي سقطت من الجيوب. هواء الغرفة كان ينتعش بسبب العاصفة، لبست القميص الوردي من الحرير الخاص. الرجل، ينام منطرحاً، بساقين مضمومتين، بدا لها مثل يتيم ضخم، ولم تستطع مقاومة الشفقة فحضنته. أخرج هو نفساً طليقاً وبدأ بالشخير. وما أن نامت، حتى استيقظت في فراغ المروحة الكهربائية عندما اختفى الضوء والغرفة بقيت تحت الفوسفور الأخضر للبحيرة.
كان يشخر حينها بصفير مستمر. بدأت بالضرب على ظهره بأطراف أصابعها لمجرد العبث. بطّل الشخير بشخرة واحدة ....
عند الفجر، جثت برهة قصيرة على وجهها بعينين مغمضتين، من دون التجرؤ على ذكر نبض الألم في صدغها ولا الطعم السيء للنحاس في الفم، خوفاً من ان تكون تنتظرها هناك مفاجأة مجهولة في الحياة الواقعية. عبر ضجيج المروحة خطر على بالها بأن الضوء عاد وان حجرة النوم كانت واضحة بسبب فجر البحيرة.
فجأة ومثل صاعقة الموت، صعقها الوعي المرعب بأنها كانت زنت ونامت للمرة الأولى في حياتها مع رجل لم يكن زوجها. عادت مرعوبة لكنه لم يكن هناك. لم يكن في الحمام أيضاً. أشعلت الأضواء الكبيرة ورأت ان ثيابه لم تكن هناك، على عكس ثيابها، التي ظلت مرمية فوق الأرض، مطوية وموضوعة بحب تقريباً فوق الكرسي. حتى تلك اللحظة لم تفكر أنها لم تعرف شيئاً عنه، بل ولا حتى اسمه، والشيء الوحيد الذي ظل من ليلتها المجنونة عاصفة من رائحة الصندل في الهواء المصفى من العاصفة. عندما رفعت الكتاب لكي تضعه في الحقيبة أدركت أنه كان بين صفحاته ورقة نقدية بعشرين دولاراً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.