الأرصاد: استمرار التوقعات بهطول أمطار بعدد من المناطق ورياح نشطة في الشمال    حبس البول .. 5 آثار أبرزها تكوين حصى الكلى    برعاية الملك.. انطلاق مؤتمر مستقبل الطيران في الرياض.. اليوم    1.8 % معدل انتشار الإعاقة من إجمالي السكان    رئيس وزراء اليونان يستقبل العيسى    أوتافيو يتجاوز الجمعان ويسجل الهدف الأسرع في «الديربي»    4 نصراويين مهددون بالغياب عن «الكلاسيكو»    أمير عسير يُعزّي أسرة «آل مصعفق»    خادم الحرمين يستكمل الفحوصات الطبية في العيادات الملكية    «عضو شوري» لمعهد التعليم المهني: بالبحوث والدراسات تتجاوزون التحديات    الترشح للتشكيلات الإشرافية التعليمية عبر «الإلكترونية المعتمدة»    البنيان: تفوق طلابنا يبرهن الدعم الذي يحظى به التعليم في المملكة    السعودية.. يدٌ واحدةٌ لخدمة ضيوف الرحمن    متحدث «الداخلية»: «مبادرة طريق مكة» توظف الذكاء الاصطناعي    الفضلي: «منظمة المياه» تعالج التحديات وتيسر تمويل المشاريع النوعية    جائزة الرعاية القائمة على القيمة ل«فيصل التخصصي»    السعودية من أبرز 10 دول في العالم في علم «الجينوم البشري»    5 بذور للتغلب على حرارة الطقس والسمنة    وزارة الحج والعمرة تنفذ برنامج ترحاب    وزير الخارجية يبحث ترتيبات زيارة ولي العهد لباكستان    نائب أمير منطقة مكة يُشرّف حفل تخريج الدفعة التاسعة من طلاب وطالبات جامعة جدة    ولي العهد يبحث مع سوليفان صيغة شبه نهائية لاتفاقيات استراتيجية    المملكة تؤكد استعدادها مساعدة الأجهزة الإيرانية    «أسمع صوت الإسعاف».. مسؤول إيراني يكشف اللحظات الأولى لحادثة «الهليكوبتر»!    جائزة الصالح نور على نور    مسابقة رمضان تقدم للفائزين هدايا قسائم شرائية    هاتف HUAWEI Pura 70 Ultra.. نقلة نوعية في التصوير الفوتوغرافي بالهواتف الذكية    تأجيل تطبيق إصدار بطاقة السائق إلى يوليو المقبل    الشيخ محمد بن صالح بن سلطان «حياة مليئة بالوفاء والعطاء تدرس للأجيال»    تنظيم مزاولة مهن تقييم أضرار المركبات بمراكز نظامية    أمير تبوك يرأس اجتماع «خيرية الملك عبدالعزيز»    «الأحوال المدنية المتنقلة» تقدم خدماتها في 42 موقعاً حول المملكة    القادسية بطلاً لكأس الاتحاد السعودي للبلياردو والسنوكر    جهود لفك طلاسم لغة الفيلة    تأملاّت سياسية في المسألة الفلسطينية    165 ألف زائر من بريطانيا للسعودية    "إنفاذ" يُشرف على 38 مزادًا لبيع 276 من العقارات والمركبات    الاشتراك بإصدار مايو لمنتج «صح»    5.9 % إسهام القطاع العقاري في الناتج المحلي    الخارجية: المملكة تتابع بقلق بالغ ما تداولته وسائل الإعلام بشأن طائرة الرئيس الإيراني    ثقافة سعودية    كراسي تتناول القهوة    المتحف الوطني السعودي يحتفي باليوم العالمي    من يملك حقوق الملكية الفكرية ؟!    وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا    الملاكم الأوكراني أوسيك يتوج بطلاً للعالم للوزن الثقيل بلا منازع    بختام الجولة ال 32 من دوري روشن.. الهلال يرفض الهزيمة.. والأهلي يضمن نخبة آسيا والسوبر    يوم حزين لهبوط شيخ أندية الأحساء    عبر كوادر سعودية مؤهلة من 8 جهات حكومية.. «طريق مكة».. خدمات بتقنيات حديثة    بكاء الأطلال على باب الأسرة    «الخواجة» نطق.. الموسم المقبل ضبابي    أمير القصيم يرعى حفل تكريم الفائزين بمسابقة براعم القرآن الكريم    الانتخابات بين النزاهة والفساد    تحقيقات مع فيسبوك وإنستغرام بشأن الأطفال    ارتباط بين مواقع التواصل و«السجائر الإلكترونية»    سقوط طائرة هليكوبتر تقل الرئيس الإيراني ووزير الخارجية    الديوان الملكي: خادم الحرمين يستكمل الفحوصات الطبية    انقسام قادة إسرائيل واحتدام الحرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قرائن من عام 1997 على تآكل ريع رفيق الحريري وانقلاب سياساته إلى مشكلة . الفساد وسوء استعمال السلطة يهددان إجماع الحكم وعقده بالانفراط 2
نشر في الحياة يوم 24 - 12 - 1998

لم ينفرد رفيق الحريري بالإشارة إلى الفساد، والى التذرع به إلى الطعن في إدارة البلاد السياسية. بل كان الياس الهراوي من أوائل من أثاروا المسألة. فذهب، في 16 كانون الثاني يناير، إلى أن "الترويكا"، وهي بكّرت خلافاتها، أي خلافات السيدين بري والحريري، في الهيمنة على أخبار الحكم، "ستار للهيمنة والاختلاسات". وكان الهراوي يتنصل من المشاركة في مثلث الحكم على قدم المساواة مع شريكيه المفترضين، وهو أضعف الثلاثة حيلة، وأقلهم انتفاعاً وغنماً، وعليه يقع الغرم الأكبر. وكان الهراوي تناول في نهاية العام المنصرم 1996، مسألة تعديل مواد الدستور الجديد التي تقيد سلطات رئيس الجمهورية ولا تلزم الوزير، نظير هذه القيود، بشيء. فيجوز نشر المرسوم، إذا لم يوقعه رئيس الجمهورية، بعد خمسة عشر يوماً على إقراره، وينشر القانون إذا لم يرده الرئيس إلى المجلس النيابي في الثلاثين يوماً التي تلي اقتراع المجلس عليه. وتولى، يومها، السيد بري على السيد الهراوي بالقول ان أيام الهيمنة ولّت إلى غير رجعة. فكان التنديد بپ"الترويكا"، والتنصل منها، سبيلاً من سبل الرد على رئيس المجلس النيابي.
فلقي التنديد صدى، وأثار لغطاً، وتذرع به كل "حزب" أو أصحاب هوى وغرضية، إلى الحملة على مخالفيهم وخصومهم ومنافسيهم. فطالب رئيس الحكومة الأسبق، سليم الحص، بلجنة برلمانية تتولى التحقيق في التهم المتبادلة والمتناقضة. واقترح "اللقاء التشاوري النيابي" تحريك النيابة العامة التمييزية. وترددت أصداء تهمة رئيس الجمهورية "زملاءه" والوزراء والنواب بالفساد في المحافل العامة. فصاغها كل محفل من المحافل على صورة المشكلات والقضايا التي اختبرها ويختبرها. فدان مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك، في 21 تشرين الثاني نوفمبر، "استعمال بعض السلطة لأغراض شخصية" أي سوء استعمال السلطة. فتقلب التنديد، من الإشارة الرئاسية في أول سنة إلى تسمية مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في أواخرها، بين صيغ مختلفة أجمعت على الطعن في تحلل السلطات من قيود القوانين والقضاء ومن قيد الفصل بينها. فليس الفساد، على هذا، مالياً وحسب، بل هو سياسي وأمني وإداري وإعلامي جميعاً. فلم يبق مرفق من مرافق الحياة العامة لم تتطاول اليه تهمة الفساد، على معنى سوء استعمال السلطة والخروج على القانون.
فبادر ايلي الفرزلي، نائب بري على رئاسة المجلس النيابي، إلى الطلب إلى اللواء نبيه فرحات، "الشيعي"، ومديرية قوى الأمن الداخلية، "السنية"، ومديرية الأمن العام، "المارونية"، إلغاء مئة وظيفة جديدة في جهاز فرحات، "الشيعي"، أمر باستحداثها "مرجع حكومي كبير"، كناية عن السيد الحريري، واختار موظفيها من منطقة واحدة، كناية عن الطائفة الواحدة، وقصر امتحاناتها على المشافهة، كناية عن انتقاء على الأسماء، من غير تنكير الكتابة وإغفالها. لكن طلب الفرزلي، في 27 كانون الثاني، لم يُستجب، بديهة. وهو لم يُخرج إلى العلن ليستجاب. فالغاية منه، شأن أمثاله، هي التشهير الظرفي بالخصم والمنافس والشريك في السلطة، ورد الطعنة إلى نحره: فالسيد الحريري ينسب إلى زميله وغريمه السيد بري استيطان الأجهزة الإدارية واستعمارها وإثقال كاهل الإدارة والمالية بمحاسيبه وأهل عصبيته" فيرد عليه بري، بواسطة نائبه أو بواسطة نجاح واكيم أو محمد عبدالحميد بيضون، طعنه فيه.
وكان الاتحاد العمالي العام، أي رئيسه الياس أبو رزق وقيادة الإتحاد من "التقدميين" الدروز والشيوعيين وبعض الشيعة النقابيين، عقَّب على تنصل الياس الهراوي بپ"ورقة توجهات إصلاحية ومطلبية" في 23 ك دعت إلى إنشاء "محكمة استثنائية" تحقق في الصفقات والاختلاسات و"الملفات" الوزارية. وعلى عادة الاتحاد العام، ولفيف من المعارضين ومحترفي الخطابة الملتهبة، عالج البيان "الورقة" الكارثة المحققة والوشيكة ب"برنامج انقاذي" جمع فيه المطاليب "العمالية" السائرة والدفاع عن الحريات. وكان الاتحاد العام يستبق استعمال الحكومة، أي وزارة العمل، نفوذها، وحقها في الاجتهاد الإداري وتفسير قوانين الإدارة، في تسجيل الإتحادات "العمالية"، والاعتراف بتكتلاتها. وأثمر النفوذ والاجتهاد انتخابات مكتب تنفيذي للاتحاد العام للنقابات القطاعية، في 16 شباط فبراير، تحالف فيها طاقم نقابي قديم ومرن، من أمثال انطوان بشارة، وبعض صنائع وزير العمل، أسعد حردان، وأنصار نبيه بري المتقلب الأحلاف...
فرد أبو رزق، المهدَّد في مكانة اتحاده "العام"، بدعوى على الحكومة اللبنانية إلى منظمة العمل الدولية ومنظمة العمل العربية، غداة انتخابات الاتحاد القطاعي، تنسب اليها التدخل في الشؤون النقابية من طريق "تعديل قانون العمل" تعديلاً متعسفاً، وتعطيل انتخابات مجلس إدارة الضمان، وتغيير مواعيد الانتخابات النقابية. وأدت هذه الإجراءات، وغيرها مثلها، إلى انقسام الاتحاد "العام" اتحادين، والى انتخاب 27 اتحاداً لائحة وزارة العمل، في 24 نيسان ابريل، مكتباً على رأسه أنصار الوزارة والحريري وبري، بينما جدد 24 اتحاداً لائحة الاتحاد العام - أبو رزق انتخاب أبو رزق وأصحابه. وكان أبو رزق وأصحابه امتنعوا من تسجيل ثمانية اتحادات نقابية مستحدثة، ولم يقبلوا انتسابها إلى الاتحاد العام. وهذه الاتحادات استحدثت على طريقة مألوفة، أي جمعت من أشتات الموالي والأقرباء، وأريد بها موازنة اتحادات منافسة. وعلى هذا المثال أنشأ بسام طليس، الأملي، "مجلس الاتحاد اللبناني لنقابات سائقي السيارات العمومية ومصالح النقل في لبنان"، ورئسه، رداً على "اتحاد" عبدالأمير نجدة، "الشيوعي". وكان طليس في قيادة الاتحاد "العام" - غنيم الزغبي. ولما تخلت "أمل" عن الزغبي، وأحيت حلفها مع أبو رزق، اجتمع شمل الاتحاد "العام" من جديد. وفي الأثناء أوقف القضاء المستعجل أبو رزق بتهمة انتحال صفة، وتهمة التشهير بالحكومة اللبنانية، ثم أطلق سراحه، وعاد هو إلى بعض الاعتدال في القول قبل أن يوافي أصحاب بري ويوافوه ويلتئم شمل المتفرقين.
وورثت الحكومة من العام الفائت قضية فساد كبيرة عرفت بقضية تزوير الطوابع الأميرية، ونسبت إلى بعض موظفي وزارة المالية. ونجم عن القضية مقتل رأفت سليمان في 25 أيلول سبتمبر 1996. ولما قصد بعض موظفي جهاز أمن الدولة المتهم فريد موصللي، شريك رأفت سليمان المفترض، لتوقيفه، في 17 تشرين الثاني 1996، أقدم عريفٌ من الجهاز، وعقيدٌ كان يقود المداهمة، على قتل موصللي عمداً. وعلى رغم الاشتباه الشديد في دواعي القتل المتعمد لم تجلُ المحاكمة هذه الدواعي، ولا غموض القضية كلها وملابساتها. فلما ذهب مجلس المطارنة الموارنة، في 9 نيسان، إلى ان "القضاء في لبنان يفقد استقلاله يوماً بعد يوم"، كان على الأرجح، يشير إلى استقالة وجدي الملاط من المجلس الدستوري "عضواً ورئيساً" في الرابع من الشهر نفسه، وتسويغه استقالته بمحاصرة أصحاب النفوذ الدستوري وعمله. لكن الحق أن القضاء كله امتحن امتحاناً قاسياً طوال العام 1997، ومعه الإدارة. أما مصدر الامتحان فعلاقتهما بالسياسيين الحاكمين.
ولما استنجدت كتل نيابية، قليلة العدد، بالنيابة العامة التمييزية في قضايا الاختلاسات والرشوة، لم تقع إلا على أطياف صامتة. وحققت قضية اعتقال ثمانية يابانيين، بعضهم من أعضاء "الجيش الأحمر الياباني" الإرهابي، في 15 شباط، حرجَ القضاء والتباس الأجهزة الأمنية.
وعلى نحو ما جارى القضاء، في قضية اليابانيين، ذرائع سياسية وإيديولوجية، وربما أمنية، غريبة عن معايير القانون، لم يحجم قاضي التحقيق الأول في بيروت عن تخلية "الديبلوماسيين" العراقيين الثلاثة، قتلة المعارض العراقي، طالب السهيل التميمي، قبل سنتين وتسعة أشهر، في 13 نيسان 1994، بكفالة خمسين ألف ليرة لبنانية أقل من خمسة وثلاثين دولاراً للواحد. وكان بيار عطاالله، صحافي "النهار" الموقوف بتهمة "الفتنة"، أطلق لقاء كفالة تبلغ مليون ليرة. واحتج القاضي لقراره بحصانة القتلة الثلاث "الديبلوماسية"، وحؤولها دون محاكمتهم في لبنان. وكان ينبغي لهذه الحصانة، لو صح التعلل بها لمنع المحاكمة، أن تحول دون التوقيف والتحقيق. فالحكم العراقي، وهو الآمر بالقتل، طلب استرداد "ديبلوماسييه" المزعومين غداة فعلتهم، من غير ابطاء. لكن السياسة اللبنانية لم تستجب الطلب، فالعلاقات بين الحكم العراقي والحكم السوري كانت ما زالت على حالها القديمة من الخلاف. فلما تحسنت حال العلاقات بين النظامين اللدودين، غداة تعثر مسيرة السلام، وتردي الحال الاقتصادية السورية، وظهور ضعف الدولة العراقية، مالت السياسة السورية ببطء إلى تحسين العلاقات بين البلدين. وكان لبنان مختبر المحاولة وفي 20 نيسان زار جاك صراف، رئيس جمعية الصناعيين اللبنانيين، بغداد بدعوة من اتحاد الصناعات العراقي. وإذا قضى المجلس العدلي بالإعدام في الثلاثة الذي قتلوا رئيس جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية، الشيخ نزار الحلبي، وفي محرضهم المتواري في مخيم عين الحلوة بصيدا، أحمد عبدالكريم السعدي "أبو محجن"، في 17 كانون الثاني، وشُنق الثلاثة في سجن رومية، في 24 آذار، على رغم حملة استنكار وتخويف شنتها "الحركات والجمعيات الإسلامية" "الجماعة الإسلامية"، وحركة التوحيد، والشيخ محمد علي الجوزو، مفتي جبل لبنان، بقي المحرض، السعدي، آمناً في حمى المنظمات الفلسطينية الإسلامية والمناهضة لياسر عرفات، رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية. واستبعدت الأجهزة الأمنية اللبانية، ذراع القضاء اللبناني، شأن السلطة السياسية نفسها، المبادرة إلى استرداد السعدي، وهو المقيم بأرض لبنانية، ولو من طريق المفاوضة والمساومة. فحصانة المخيم الفلسطيني، وهو ملجأ المنظمات الفلسطينية العسكرية والإسلامية وقيادتها "الخارجية" تقيم في دمشق وممر بعض المنظمات الإسلامية المحلية، تعلو التزامات القضاء والعدالة والقانون وتتقدم عليها. والتقديم هذا، على رغم تقلص رقعته إلى المسائل المتصلة بالسياسة السورية الإقليمية، حمل وزارة الخارجية الأميركية على تجديد حظر السفر على الرعايا الأميركيين إلى لبنان، في 17 كانون الثاني. وعندما أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية، في 30 تموز يوليو، قبل شهرين ونصف الشهر على زيارتها بيروت، رفع الحظر، وسبق رفع الحظر المشروط تنويه وزارة الخارجية، في شباط، بقضاء "الجهد السوري - اللبناني المشترك" على الزراعة غير المشروعة، جاء الرفع مشروطاً بتحذير من ينوون السفر، من "خطورته" الى مبادلته بالتعاون على ملاحقة محتجزي الرهائن بإقران لبنان الإنضمام إلى الاتفاقية الدولية لمناهضة احتجاز الرهائن، على ما صنع المجلس النيابي في 15 تشرين الأول، وعلى من يقصد لبنان، من الأميركيين، أن يعلم أنه إنما يقصد "بلداً خطراً" عليهم.
فالمراوغة بإزاء القانون والتشريع تكاد تكون عامة، يتشارك فيها الحكام والمحكومون، وإن بَزّ فيها الحكام المحكومين. ولا تقتصر المراوغة على متعلقات المصالح "القومية"، أي السورية، في لبنان، ومن ورائه في المشرق كله. بل هي موضوعة كذلك على الشؤون الداخلية "الخالصة"، إذا صح أن شؤوناً داخلية خالصة بقيت بمنأى من العناية الإقليمية والاستغلال الإقليمي. وإذا دخلت محاكمات سمير جعجع، زعيم الجناح المسيحي المقاتل والمسلح، وسلسلتها المتناسلة انفجار كنيسة الزوق، اغتيال داني شمعون وأسرته، قتل ايلي الزايك، محاولة اغتيال ميشال المر، اغتيال رشيد كرامي، وربما قتل طوني فرنجية إذا "تيسر" الأمر تحت "المصالح القومية" شأن ملاحقة أنصار "التيار الوطني الحر" أو أنصار ميشال عون في حوادث سياسية وأمنية تتطرق إلى السياسة السورية في لبنان، فلا تُحصى المسائل غير السياسية التي تُشبك بمصالح السياسيين والحكام، وتَفيد إفادة كبيرة من شبكها أو اشتباكها هذا.
فمن فصل وزارة الصناعة عن وزارة الصناعة والنفط المشتركة، السابقة في 15 ك، وإعلان العزم على أغلاق مكب برج حمود وقطع دابر تسميمه هواء الضاحية الشمالية الشرقية في 30 أيار مايو، قرار الإغلاق الجازم اتخذ في 22 ك 2، إلى اقرار محافظ جبل لبنان قفل الكسارات غير المرخص فيها في 2 نفسه، واعتماد مجلس الوزراء في 12 آذار، مخططاً توجيهياً ملزماً لمواضع مقالع حجارة البناء وكسارات البحص، باستثناء إقليم الخروب وجزين، ومن إنشاء وزير الإعلام لجنة تراقب البرامج السياسية "الفضائية"، ومناقشة التنصت على الهاتف، إلى تقاذف الحكومة والمجلس النيابي قانون انتخابات المجالس البلدية والاختيارية، إرجاء وتمديداً وتعديلاً، قبل بت المجلس الدستوري فيه وإبطاله قانوني التمديد، في 12 أيلول وفي 15 أيلول تمنت السيدة أولبرايت في خطابها بپ"فوروم بيروت"، انتخابات "على كل المستويات"، إلى المطاولة في بت دعوى التجنيس التي رفعتها الرابطة المارونية على وزارة الداخلية لدى مجلس الشورى في 7 حزيران أمر مجلس الشورى وزارة الداخلية إيداع وثائق تجنيس 200 ألف مواطن جديد الجهة المدعية منذ أربع سنين" من هذه كلها إلى تلك كلها، ظهر استعمال السلطة في التدبير الإداري، وثقف المصالح الخاصة والعصبية، على القرارات السياسية، ظهوراً جلياً، وفي بعض الأحيان، فاحشاً.
فكانت هذه المسائل، وفصولها المتتابعة والمتقلبة والمتناقضة، مادة شطر من "الحياة" السياسية اللبنانية. وفي معظمها دلت أفعال الحكم، على ما اعترف بعض وزرائه، على تراخيصه بإزاء المصالح الخاصة والخفية وعلى ضعفه عن إنفاذ إرادته وقراراته" والسبب في ذلك إما انقساماته، أو احتماء بعض أهل المصالح بأهل القوة "الوطنيين" أو الإقليميين. فاستقلت وزارة الصناعة لأن الحاجة مسّت إلى تنصيب وزير كاثوليكي خَلَف وزير وزارة البيئة السابق بيار فرعون، وهذه آلت إلى وزير درزي أكرم شهيب من غير زيادة عدد وزراء الدولة سيف الدين، حنا، إده زيادة معيبة أو فاضحة. وأرجىء إلغاء مكب برج حمود إلى تموز، ومرة بعد مرة، على رغم جسامة ضرره، وقدم هذا الضرر، تفادياً ل"استفزاز" أهالي اقليم الخروب وساحل الشوف، أو غضب أهل العمروسية، وهؤلاء لم يبالوا، بعد أن تصدرهم بعض أصحاب الشيخ الطفيلي، بوَشْكِ تغطية معمل النفايات بغطاء محكم يمنع تسرب الروائح ويحصر الاحتراق في الداخل، فأحرقوا المحرقة، وبددوا مليون دولار ونصف المليون دخاناً وناراً.
أما المقالع والكسارات والمرامل فوسع اللبنانيين، كل مساء، طوال شهور لم تنصرم ولم تنته، تعقب فصولها الآخذ بعضها بتلابيب بعض، من طريق تلفزيون "الشبكة اللبنانية للإرسال" إل.بي.سي. بأم العين. فإذا ختمت كسارة بالشمع الأحمر في الصباح استأنفت العمل بعد الظهر. وإذا قُصر نقل الحجارة على ساعات بعينها، رؤيت الشاحنات تنقل المادة الثمينة في ساعات أخرى. وإذا نهي عن استغلال موقع رؤي ابتداء العمل في قفاه. ولم يتستر بعض أصحاب هذه "الصناعات"، من المقاولين والسياسين وأقارب السياسيين، على انتهاكهم القانون، وأيدوا انتهاكهم بالذرائع الاقتصادية "العامة". ولم يبخل عليهم الناخبون البلديون بثقتهم، فقلدوهم رئاسات بلدية في أكثر البلاد تضرراً من مقاولتهم وصناعتهم.
وعلى مثال قريب من هذا جرت معالجة مسائل مثل الانتخابات البلدية ودعوى التجنيس وسياسة الإعلام. فالانتخابات البلدية لا تقلق فعلاً إلا رفيق الحريري. فهو وحده بين "الثلاثة" مدعو إلى إرساء زعامة محدثة على ركن وطني، أي لبناني عام. وهذه ليست حال رئيس المجلس النيابي "الزعيم" الشيعي المفترض ولو منازَعاً منازعة شديدة وحادة، ووريث إرث الحروب الطويلة، وصاحب آلة سياسية وعسكرية كان لها دور في تقويض الدولة والاستيلاء على رئاسة جماعة من الجماعات المتقاتلة، والتمهيد لاستتباب الأمر للعروبة السياسية الحاكمة. ولا هي حال رئيس الجمهورية، صاحب الدور الثانوي والضئيل في طائفته، في الحرب كما في السلم، وهو إذا بالغ في الطموح الانتخابي، البلدي أو النيابي، لم يبلغ به طموحه أبعد من زحلة ودائرتها القريبة، ومن اقتسام النفوذ مع الياس سكاف.
أما رئيس الحكومة فهو رجل الدولة، دولة الجمهورية الثانية أو الثالثة، القوي" وهو ركن الاستقرار اللبناني الذي تطلبه السياسة السورية للبنان ولا تستتب سيطرتها عليه إلا بدوام هذا الاستقرار. لكن الرجل، وهذه حاله اليوم، لم يباشر السياسة الداخلية قبل اختياره رئيساً في خريف 1992، واضطر إلى ترؤس الحكومة طوال ولاية نيابية تامة وهو ليس نائباً، وليس في المجلس الواسع، حيث لجمعية المشاريع نائب، ولپ"الجماعة الإسلامية" كتلة صغيرة، وللحزب القومي كتلة كبيرة. وليس في المجلس من ينتسب اليه غير شقيقته وباسم السبع ربما. ولا شك في ان انتخابات صيف 1996 كانت فرصة استدرك الحريري فيها على الفرق الكبير بين مكانته ودوره السياسيين، الفوقيين والبنيويين، وبين ضآلة أسسه الأهلية والعصبية والانتخابية. وعلى رغم تعبئته الموارد التي عبأها في انتخابات 1996، في أعقاب أربع سنين من الحكم المنفرد، ضَمنت له، بكفالة سورية معلنة وصريحة، كَبْتَ كل منافسة سياسية سنية فالسيد سليم الحص يعد الأسئلة النيابية، والسيد عمر كرامي يمزح، والسيد تمام سلام "آدمي"، والسيد رشيد الصلح أدى قسطه للعلى مرتين، أما السادة العبيدي وطرابلسي وسعد والخطيب والبعريني وغيرهم، فقد يحين وقتهم، لكنه لم يحن بعد - على رغم هذا لم يحرز الحريري قوة وطنية تكافىء مكانته في الدولة. وعلى هذا فهو في غنى عن انتخابات بلدية قريبة من الانتخابات النيابية تمتحن مكاسبه النيابية، إلى مسائل شائكة مثل التعيين والتوازن الطائفي والمشاركة المسيحية.
وفي هذا السبيل عمل على إرجاء هذه الانتخابات، وهو الغني عنها. على حين عمل شريكاه اللدودان على اجرائها. وتوسل إلى الإرجاء بوسائل لم يتردد وزير الهراوي الحميم والخاص، السيد فاخوري، في وصفها في معرض التعليق على استرداد رئيس مجلس الوزراء مشروع قانون الانتخابات البلدية، في 4 نيسان، بالمخالفة القانونية الموصوفة، شأن قول البطريرك صفير في الأمر نفسه إنه "تجاهلٌ للدستور واستهانة بالقوانين". بل إن الحريري سعى في رشوة النواب بالتمديد للمجلس ثمانية أشهر، فوق مدة الولاية أربع سنين، لقاء إرجاء الانتخاب البلدي. ولولا حكم المجلس الدستوري بإبطال صيغة القانون التي فصلها رئيس الحكومة، ولولا التمني الأميركي ربما، لكانت كلمة الحريري هي النافذة.
وبإزاء هذا التصريف للسلطة، وهذه الوسائل، تبدو "الفضائح" المالية التي تورط فيها، أو ورط فيها، موظفون قليلو الحيلة، مثل تزوير الطوابع، واختلاسات مرفأ بيروت أدعي فيها في 16 حزيران، ومخالفات المدير العام السابق لصندوق الضمان الاجتماعي وثلاثة رؤساء مكاتب سابقين في الصندوق نفسه في 15 و17 أيلول، وتلزيم تنظيف خزانات الزهراني بمليون دولار عوض نحو خمسين ألفاً، واجراء صفقات فيول لمؤسسة كهرباء لبنان بالتراضي عوض المناقصة العامة، وإلغاء، وتلزيم الحكومة استثمار سوق المطار الحرة من غير مزاد علني ولخمسة عشر عاماً لقاء 38 مليون دولار فقط، وبيع "سوليدير" ثمانين عقاراً بتحسين لسعر المتر المربع والمبني الواحد بلغ تسعة آلاف دولار من غير تسديد ضريبة التحسين هذه، واستئجار شركة طيران الشرق الأوسط ثلاث طائرات "آير باص" من سنغافورة بمبالغ طائلة... تبدو هذه "الفضائح"، قياساً على مثال استعمال السلطة في مسائل مثل الانتخابات البلدية وتنظيم الإعلام والتجنيس، متواضعة. وفي هذه المسائل كلها، وفي غيرها مثل التنصت على الهاتف والاعتقالات بعقب إطلاق النار على سيارة النقل السورية بطبرجا، ظهر دور المجلس النيابي ضئيلاً، وبدت رقابته على العمل الحكومي، على ما ظهر من غير لبس في مسألة الانتخابات البلدية، طيفية وطفيفة. فثبت ان في الوسع افسادَ السلطة كلها على اختلاف هيئاتها و"سلطاتها".
* كاتب لبناني


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.