للقاهرة أساطيرها التي تتوالد من بعضها البعض، وتقاليعها التي تنقرض قبل ان يتباهي بها أحد، هذه العاصمة التي قال أدونيس إنها "المدينة العربية الوحيدة التي تتوافر فيها جميع مقومات المدنية الحديثة بالمنطق الأوروبي والحضاري المعاصرين"، إذ تخلو القاهرة مما يشوب المدن العربية الاخرى من مظاهر البداوة والريفية المتفشية على سطح الحياة. ووسط الزحام والضجيج، تستطيع ان تسمع كلمة "خرتي" تتدحرج من فم نادل المقهى حيث تجلس فتستقر في اذنك قوية برنينها الغريب. و"الخرتي" كلمة يجمعها القاهريون، أو سكان وسط العاصمة، في كلمة "الخرتية". وهي مهنة جديدة انتشرت منذ سنوات قلائل، في جميع المدن السياحية في مصر. وتطلق كلمة "خرتي" على كل من يعمل لدى "بازارات" الأنتيكات والتحف والعطور الشرقية والجلود. ومهمة "الخرتي" اصطياد السائحين، فرادى أو جماعات، من شوارع القاهرة، واقناعهم بشراء بضائع من البازار الذي يعمل هو لحسابه. وفي حال موافقة السائح وشرائه شيئاً من البازار، يصبح لهذا "الخرتي" الحق في مكافأتين ماليتين، واحدة من صاحب البازار الذي باع، وأخرى من السائح الذي اشترى. والجديد في هؤلاء "الخرتية" أنهم - بإطلاقهم - من الجيل الشاب، بين 15 و35 عاماً، ولهم لغة خاصة يتفاهمون من خلالها، وهم لا يختلطون بمن يعمل خارج مهنتهم من المصريين. حتى علاقاتهم العاطفية مقصورة على الأجنبيات اللواتي يتعرفون بهن اثناء عملهم اليومي. ولهم طريقتهم المميزة في ارتداء كل ما هو غريب من الأزياء وأحدثها، وأكثرها شططاً، وكل ما هو فج في قصات الشعر وتصفيفه، إلى درجة تجعل كل شاب يحاول ان يخرج بپ"تقليعة" جديدة، يواجه بأنه اصبح "خرتيا"، الأمر الذي يعد إهانة لا يغتفرها الشاب بسهولة. وعلى الرغم من ان مهنة "الخرتية" تجتذب كل يوم وجوها جديدة من شباب الجامعات العاطلين عن العمل، إلا ان شرطة السياحة المصرية تطارد بعضهم ممن اشتركوا في عمليات نصب واحتيال وسرقة استهدفت أفواجاً سياحية بكاملها، ويرجع ازدياد المشتغلين بمهنة الخرتية من الشباب الى ربحها العالي جداً، والذي يفوق 100 - 200 جنيه يومياً. في ميدان التحرير، أحدأشهر الميادين المصرية على الاطلاق، والمكان الأكثر امتلاءً بالسائحين، ومن ثم "بالخرتية" كان يحاول اقناع فتاتين اميركيتين بتوصيلهما الى بازار للعطور الشرقية والانتيكات، وحين رفضتا الاستجابة له، استند الى واجهة احد المحلات واشعل سيجارته الاجنبية. اقتربت منه بتوجس، وبعد دقائق بدأ يتفهم أسئلتي، قال: "أنا خريج الليسيه فرانسيه واتكلم أيضاً الانكليزية والالمانية جيداً، وتملك اسرتي بازارا في مدينة شرم الشيخ واعمل هنا بين شهر وثلاثة أشهر كل عام لأن الاحوال هناك تسوء شتاءً وتبدأ في التحسن صيفاً". يشبه لاعبي كرة السلة الأميركيين، ضخم الجثة، وزنجي الملامح. اعترض بشدة على كلمة "خرتي". وقال إن مهنته تفيد البلد لأنها تشجع السياحة، وانه يقبض في أحد الأيام 200 أو 250 جنيها، وفي يوم آخر لا ينال شيئاً. كان متضايقاً جداً، يحدثني كأنه سيتشاجر بعد لحظة. اضاف انه يعمل "خرتياً" منذ أربع سنوات، لأنه لم يجد عملاً آخر، وهو يبلغ من العمر 22 عاماً، متزوج من فتاة يابانية التقاها قبل ستة شهور في زيارة لها لمصر، رحلت بعد اسبوع من زواجهما الى بلدها، وهو ينتظر حضورها بعد شهور قليلة. سألته عن عدد "الخرتية" الموجودين الآن في القاهرة، فقال: "كثيرون جداً. من المستحيل عدهم"، واضاف: ولكن اغلبيتهم من عائلة "خطاب" التي تملك معظم بازارات القاهرة، وتعيش في وسط المدينة منذ سنين طويلة". حين سألته عن اسمه رفض الجواب، متعللاً بأنه لا يعمل خرتياً في القاهرة كي يحسب على من يعملون فيها، وانه يعمل في القرى السياحية الأخرى مثل "دهب" و"شرم الشيخ" و"الغردقة" فهناك كل شيء يحدث "عيني... عينك" وأفضل من القاهرة "ألف مرة"!