حين طرح موضوع ضم دول اوروبا الشرقية الى حلف الأطلسي قبل سنتين، احتج الروس وتخوفوا من زحف الأطلسي الى حدودهم في وقت أبدوا فيه استعدادهم للانضمام الى الحلف. وبعد ترضيتهم بضمهم الى مجموعة الدول الصناعية السبع، وترتيب شراكة من نوع خاص تسمح بحضور بعض اجتماعات الحلف الاستشارية، هدأت جعجعة موسكو. وبانضمام بولندا وهنغاريا وتشيخيا رسمياً الى الحلف في مطلع السنة الجارية واستبعاد روسيا باعتبارها من الشرق، كان من الطبيعي عدم ترك اي ثغرة في جدار الأطلسي الجديد مع روسيا تمد ذراعها عبرها، خصوصاً بلغراد. ولم يكن ثمة مفر من ترتيب أوضاع البيت الاوروبي شرقاً ومعالجة المسألة البلقانية بجراحة مؤلمة وليس مجرد عملية تجميلية. حين اوقف نزف الجرح في البوسنة في مطلع التسعينات، ظن الناس انها النهاية من خلال اعتراف العالم بدويلاته المستقلة، ما عتم على الجرح النازف في كوسوفو، باستثناء الذين كانت مهمتهم ترتيب مسرح العمليات للجراحة التالية التي ظهرت بداياتها في مطلع 1998. ورأى المتابعون انها مرشحة للالتهاب بشكل يجعل ايدي الأطراف القوية طليقة باستثناء سكان كوسوفو العزل الذين بقوا تحت رحمة جيش بلغراد والتعصب الصربي المنفلت من اي ضابط او رادع، الى ان وصل الأمر الى ذروته. في نهاية نيسان ابريل 1998 حين بدت الخطة شديدة الوضوح للمتابعين، وفيها كتب نويل مالكولم كتابه عن تاريخ ازمة كوسوفو عرض بعض جوانبها في صحيفة "التايمز" في 1/5/1998 فقال: "اسوأ ما يمكن حدوثه وقد حدث هو ارتكاب مجازر جماعية داخل البوسنة على مرأى من الرأي العام. وفي حال كوسوفو فإن آثار قتال واسع لن تقف عند حدودها، واذا انتقلت الاشتباكات خارجاً وتحولت الى حرب مفتوحة، فلن يقتل عشرات الالوف من البان كوسوفو وحسب، ولكن ملايين اللاجئين يمكن ان يتدفقوا على مقدونيا مشكلين أزمة كبرى فيها". وكان لحلف الأطلسي مصلحة في معالجة ذلك الوضع عبر اتصالات مجموعة من السياسيين الغربيين كان من بين جهودها عقد اجتماع لبحث الأزمة المتفاقمة في كوسوفو في الاسبوع الأول من أيار مايو 1998 وقال عنها مالكولم : "كانت التكتيكات المعتمدة في اجتماع بحث مسألة كوسوفو خرقاء، وطريقتها المفضلة هي تحديد تاريخ نهائي للانذارات الموجهة لميلوشيفيتش في البداية عشرة ايام، ثم لمدة شهر لسحب قواته من كوسوفو، ثم بدء المباحثات مع زعيم البان كوسوفو المعتدل ابراهيم روغوفا، وفي كل مرة يقترب فيها موعد الانذار النهائي يتصاعد القتال. وللمتطرفين الألبان مصلحة في تصاعد العنف مع قوات ميلوشيفيتش، ولكنه يربح ايضاً، اذ يمكنه استخدام تصعيد القتال لتبرير رفضه مطالب الغرب بالتفاوض والانسحاب أيضاً". كان الموقف المراوغ لميلوشيفيتش واضحاً للجميع في حلف الأطلسي والاتحاد الاوروبي وغيرهما، في الربيع والصيف الماضيين. ومن كان يتابع العمليات العسكرية في كوسوفو لاحظ تصعيداً لن يوقفه سوى التهديد باستقلالها واخراج القوات الصربية منها. لكن وفود الحكومات الغربية لم تكن تطرح ذلك، حتى كمجرد احتمال في المدى الطويل، وكان ذلك الموقف يزيد نفوذ المتطرفين الالبان في مقدونيا. وذلك ما انذر به الخبراء بقضية كوسوفو ومنهم مالكولم حين قال: "اكثر ما يثير تطرف الألبان المقدونيين سيكون الضغط المستمر الذي يزيد الثورة والعنف في كوسوفو. وأي تلبية لطلبات البان كوسوفو يمكن ويجب ان تترافق بتعهد قوي من الغرب بالحفاظ على وحدة اراضيها وحدودها مع مونتينغرو. ويذكر انه حتى بعض القوميين الصرب هم اكثر استعداداً لقبول استقلال كوسوفو في المدى الطويل من معظم السياسيين الغربيين". وظل هذا الموقف المائع في السياسة الغربية حتى اتفاق "رامبوييه" في مطلع السنة الجارية الذي ابقى سكان كوسوفو تحت رحمة الصرب وجعل يدهم طليقة ليقوموا بمجازرهم، وكأن القضية ابنة اليوم وليست حمام دم مستمر منذ سنة وبلغ ذروته الآن بكارثة انسانية لم تشهدها اوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وهي تشكل مظلة تسوغ تدخلاً دولياً بذريعة عجز اوروبا عن احتواء المسألة البلقانية، ويكون لواشنطن، عراب النظام الدولي الجديد، حضور يناسب استراتيجيتها الأطلسية ويكبل موسكو بقوة دولية دائمة الحضور في قلب البلقان، وهذا ما كشف النقاب عنه بعد اكثر من شهر من القصف الجوي الأطلسي. ان فكرة "المحمية الدولية" التي سيجري باسمها دخول القوات البرية اراضي كوسوفو، بعد اسدال الستار على الفصل العسكري، وبدء ترتيب الأوضاع السياسية في البلقان، سيباشر في الاجراءات الاقتصادية بالتوازي مع النسقين العسكري والسياسي، وتمهيداً للأمر المذكور عقد اجتماع في لندن في 18 الشهر الجاري ضم ممثلين عن المؤسسات المالية الدولية وموظفين من وزارة الخزانة الاميركية، لرسم خطط الاقتصاد في البلقان للمرحلة المقبلة. وضمت المجموعة المالية والاقتصادية ممثلين عن المصرف الاوروبي للاعمار والتنمية والمصرف الدولي وصندوق النقد الدولي والمفوضية الاوروبية، وبدأت برسم استراتيجية للتعامل مع الحطام اليوغوسلافي بدءاً من الجوانب الفنية المتعلقة بتحديد الأضرار وتبادل المعلومات عن انواع المساعدات الاقتصادية التي يمكن تقديمها. قدر الخبراء ان اكثر الدول تأثراً بالأزمة هي البانياومقدونياوبلغاريا. فسيل اللاجئين الى البانيا شكل 10 في المئة من سكانها والى مقدونيا 6 في المئة. وذكر رسميون من بلغاريا ان الأزمة كلفتهم ملايين الدولارات من الصادرات التي يمر 60 في المئة منها عبر صربيا. واذا استمر القصف الأطلسي لشهر آخر ستزيد خسارة بلغاريا عن مئة مليون دولار، في وقت تعالج فيه تأخر تنفيذ مشاريعها الضرورية للنمو الاقتصادي. وهو النمو الذي بدأ بدعم المصرف الاوروبي للاعمار والتنمية الذي تأسس، بعد سقوط الستار الحديد، لمساعدة الدول الشيوعية وسط اوروبا وشرقها لتسهيل عملية الانتقال الى اقتصاد السوق، وقام المصرف بدعم 50 في المئة من المشاريع في بلغارياومقدونياوالبانيا والبوسنة. ويتطلع المخططون الذي اجتمعوا في لندن الى الآفاق الاقتصادية في دويلات البلقان والمشاريع الممكن مباشرتها حين يتوقف القتال ويحل السلم في كوسوفو، وستكون صربيا في عداد الدول التي ستشملها ورش اعادة الاعمار. * كاتب وصحافي سوري مقيم في بريطانيا.