لما قرأ بيرنار بيفو، المشرف على برنامج "بويون دو كولتور" أهم برنامج أدبي في فرنسا، رواية "قلب الاسمنت" للروائي الشاب رشيد جيجاني، دعاه على غير عادة، في الاسبوع نفسه، للمشاركة في لقاء الى جانب كتاب ومثقفين يملكون رصيداً راسخاً في المشهد الثقافي الفرنسي، كأمين معلوف وسامي ناير. ولما أخذ رشيد جيجاني الكلمة، وعوض أن يتكلم كالآخرين، قدم عرضاً مسرحياً مزج فيه عناصر الفرجة والتشويق البهلواني، منادياً والدته وأصدقاء الحي، الى درجة أن منشِّط البرنامج تخلى عن جديته المعهودة ليرافق الشاب المرح بأسئلة خفيفة. وبما أن برنامج "بويون دو كولتور" المؤشر الفاعل في مبيعات الكتب، فقد قفزت رواية "قلب الاسمنت" الى الصفوف الأولى في ترتيب مبيعات الكتب في فرنسا، أمام رواية طاهر بن جلون وغيره من الكتاب البارزين. لم يتعمّد رشيد جيجاني "صولته التلفزيونية" هذه، بل تصرّف على هواه، مثل تصرفه في أمكنة أخرى كمعهد العالم العربي، عندما أضحك الجمهور في تدخلاته، فرشيد جيجاني ممثل قبل أن يكون كاتبا! فضلاً عن أنه ملاكم محترف. تحس أن جسده يغلي وهو على كرسي أو خلف طاولة، الأمر الذي يفسر اندفاعاته المتلاحقة وحكيه المندفع. منذ صدور الرواية تحول رشيد جيجاني نجماً تسعى قنوات التليفزيون الفرنسي ووسائل الاعلام بوجه أعم الى مقابلته، لكنه يعرف كيف يوزع المقابلات والأدوار، رافضاً في أحايين كثيرة لقاء الصحافيين. كان الطقس دافئاً. تمشينا في الشوارع المحاذية لمركز بومبيدو، أوقفه أكثر من شاب، خصوصاً من المغاربيين، يطلب توقيعا أو يطرح سؤالا. "لم أكن أعرف أنني سأصبح نجماً، عندما حملت المخطوط وتقدمت لعرضه على الناشر، خاطبتني السكرتيرة في مكتب الاستقبال كأنني ساعي طرود. وعندما أتقدم اليوم الى دار النشر، يستقبلني الجميع بحفاوة بالغة. وبسبب سحنتي العربية وشعري المجعَّد يغيّر المسافرون في الميترو عربة القطار عندما يرونني جالساً الى جانبهم... لكنني أنتمي الى جيل تعلَّم على النقيض من الآباء، أن لا يخجل من الفرنسي العنصري. العين في العين والوجه في الوجه، وهذا ما يفسر الحريق الذي يشتعل بين الفينة والأخرى في الضواحي، والذي يواجه فيه الشباب المغاربي بطش المتطرفين الوافدين من جبهات الحقد...". رشيد جيجاني سليل ضاحية بواسي. أمه جزائرية ووالده سوداني جزائري. شب في الاسمنت وفي بؤس المدينة مع غياب التأطير المهني والتوجيه الثقافي. ورث البطالة عن والده الذي أنهك لسنوات جسده في الأوراش تحت رحمة البرد القارص. في رواية "قلب الاسمنت"، يروي رشيد جيجاني سيرة شاب، تتقاطع الى حد كبير مع سيرته الشخصية: توقف عن الدراسة في سن السادسة عشرة. ارتكب حماقات كثيرة نال عليها عقاباً قاسياً من الأب الذي لم يكن يتردد في جلده بحزام مفتول. في الواحدة والعشرين، بعد أن عايش موت أخيه من جراء تناول المخدرات، يقرر الشاب يزيد تسجيل وتوصيف العالم القاسي والسفلي الذي يتحرك فيه شباب الضاحية. برفقة صديق له يدعى جريزي، يحتل يزيد، بل يسكن في شاحنة صدئة ومهجورة، لتدوين الحكايات التي يجمعها يومياً جريزي. لكن هذا الأخير يدعي أنه قتل شخصاً ويطالب يزيد بمرافقته الى مرآب العمارة هرباً من الشرطة. وبعد أربعة أيام في أحشاء متسخة ومظلمة، يخرج يزيد ليكتشف أن صديقه يحتجزه ويطلب فدية من والديه. في لغة بسيطة وشفافة، يحكي رشيد جيجاني عواقب الغربة الداخلية التي عاشها الآباء، أحلام جيل ليس له من مفر أمام العنف المستشري سوى شراسة اللغة. وقد نجح جيجاني في تلقيح اللغة الفرنسية بعبارات عربية. ولربما قد يأتي التجديد الروائي المغاربي غداً من جيل رشيد جيجاني الذي ينطق اليوم ويكتب بفرنسية مغايرة لفرنسية الجيل السابق.