"الشؤون الإسلامية" بجازان تنفذ أكثر من 460 جولة ميدانية لصيانة عدد من الجوامع والمساجد بالمنطقة    الاتحاد يرفع من وتيرة تحضيراته لكأس السوبر    مدرب نيوكاسل يطالب بحل واضح بشأن مستقبل إيزاك    القبض على 4 إثيوبيين في جازان لتهريبهم (185) كجم "حشيش"    سيمينيو ممتن لدعمه بعد تعرضه لإساءة عنصرية في أنفيلد    تعليم الرياض يعتمد توقيت الدوام في المدارس للعام الدراسي المقبل    مشاركو مسابقة الملك عبدالعزيز الدولية يغادرون إلى المدينة المنورة    أميركا: وقف إصدار جميع تأشيرات الزيارة للقادمين من غزة    112 طفلا يدخلون دائرة سوء التغذية يوميا في غزة    العدل تطلق خدمات مركز الترجمة الموحد عبر منصة تقاضي    وزير الصحة يلتقي نخبة من المبتعثين السعوديين بأستراليا    تحدي الذكاء الاصطناعي ″أنا وابني ابنتي نبتكر″ يختتم فعالياته    أمانة المدينة تطلق "أستوديو لبناء الشركات" لدعم الابتكار    فريق قوة عطاء التطوعي ينفذ مبادرة "احتواء 1″ بجازان    برشلونة يقيد جارسيا وراشفورد في قائمته    "هجرس" أصغر صقار يخطف الأضواء في مزاد الصقور 2025    الرمان المحلّي يغمر أسواق المملكة بإنتاج يتجاوز (37) ألف طن    «التعليم» تنشر ضوابط الزي المدرسي والرياضي للطلاب والطالبات    وزارة الصناعة تشارك في معرض البطاريات وتخزين الطاقة بالصين    "الكرملين" قمة بوتين وترامب في ألاسكا إيجابية    تجمع تبوك الصحي يطلق مشروعات تطويرية لطب الأسنان    تراجع أسعار النفط بأكثر من 1% عند التسوية    «متحف طارق عبدالحكيم» يختتم المخيم الصيفي للأطفال    رسمياً .. النصر يعلن تعاقده مع الفرنسي"كومان"    نيوم يضم المالي "دوكوري"    ناشئو أخضر اليد بين كبار العالم.. ضمن أفضل 16 في مونديال مصر    ارتفاع ضحايا الأمطار والسيول في شمال باكستان إلى أكثر من 200 قتيل    الكرملين: انتهاء محادثات بوتين وترامب في ألاسكا    هيئة المياه تطالب بسرعة تحديث البيانات    إغلاق 84 منشأة في حي منفوحة بالرياض وضبط مخالفات جسيمة    قرار مفاجىء من إنزاغي بشأن البليهي    أمير عسير يستقبل سفير بلجيكا    المملكة تعزي وتواسي باكستان في ضحايا الفيضانات والسيول    مستشفى جازان العام وجمعية التغذية العلاجية يحتفيان بأسبوع الرضاعة الطبيعية    الشيخ عبدالله البعيجان: استقبلوا العام الدراسي بالجد والعمل    الشيخ بندر بليلة: احذروا التذمر من الحر فهو اعتراض على قضاء الله    أمين جازان يتفقد مشاريع التدخل الحضري ويشدّد على تسريع الإنجاز    جامعة جازان تعلن نتائج القبول في برامج الدراسات العليا للفترة الثانية    المملكة تتوّج بالذهب في الأولمبياد الدولي للمواصفات 2025 بكوريا    الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنظم حلقة نقاش بعنوان: (تمكين الابتكار الرقمي في العمل التوعوي للرئاسة العامة)    محمد بن عبدالرحمن يعزي في وفاة الفريق سلطان المطيري    اليوم الدولي للشباب تحت شعار"شبابُنا أملٌ واعد" بمسرح مركز التنمية الاجتماعية بجازان    نائب أمير جازان يستقبل مدير مكتب تحقيق الرؤية بالإمارة    أحداث تاريخية في جيزان.. معركة أبوعريش    نائب أمير جازان يلتقي شباب وشابات المنطقة ويستعرض البرامج التنموية    زراعة أول نظام ذكي عالمي للقوقعة الصناعية بمدينة الملك سعود الطبية    استقرار معدل التضخم في السعودية عند 2.1% خلال شهر يوليو 2025    في إنجاز علمي بحثي.. خرائط جينية جديدة تُعزز دقة التشخيص والعلاج للأمراض الوراثية    الصين تطلق إلى الفضاء مجموعة جديدة من الأقمار الصناعية للإنترنت    موسكو تقلل من أهمية التحركات الأوروبية.. زيلينسكي في برلين لبحث القمة الأمريكية – الروسية    تمكين المدرسة من خلال تقليص المستويات الإدارية.. البنيان: 50 مليار ريال حجم الفرص الاستثمارية بقطاع التعليم    الشيباني: نواجه تدخلات خارجية هدفها الفتنة.. أنقرة تتهم تل أبيل بإشعال الفوضى في سوريا    انطلاق ملتقى النقد السينمائي في 21 أغسطس    «البصرية» تطلق «جسور الفن» في 4 دول    اطلع على أعمال قيادة القوات الخاصة للأمن البيئي.. وزير الداخلية يتابع سير العمل في وكالة الأحوال المدنية    رئيس الوزراء النيوزيلندي: نتنياهو فقد صوابه وضم غزة أمر مروع.. «الاحتلال» يصادق على الهجوم .. وتحرك دبلوماسي للتهدئة    استخراج هاتف من معدة مريض    أمير جازان يعزي في وفاة معافا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحيل الكاتبة البريطانية ايريس مردوخ . الفلسفة والرواية كسبيل للخروج من الكهف
نشر في الحياة يوم 21 - 02 - 1999

ما يحضنا على التماس البراهين التي تؤكد حدسنا بوحدة الوجود او الاشياء، على ما ترى ايريس مردوخ في كتابها "الميتافيزيقيا كمرشد الى الاخلاق"، انما هو حافز عاطفيّ عميق يدفعنا في طريق الفلسفة والفن والتفكير عموماً.
فأن نقوّم الاشياء ونفهمها ونصنّفها وننزلها المنزلة التي تستحق وفقاً لفضائلها في سياق نظام ارحب واوثق اتصالاً، فلأن العقل المتسائل يبغض الفراغ. فنحن، على ما تمضي مردوخ في اهم كتبها الفلسفية القليلة، لشدة خوفنا من المتعدد و المتشعب والشتات والمصادفة التي لا مغزى لها، والفوضى انما نميل الى احالة ما يعصى على سيطرتنا او فهمنا الى شيء مألوف باعث على الطمأنينة، الى وجود عاديّ الى تاريخ وفنون وعلوم.
ومثل هذا التصور، غنيّ عن القول، لا يحظى اليوم بأدنى تعاطف من المشتغلين في حقل الفلسفة. ففي بريطانيا حيث أوليت مسائل الابستمولوجيا القدر الاكبر من الاهتمام منذ البداية، لم تكن "الميتافيزيقيا" وحدها ما جُردّ من رصيده، خصوصاً في وقت وفدت مردوخ تلميذة الى اكسفورد في اواخر العقد الرابع من القرن. وكان اتباع "الوضعية المنطقية" الذين احتلوا ميدان الفلسفة من دون منازع اعتبروا ان كل ما لا تشمله لغة المنطق والرياضيات والعلوم الطبيعية، وكل ما هو غير قابل للدحض او للاثبات عديم المعنى. ومن ثم فإنهم استبعدوا سائر المقولات والقضايا المتعلقة بالدين والاخلاق وعلم الجمال.
واذا ضاق امثال مردوخ من الباحثين عن اجابات عن اسئلة "وجودية" كبرى بهذا الجفاف الفلسفيّ الذي اشاعه الوضعيون المنطقيون، يمموا شطر القارة الاوروبية المانيا وفرنسا ناهلين من ينابيع كبار فلاسفتها هيغل وشوبنهاور ونيتشه وكيركغارد ولاحقاً هايدغر وسارتر. وها هي مردوخ تستهل بداية رحلتها الابداعية بكتاب عن سارتر. وهي ان اقتصرت فيه على تناول اعماله الادبية الاّ ان "سارتر، الرومنطقيّ العقلانيّ" 1952 لم يخفق في ان يكون محاولة طموحة اوفت بعض اطروحات ودعاوى "الوجود والعدم"، كتاب سارتر الاساسيّ، ما يستحق الشرح والإيضاح.
بيد ان ما آلت اليه احوال الفلسفة الاوروبية مع شيوع طرائق ومناهج تحليل ونظر حديثة في العقود القليلة الماضية ادى الى انسداد سبل مريدي الفلسفة من الساعين الى اجابات شافية عن ماهية الوجود والحرية والمسؤولية الفردية وطبيعة الفن والفارق بين العارض والازليّ، وما الى ذلك من مسائل اقلقت نفوس الذين تراءى لهم الوجود مثاراً لحيرة دائمة. وكان هذا شأن جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، لا سيما الكتّاب والفنانون والتلاميذ منهم. فهم التمسوا في الافكار مسكنات لآلام روحية مبرحة نجم عنها كمّ من الادب السوداويّ لم يعدم بعضه اسباب الدوام وان كان معظمه يبعث اليوم على الضحك.
لكن الافكار، على ما اكتشف وروّج له المشتغلون في انتاجها، انما هي في نهاية المطاف بنية لها شروطها واملاءاتها، وخلافاً لما يُظن فإنها هي من يتحكم بمنتجيها ومستعمليها. وكان من دواعي بلوغ نتيجة كهذه اخفاق الافكار، اكانت من قبيل دعاوى الليبرالية العقلانية ام كانت على شكل نظام نظريّ صارم كالماركسية، في حمل دعاتها واتباعها الى برّ السلامة المنشود. وبدا لاكثر المشتغلين في هذا الحقل ان ثمة بواطن وخفايا لم يصر الى الكشف عنها، وان ثمة خللاً كبيراً في مشروع الانوار الكلاسيكيّ الذي اخذ به العالم الغربيّ من دون اعتراض او سؤال. بل وذهب بعضهم، من امثال الفرنسي ميشيل فوكو، الى اعتبار هذا المشروع بمثابة سعي عميق الغور في سبيل عقلنة "السلطة". ثم كانت هناك البنيوية والتفكيكية وتيارات ما بعد الحداثة متباينة المشارب. وهذه جعلت من سبل مختلفة النص او الصورة المكان الفعليّ او "الحقيقي" للتقصي والتحليل والكشف عن المسكوت عنه ولاستعادة المسرودات الاخرى الغائبة او المغيّبة من قبل المسرود الفخم.
لم تعد اللغة مجرد وسيط او اداة تمثيل او اعراب عن ذلك الوجود او "الحضور الحقيقيّ" المزعوم، وانما اضحت كل ما هو متوفر.
والى هذه المساعي والعمليات المعقدة المضنية، ترى مردوخ كضرب من "المثالية" او الجبرية اللغوية التي تنحاز الى جانب النظام اللغوي ضد استقلالية الفرد. وفي شكلها الاكثر رواجاً هي اقرب الى حساسية جديدة في الفن، وهجوم مقذع على اشكال الفن التقليدية. فهي انما تعمل كتمرين وصورة لاسقاط الخرافة ولازاحة المُفارق، وهي ازاحة تحلل او تفكك المفاهيم المألوفة للشيء المفرد، وللفرد وللمعاني المفردة، ولهذا الكل المكتمل، المحدود، ومن ثم لتلك الوحدة التي ما انفك حدسنا يحضنا على استجلائها في اشكال شتى من التعبير.
الفن والاسطورة
والباعث على الحيرة في امر اقدام ايريس مردوخ على سوق محاجّة من هذا القبيل انها فعلت ذلك بعد قرابة اربعة عقود من تسليمها بأن الكتابة الفلسفية، اذا كان الغرض منها اضافة الجديد اليها، انما تحتاج الى عبقرية ليست في متناولها.
صحيح ان مردوخ لم تعزف تماماً عن الاسهام في هذا الحقل، الاّ ان محاولة ترسيخ مقولات مثل الحقيقة والمسؤولية الفردية والقيم الاخلاقية المتساميّة والوعيّ والتجربة، لما هو عارض او طارىء وغير ذلك مما تقول به في هذا الكتاب، من خلال احياء بعض المقولات الافلاطونية او "البرهان الانطولوجيّ" او غير ذلك، ما كانت بالحسبان خصوصاً وان المؤلفة كانت تجاوزت السبعين يعود هذا الكتاب الى عام 1992.
وهي كانت عثرت على مبتغاها في كتابة الرواية، فأقبلت عليها من غير كلل منتجة ما يزيد على 25 رواية. وعلى رغم محاولات النقّاد الدائبة ايجاد ما يسوغّ اعتبار رواياتها "فلسفيّة" الاّ ان حرصها على ايفاء عناصر القصة حقها جعل اقصى ما ينطبق عليها انها روايات تنطوي على قدر كبير من الافكار.
ولكن اليسّ من الطبيعيّ لپ"فيلسوفة اخلاقيّة"، على ما وصفتها اكثر من مقالة تأبينيّة مما حفلت به الصحافة البريطانية فور اعلان وفاتها مطلع الاسبوع المنصرم، ان تنتصر للمعايير والقيم التي تزرع الطمأنينة في النفوس اذا ما تعرضت للهجوم الذي هي هدف له هذه الايام؟
الروائية
في الحقيقة إن مردوخ ليست مبشرة اخلاقية، وان آمنت بأن في الرواية ما يرقى الى دليل اخلاقيّ، وليست صاحبة مذهب فلسفيّ بالمعنى المتواضع عليه، وانما هي روائية. وعن الرواية التي تكتب انما تدافع في وجه دعاوى تعمل على تجريد الفن من امتيازاته. والفن، على ما تُسرّ مردوخ في ما يشبه الترنيمة، تعليميّ وترفيهيّ في آن معاً. فهو ما يكثّف الحياة ويوضحها، وما يوجه الاهتمام الى امور بعينها. فالفن انما يُنير ما هو عارض وما هو من قبيل المصادفة او بمثابة تشوش عام. ويبيّن حدود الزمن ومعالم الفكر الخطابيّ بما يخولنا استقصاء الامور المعقدة والمخيفة التي كان من الممكن ان نقف مرهوبين ازاءها. الى ذلك فإن الفن يخلق عالماً انسانياً وسلطوياً عاماً. فهو يصنع امكنة و فضاءات مفتوحة للتأمل، وفي ظنها هو دفاع ضد المادية والمواقف شبه العلميّة تجاه الحياة. وفي استمتاعنا بالفن العظيم انما نخبر الوضوح والكثافة واكتمال الوعيّ. فالافكار والعواطف انما تصير الى وحدة في كُلٍ محدود.
لأن ذلك هو تعريف الفن بالنسبة الى مردوخ، كانت الرواية التدبير الذي يُخضِع فوضى العالم لوتائر تجعله قابلاً للاحاطة، او تُلبس المعقد والممتنع منه على الفهم لبوس الخرافة. وما الرواية والحالة هذه الاّ تجسيد لرحلة الخروج من عالم العرضيّ والحادث، اي من الكهف "الافلاطونيّ" الى عالم التسامي الاخلاقي، من عالم المظاهر الى عالم الحقيقة، وهذه تجربة يخبرها القارىء بقدر ما يعيشها شخوص الرواية.
يتجلى ذلك في رواية "الفيلسوف والتلميذ". ولا يغرنك العنوان هنا ففي هذه الرواية من الاحداث الدراميّة ما يكفي لاثارة حسد مؤلفي "دالاس" و"داينستي". اذ تتوازى علاقة التلميذ بالمعلم بعلاقة الاول بمن تربطه بهم روابط القرابة والمصالح والحاجة الى اشباع الرغبات. وفيما تكون الاولى بمثابة النزوع الى معانقة المُفارِق والمطلق تكون الثانية صورة للاستغراق في الشؤون الدنيوية بما هي تمثيل للانانية والفساد. و احتواء مثل هذه الثنائية هو ما ترمي اليه مردوخ في الفن الذي يتجلى على شكل كُل محدود. ففي اجتماع العناصر المتنوعة والمتعارضة انما يُصار الى القبض على الوحدة التي يدفعنا حدسنا الى التماس البراهين في سبيل تأكيد وجودها.
ولطالما نسبت مردوخ الى اسلاف كبار مثل شكسبير ودستويفسكي. فالحرص على ان تكون رواياتها ميداناً لشخصيات تمثل كل منها صوتاً مستقلاً، اي ليس مجرد اشتقاق لصوت الراوي الاصليّ، هذا ناهيك عن جمعها ما بين الواقعي والرمزيّ، ما بين التاريخيّ والفانتازي والاسطوري، وما بين الحوادث المثيرة للتشويق والحوار النازع الى التأمل الصاحي، ما جعلها تبدو كأنها وضعت نصب عينيها كتابة ما يجاري العملاقين المذكورين.
وليست الجسارة التي اظهرتها في التعامل دفعة واحدة مع موضوعات من قبيل الخيانة والانانية والاستبداد والجنون والالم والاحساس بالذنب والجريمة الاّ ما يدل على تعويلها على نجاح النموذج الذي استقته هادياً لاعمالها.
ولعل انتفاعها بهذا النموذج يتجلى من خلال تمكنها من ايفاء ذلك التعارض بين الافصاح المفرط والصمت المنطوي على دلالات غنية حقه.
وكثيراً ما تتوزع روايات مردوخ بين تلك المواقف المشحونة بالعواطف الصارخة والاستنكاف عن البوح الى حد البلادة. وما بين تلك الحوارات الفكرية التي لا تتوانى عن التطرق الى اي قضية مهما بلغت من التعقيد وما بين الطبيعة التي اقصى ما يصدر عنها تعبير اسطوري او صورة مجازية او رمزية.
غني عن القول ان هذا السعيّ الدؤوب الى القبض على مثال الوحدة من خلال الرواية لم يحظ دائماً بالتوفيق. بل كثيراً ما انجلى عن خليط من العناصر متنافر جعل الرواية تبدو اقرب الى صورة العالم البهيمية المحتشدة بالامور العارضة، اي الصورة السابقة على حلول الفن والرواية. بيد ان هذا قد لا يكون ثمناً باهظاً اذا جارينا ظنها بأن الرواية قد تكون مرشداً للاخلاق، او تمريناً يصيب القارئ من خلاله قسطاً من نيافة طالب الخير المطلق. ولكن هل تساعدنا روايات مردوخ في الخروج من الكهف ومعانقة ذلك الذي يتجاوز العارض والحادث من الامور؟
ليس ذلك مما يمكن اثباته بيسر خصوصاً في ظل رواج مناهج تجهر بسعيها الى اسقاط الاسطوري وضرورة التسليم بمحدودية الارادة الانسانية في الإلمام بتشتت وتشعب الوجود واستحالة تصويره في سياق وحدة ما حتى وان كانت هذه الوحدة المتخيلة من الرحابة والتعقيد ما يجعلها تبدو كأنها افلحت في مجاراته. اما وقد امسى الفن بمثابة ذلك السؤال عن ماهية الفن ومعانيه واذا كان ثمة معان على الاطلاق، ومن دون ادنى طموح الى بلوغ اجابة محددة، فإنه لمن الراجح ان يبدو تصور مردوخ للفن باطلاً، وفي احسن الاحوال فضفاضاً لعصر لا ينكر امكان الخروج من الكهف انما ينكر ان يكون هناك كهف اصلاً.
رواية الطبقة المتوسطة
تنتمي ايريس مردوخ الى جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، والى احلام وطموحات واوهام هذا الجيل تنتمي مفاهيمها وتصوراتها. وهي المولودة في دبلن عام 1919 لابوين من اصل انكليزي وايرلندي مشترك تحلت بوعيّ مبكر ومختلف للازمة الايرلندية عن وعيّ الانكليز او الايرلنديين انفسهم. للإعراب عن امر كهذا تمضي في روايتها "الاحمر والاخضر" التي تدور حوادثها إبان الانتفاضة الايرلندية عام 1916.
انضوت مردوخ في شبابها في الحزب الشيوعي البريطاني. وعلى رغم الفترة القصيرة التي قضتها فيه الاّ انها كانت كافية لدخول اسمها اللائحة السوداء في اميركا ما حرمها من الحصول على تأشيرة دخول الى الولايات المتحدة اثر نيلها منحة لاستكمال دراستها هناك. وكان العالم بدأ يشهد الفصول الاولى للحرب الباردة وتعاظم البارانويا الغربية تجاه "الخطر الشيوعي" لا سيما في اميركا خلال عهد ماكارثي.
وعاش هذا الجيل المرحلة الانتقالية الحاسمة في تاريخ بريطانيا، وتجلى في انشطته ما هو خير تمثيل للتحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية عموماً. فإذا كانت ازمة حرب السويس آذنت بإفول عهد الامبراطورية، فإن ما صدر عن الكتّاب والفنانين المعروفين ب "جيل الغضب" افصح على نحو بيّن عن رفض الاذعان الى القيم التي كانت تسود قبل الحرب. اذ سرعان ما تجلى بهتان التفاؤل والامل اللذين غمرا الناجين من ويلات الحرب بإمكان بناء عالم جديد. فلم يكن إندلاع الحرب الباردة وكابوس القنبلة الذرية الاّ من امارات انكفاء الامور الى سابق عهدها اي الى النظم والقيم التي كانت تسود قبل الحرب.
وطاول التحوّل اشكال التعبير الفنية بقدر ما طاول اوجه الحياة والثقافة الاخرى المختلفة. وكانت الرواية البريطانية حتى ذلك الحين اسيرة موضوعتيّ "التفاوت الطبقي" و"الخيانة الزوجية"، الاّ انه سرعان ما ظهر جيل جديد من كتّاب الرواية لم يتهيب تبني اساليب جديدة "غير انكليزية" والاقبال على اهتمامات كانت تعتبر حتى ذلك الحين من اختصاص الادب الشعبيّ.
وعلى رغم ان ما كُتب من رواية في الخمسينات لم يرق الى مستوى ما حدث في المسرح والسينما والثقافة الشعبية عموماً من تحوّل، الاّ ان بعض ما كتبه كنغزلي ايمس ووليم غولدينغ وايريس مردوخ برهن عن قطيعة واضحة مع التقاليد الروائية البريطانية.
رواية مردوخ الاولى "تحت الشبكة" انجلت عن تأثر كبير بأدب جان بول سارتر، لا سيما رواية "الغثيان". ومن ثم فإن السرد فيها لا يمضي نحو انشاء العقدة وانما هو اقرب الى تسجيل الانفعال وعيُ الحوادث الطارئة والتفاصيل العارضة. اما المواقف التي تتخلل الرواية فهي اقرب الى امتحان متواصل للبطل ازاء ما هو مقدر له من مواجهة مسؤولية حرية الاختيار.
بيد ان تأثر مردوخ بالادب الوجودي لم يجنح بها الى انماط من السرد مغرقة في التجريب، على ما حدث في الرواية الاوروبية عموماً. ومن ثم فانها عزفت عن اتخاذ تقنية سرد الشخصية الاولى او الانا السارد اسلوباً في اي من اعمالها اللاحقة. كما ان انعدام العقدة التقليدية في روايتها هذه لم يكن من قبيل الاستغناء التام عن هذا العنصر الحاسم في القصص. ففي رؤيتها المبكرة الى الرواية كوسيلة لاخضاع الفوضى التي تسم العالم في سياق وتائر محددة ما اوجب تمسكها بالعناصر "التقليدية" للقصة. وهي ان لم تبتعد في رواياتها اللاحقة بعيداً عن النزعة الوجودية الاّ انها كثيراً ما وجدت في السرد الواقعي التقليدي ما يلبي حاجة روايتها.
هذا على اية حال لا يعني أن مردوخ آثرت النكوص الى ضرب متقادم من الكتابة، بل افساح المجال امام ظهور عناصر متنوعة ومتعارضة يتمتع كل منها بحق الوجود المستقل عن الاخر، ومن دون انشدادها بالضرورة الى بؤرة واحدة تطلّب سعة لم يوفرها لها الاّ البناء التقليديّ.
الى ذلك فإن اقبال الكاتبة على اقتحام الغامض والمجهول، او في اقل تقدير ما يتجاوز حدود الصورة الطبيعية لمظاهر الوجود ما دفعها الى الاقتصاد في التجريب في تقنية السرد. غير ان مردوخ لم تركن الى سرد ذي ايقاع محدد او الى لغة روائية معدومة الثراء او اللون. اذ لطالما سعت، وبشيء من الافراط احياناً، الى ايفاء كل مقام ما يلائمه من سرد او لغة. فلا يشوب السرد الخيطي في رواية تقليدية النزعة كرواية "قلعة الرمال" ادنى التواء فيما نجد ان اللغة في رواية يمتزج فيها الواقعي بالرمزي مثل "الجرس" لا تكف عن التراوح بين سرد مستقيم لمجريات الرواية وتصوير غنيّ بالاستعارة والمجاز الدينين.
اما في رواية "الهروب من الفاتن" فإن السرد يجرى فيها على طبقات يكاد لا يربطها ببعضها سوى رابط واه. فهناك مثلاً حكاية ذلك الرجل الذي تتعرض حياته لانهيار تدريجيّ بما يؤدي في النهاية الى موته، الاّ ان ما يحيط بهذه القصة من حوادث غامضة وما يكتنف السرد من اشارات رمزية مما يجعل القارىء يحس بأنه لم يقيد له الاطلاع الاّ على جانب واحد للقصة.
ومن الجائز الخلوص الى ان التجديد الذي احدثته مردوخ في الرواية البريطانية هو دفع حدود هذه الاخيرة الى ما هو ابعد من موضوعتي التفاوت الطبقيّ والخيانة الزوجية. فبإطلاق عنان المخيلة مقتحمة تلك العوالم التي كانت حكراً على ادب الخيال العلميّ او قصص الرعب والاشباح لم يعد ثمة من داع الى الفصل بين موضوعات "الرواية الادبية" والرواية الترفيهية الشعبية وهو التمييز الذي اضطر الكتّاب من قبلها الى الالتزام به مخافة ان يعاملوا بجدية اقل مما يستحقون.
ولا شك ان الاجيال التالية من كتّاب الرواية البريطانية افادت كثيراً من اقبال مردوخ على موضوعات منبوذة ومستبعدة من ملكوت الرواية "الادبية". وليس احياء الاساليب "الغوطية" و"البارودية" في روايات كتّاب من امثال دوريس لسينغ وانجيلا كارتر وسلمان رشدي وغيرهم الاّ ما يبيّن الدور الذي لعبته مردوخ في تمهيد طرق جديدة للقصة. ولعل في هذا تكمن اهميتها وليس في دورها ك "فيلسوفة اخلاقية".
واذا كانت رواياتها حظيت برواج كبير لدى الجمهور فإن مرد ذلك ليس "الدرس" الاخلاقيّ او التجربة الروحيّة التي تزودّ قارئها بها، بل اقتصادها في التجريب السردي وعزوفها عموماً عن الجنوح الى نخبوية في الكتابة كتلك التي وسمت الادب "الحداثي" وافسدت العلاقة بين القارىء والكتاب. فما تمتعت به كتبها من قابلية للقراءة جعلها مرغوبة لدى جمهور جديد من القراء من ابناء الطبقة الوسطى المتعاظمة منذ نهاية الحرب على حساب الطبقات الاخرى. وهذا جمهور لا يمانع في قسطٍ من الاثارة الفكرية والمغامرة او ما يمنحه هوية يستقيها من شخصية او علاقة ما.
ما اعنيه هنا أنني كثيراً ما أبصرت في القطارات، لا سيما في ساعات الزحام الصباحية او المسائية، ناساً منكبين على قراءة روايات ايريس مردوخ، بيد انه لم يساورني الاحساس للحظة أنهم قيد السعي الى الانعتاق من كهف الوجود المادي وانما من "كهف" القطار المكتظ بالذاهبين الى اعمالهم والآيبين منها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.