على رغم ان لينين كان لا يزال يبدو وكأنه في صحة جيدة عند بدايات العام 1922، فإن متاعب سنوات النضال الطويلة، وبخاصة الرصاصتين اللتين كانت فاني كابلاف قد اطلقتهما عليه في صيف 1918 واستقرتا في جسده، كل هذا بدا واضحاً في ذلك الحين انه في طريقه لأن يكبح جماح نشاطه ويحد من آمال حياته المستقبلية. فإذا أضفنا الى هذا الدوخان ووجع الرأس اللذين كان زعيم الثورة البولشفية يشعر بهما منذ فترة، سندرك الأسباب الحقيقية التي جعلته، في يوم 16 ايار مايو 1922، ينكب بشكل جدي على بحث مسألة خلافته. فحتى ذلك التاريخ لم يكن أحد ليجرؤ على التفكير بخلافة لينين. فنشاطه ومكانته والأساطير التي راحت تحاك من حوله كانت كلها تجعله يبدو باقياً على رأس الدولة والحزب الى أبد الآبدين. ولكن منذ اللحظة التي أحس فيها بالتعب الشديد يستبد به، عند منتصف كانون الثاني يناير من ذلك العام، ومنذ اللحظة التي وافق فيها "المكتب السياسي" للحزب الشيوعي على منحه اجازة راحة من المفروض ان تبعده عن موسكو طوال الاسابيع التالية، صارت مسألة الخلافة مطروحة بشكل جدي. ولكن على رغم ان الزعامة اعطيت بالوكالة لكامنييف وستالين معاً، فان احداً لم يكن يفكر بأن ستالين يمكن ان يكون الخليفة المرجو. وهذا رأي اكده لينين نفسه يوم 16 أيار حين راح يستعرض اسماء المرشحين، الجديين لخلافته. والاستعراض حتمته في ذلك اليوم اصابة لينين، فيما كان يرتاح في غوركي، بجلطة في الدماغ، أبقته على وعيه، لكنها شلّت ذراعه وقدمه اليمنيين شللاً جزئياً، وجعلته عاجزاً عن الكلام لمدة طويلة. وهكذا، كان لا بد ما ليس منه بد، ألا وهو التفكير، وللمرة الاولى، بمسألة الخلافة، حتى وإن كان الأطباء قد توقعوا ان تتحسن صحته تدريجياً. ولينين كان مدركاً ان المرض، حتى لو لم يؤد الى القضاء عليه، فانه سيجعله غير قادر على ان يعمل كما كان يفعل في السابق: ستة عشر ساعة في اليوم. في ذلك الحين كان لينين في الثانية والخمسين من عمره، ولا هو ولا الحزب كانا قد فكرا في وضع نظام للخلافة. ومن هنا كانت الطريقة الوحيدة تقوم على التشاور للوصول الى اسم يتَفق عليه، وكان ذلك التشاور يتم في ذلك الحين بين لينين نفسه، ممثلاً بزوجته كروبسكايا، وبين كبار قادة الحزب. اما الاسماء المطروحة فكانت قليلة: كان هناك اسم تروتسكي، بطل الحرب الأهلية، لكنه كان شديد الخطر، قادراً على القيام بأفعال غير حذرة، كما ان "كبرياءه وغروره" كانا يغيظان رفاقه. وبعد تروتسكي كان هناك كامنييف الذي يتمتع بثقة لينين ويؤمّن جزءاً من مهماته، ثم كان هناك زينوفييف، الذي كان واحداً من اكثر المتطلعين للوصول الى القمة. كان هؤلاء الثلاثة من اوفر المرشحين حظاً. لكن المشكلة معهم جميعاً، كانت مزدوجة. فهم من جهة كانوا معتادين على معارضة لينين، وبخاصة حين اجري التصويت في 1917 على امكانية او عدم امكانية القيام بالثورة المسلحة، فكان رأي لينين هو: نعم. اما رأي الثلاثة فكان لا. صحيح انهم عادوا وأعلنوا تراجعهم عن موقفهم، وشاركوا في الثورة، لكن قيادات الحزب لن تنسى ابداً انهم في بعض الاحيان كان يمكن لهم ان يكونوا اصحاب رأي مستقل. ثم كانت مشكلتهم الثانية ان الثلاثة يهود. ولا يمكن ان يتزعم يهودي مثل هذا البلد العميق في ايمانه الارثوذكسي. اذاً ما العمل؟ كان هذا هو السؤال الاساسي، في وقت لم يكن فيه احد يأخذ امكانية ترشيح ستالين مأخذ الجدية. بل ان لينين لم يتوان في رسالة حضّرها بكل عناية وسرّية، خلال المرحلة التالية، لكي تُقرأ خلال انعقاد المؤتمر المقبل للحزب، عن اصدار حكم سلبي على ستالين كان من شأنه في رأي لينين، ان يقطع الطريق على طموحات ذلك "الشخص العادي". والحال ان لينين كان يعتبر ستالين عادياً و"مبتذلاً"، اما "عيوبه التي كان بامكاننا، في ما بيننا ان نتهاون معها، حين تكون الامور قيد النقاش بين الشيوعيين، فلا يعود بالإمكان قبولها من شخص يتولى زعامة الامانة العامة للحزب. ولهذا اقترح على الرفاق ان يعثروا "على طريقة يبعدونه بها عن منصبه هذا، ويحلّوا محله شخصاً يكون مختلفا عنه كل الاختلاف، يكون متسامحاً، مهذباً، وفياً، ويحترم رفاقه". هذه الرسالة كانت كروبسكايا، زوجة لينين، هي التي اكتشفتها وعرفت انها سوف تُقرأ على نطاق واسع خلال مؤتمر يضم اعداء لستالين يريدون ابعاده بأي شكل من الاشكال. غير اننا نعرف ان كل هذا لم يفد، ولم يفد كذلك كل التفكير العميق الذي بدأه لينين بالمسألة في مثل هذا اليوم من العام 1922. فستالين، بعد رحيل لينين الذي اودت به امراضه، كان هو الذي استولى على السلطة رغم كل شيء. وهو لم ينسَ ابداً اسماء الذين كانوا مطروحين مكانه للخلافة، وانتظر حتى سنحت له الفرصة، فتخلص منهم واحداً بعد الآخر... وكأنه في ذلك كان يدفن لينين مرة اخرى ويعاقبه.