خطط أرامكو السعودية التوسعية في النفط والغاز والتكرير تعزز زيادة تدفقاتها النقدية    السعودية ترحب بإعلان التوصل إلى اتفاق سلام بين أرمينيا و أذربيجان مشيدة بالرعاية الأمريكية للاتفاق    الفيحاء يتعاقد مع "الخيبري"لمدة 3 سنوات    وزير الخارجية يتحرك دبلوماسياً لوقف الانتهاكات في غزة    برشلونة يعيد شارة القيادة لتير شتيغن    بيع صقرين ب 180 ألف ريال في الليلة الأولى لمنصة المزاد الدولي لمزارع إنتاج الصقور    جمعية فضاء العالية للتنمية الشبابية تختتم برنامج ماهرون الصيفي    ضبط 4 باكستانيين وهندي في الشرقية لترويجهم (32) كجم «لشبو»    السعودية توزّع 847 قسيمة غذائية في عدة محافظات بالأردن    فيصل بن فرحان ووزير خارجية ألمانيا يبحثان التطورات الأخيرة في قطاع غزة    صقارون دوليون يثمنون تسهيلات نادي الصقور في نقل واستضافة الصقور    كأس العالم للرياضات الإلكترونية 2025 .. ختام ربع نهائي بطولة Rainbow Six Siege X    مواهب الذكاء الصناعي تضع المملكة ضمن أفضل 20 دولة    البرازيل «تستنكر» ضغوط أميركا على القاضي المكلف بقضية بولسونارو    النصر يتحرك لضم جناح منتخب فرنسا    الرئيس اللبناني يؤكد ضرورة إعادة ربط لبنان بدور إقليمي فاعل    البرلمان العربي يستنكر قرار كنيست كيان الاحتلال بإعادة احتلال غزة ويدعو لتحرك دولي عاجل    "القرني" يختتم دورة تدريب المدربين    أمير جازان يرعى ملتقى أبحاث السرطان 2025 بجامعة جازان    الشيخ أسامة خياط: يدعو لغرس قيم البر والتقوى في الأسرة والمجتمع    الشيخ عبدالباري الثبيتي: سورة قريش تُجسّد أعظم النعم .. الطعام والأمان    المصالح الوطنية السعودية    الخلاف يزداد بين برشلونة وحارسه شتيغن    النفط يتكبد خسارة أسبوعية حادة    سفير جمهورية مالطا لدي المملكة يزور قرية جازان التراثية    الربيعة: تطبيق "نسك" متاح مجانًا دون استهلاك بيانات الإنترنت    أنواع فيتامين D وجرعاته الصحيحة    النصر يكسب ودية "رايو آفي" البرتغالي برباعية    ضبط مواطن لارتكابه مخالفة رعي في "محمية الإمام تركي الملكية"    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على انخفاض    %83 من القراء هجروا المجلات    بمشاركة نخبة الرياضيين وحضور أمير عسير ومساعد وزير الرياضة:"حكايا الشباب"يختتم فعالياته في أبها    «المساحة الجيولوجية»: رصد زلزال في الإمارات بقوة 3.4 درجات    (عشان نصور،،،،،،!)    أمير جازان ونائبه يلتقيان مشايخ وأعيان الدرب    سبعة آلاف خطوة تعزز الصحة    بهدف تطوير الخدمات الرقمية وتعزيز جودة الحياة.. أمانة منطقة عسير توقّع مذكرة تفاهم مع "بلدي" بحضور وزير البلديات والإسكان    نائب وزير الحرس الوطني يطلع على برامج الإرشاد والتوجيه لتعزيز الوعي الديني والفكري    رئيس وزراء موريتانيا يغادر المدينة المنورة    أمير منطقة جازان ونائبه يلتقيان مشايخ وأهالي محافظة الدرب    أمير جازان يستقبل سفير جمهورية مالطا لدى المملكة    العطش يلتحق بالجوع في غزة وتحذيرات من توسيع إسرائيل عملياتها    ديوان المظالم يفتح باب التقديم على التدريب التعاوني لطلبة الجامعات والمعاهد السعودية    المجلس الاستشاري لمركز صحي المرابي يناقش احتياجات الأهالي مع تجمع جازان الصحي لتعزيز الخدمات الطبية    2 مليون دولار لتأمين «ابتسامة» نجمة هوليود    زيلينسكي يدعو واشنطن لزيادة الضغط على موسكو.. روسيا تدرس هدنة جوية مع أوكرانيا    استهداف (أبو سلة) بطائرات مسيّرة.. اشتباكات بين الجيش اللبناني ومطلوبين في بعلبك    احتفال الفرا وعمران    البدير في ماليزيا لتعزيز رسالة التسامح والاعتدال    الأرصاد: أمطار متفرقة حتى منتصف أغسطس    أم ومعلمة تقتحمان مدرسة لسرقة «امتحانات»    فتح باب التقديم لدعم المشاريع السينمائية    إنجاز طبي في الأحساء.. زراعة منظم ضربات قلب لاسلكي لمريض    فريق سفراء الإعلام والتطوع" يزور مركز هيئة التراث بجازان    الأمير فهد بن سلطان يطلع على نتائج القبول بجامعة تبوك.    مركزي جازان ينجح في إزالة ثلاث عقد في الغدة الدرقية الحميدة بالتردد الحراري دون تدخل جراحي    محافظ تيماء يستقبل مدير عام فرع الرئاسة العامة لهيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة تبوك    نائب أمير الرياض يؤدي الصلاة على والدة جواهر بنت مساعد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الصاعقة" من ملفات المخابرات العامة . مطاردة السنجاب هشام محجوب تنتقل إلى القاهرة وتعود إلى لندن في إطار عملية الخداع 2 من 3
نشر في الحياة يوم 19 - 10 - 1998

هشام علي محجوب ضابط أول عمليات في مصر للطيران في لندن. مهمته تحديد مسارات وارتفاعات الطائرات ومتابعة نوبتجيات الطيارين والأطقم، سافر مع أبيه المريض بالسرطان لعلاجه في لندن، وهناك طلب من صديقه رأفت مدير فندق رويال لانكستر ان يساعده للحصول على عمل اضافي ودخل اضافي، وقام رأفت الذي كان يرتبط بعلاقة بالموساد جهاز المخابرات الإسرائيلي بتعريفه بإدوارد كوشير بوصفه رجل أعمال مسيحياً لبنانياً والذي بدوره استغل حاجة هشام للعمل، وأبلغه أنه يريد جمع معلومات عن الاستثمار في مصر، لأنه يريد انشاء شركة جرارات بلجيكية في مصر. ثم طلب منه أن يسافر إلى مصر لجمع المعلومات المطلوبة، وأعطاه 600 دولار.
في إحدى حجرات مبنى المخابرات العامة، كان أفراد المجموعة التي تتابع الموضوع، قد انهمكوا في مناقشة تفاصيل هذه العملية، التي اكتملت بداياتها، وتنبئ بأن الموساد وجد منفذا إلى عميل جديد.
وكانت كل الاحتمالات موضوعة على المائدة، أحدها أن تتم متابعة تحركات هشام في القاهرة، فإذا ما أخذت عملية جمعه للمعلومات بعداً معيناً، يتم القبض علىه متلبسا، ويواجه باتصاله بعناصر الموساد في لندن، أما الاحتمال الثاني فكان أن يترك لينفذ كل تكليفات الموساد، ومن هذه العملية يتعرف أفراد الجهاز المصري، على نقاط اهتمام وتركيز العدو، والمعلومات المطلوب وصولها إلىه. أما الاحتمال الثالث أن يتقدم هشام للابلاغ عما حدث ويعتبر بذلك مواطنا مصريا يتمتع بالوطنية فيتم تكليفه بالعمل كعميل مزدوج .
ثم كان الاحتمال الرابع، الأكثر تعقيداً، الذي يقوم على فكرة الاستخدام العكسي للجاسوس، أو معرفة طبيعة التكليفات الموكلة إلىه، من دون أن يدري ثم إمداده بمعلومات مضللة، بما يربك قيادة العدو، ويشوش تفكيرها. أي اعتبار الجاسوس كالقناة، كما تنقل خلالها تكليفات من جانب العدو، يتم تسريب معلومات كاذبة - خلالها - من جانبنا الى العدو.
وهشام حتى هذه المرحلة، لم يتورط في شيء، فقد كان ما حدث هو مجرد لقاءات ووعود، وستمائة دولار دفعت بإيصال، كما لم يتلق الجانب الإسرائيلي بعد أية معلومات، بل ولم يشرع في إعطاء هشام التكليفات الحقيقية الكبيرة. إن الفأر ما زال طليقاً حراً لم يدخل بعد إلى المصيدة، وإنما كان قد تلقى الطعم وابتلعه.
ولأن مثل هذه المساحات ليس فيها مجال للهزل، أو التراخي، فإن التحرك يحسب على احتمال الواحد في الألف، ومن ثم فقد بدأت المراقبة المستمرة للهدف، بدءا من اتصاله بضابط الموساد الاسرائيلي، الذي حمل اسم ادوارد كوشير، وصفته رجل اعمال انكليزي مسيحي من أصل لبناني!
كان الاسم الكودي الذي أطلق على هشام في جهاز المخابرات العامة المصري هو السنجاب، تشبيها له بذلك الحيوان الذي يمضي وقته في جمع ثمار البندق والكستناء في حدائق لبنان، ليخزنها ويخبئها ويستعملها في ما بعد، بالضبط مثلما يفعل الجاسوس حين يجمع المعلومات.
ومن ثم فقد وضع السنجاب تحت المراقبة الكاملة، لمعرفة أي تطورات تطرأ على علاقته بالاسرائيليين.
وفي الاسبوع الأول من حزيران يونيو عام 1972 عاد هشام محجوب إلى القاهرة، ومعه والده الذي كان لا زال يتلقى علاجا بالمواد الكيماوية وذلك لاستكمال علاجه في القاهرة.
كانت القاهرة تصطخب بمشاعر وأفكار عجيبة، إذ كانت على الرغم من مرور شهور سته - ما زالت تحت تأثير مظاهرات الطلبة والعمال الهائلة، واعتصام ميدان التحرير الشهير، وصيحات الاحتجاج، والاتهامات بالتراخي، بسبب عدم قدرة القيادة السياسية على أن تبر بوعدها في أن يكون عام 1971 هو عام الحسم!
بلد بأكمله يقف على أطراف أصابعه، وتشكل مانشيتات الصحف منظر حياته الىومية، وحالته العصبية والمزاجية الجماعية!
الجرائد هذه الأيام كانت تعج بأخبار وأفكار ساخنة:
محمد حسنين هيكل يكتب في مقاله بصراحة متناولا كيف هزمنا في عام 1967 ولماذا هزمنا، وما الذي هزم فينا، وأين الطريق لتصحيح الهزيمة؟ ويقول إن هذه الأسئلة راودته ولم يتوصل لإجابات كاملة عنها!
والأهرام يعلن عن أجرأ عملية فدائية في أرض العدو. وأن ثلاثة يابانيين من صفوف المقاومة الفلسطينية حولوا مطار اللد إلى جحيم من النيران، 27 قتيلا بينهم أكبر علماء الجيش الإسرائيلي. الجرحى أكثر من 80 نصفهم في حالة خطرة. عاصفة من التفجيرات تستقبل نيكسون، 12 تفجيرا أصاب أحدها مستشار الرئيس الأميركي لشؤون إيران. العراق يؤمم شركة النفط العراقية. وسورية هي الأخرى تؤمم شركة النفط السورية. القذافي يعلن أن مفتاح حل مشكلة احتلال الأراضي العربية في يد السادات الذي تتوافر لديه استعدادات للمعركة أكثر من أي وقت مضى. مسؤول مصري يعلن أن المناورات العسكرية المصرية مستمرة منذ 6 شهور. زلزال في القاهرة شعر به كل السكان لقوته. غرق معدية في النيل تحمل 50 شخصا قرب بنها. إسرائيل تهاجم لبنان بقوات برية وجوية وتأسر 5 ضباط سوريين، وآخر لبنانياً، وتتسبب في مصرع 18 شخصاً. مجهول يلقي قنبلة على السفارة المصرية في روما. رئيس الأركان الاسرائيلي يشير الى حشود مصرية على الحدود، ويطالب برفع درجة الاستعداد.
كان هذا هو شكل مصر المحروسة وقت أن عاد هشام علي محجوب إلىها محملا بأول تكليف لجمع المعلومات حتى وإن كان بريئا، حتى وإن كان محدودا، إذ أن الموضوع كله كان بالون اختبار لقدرات هشام، ولمدى التفات المخابرات المصرية إلىه وإلى بدء إتصالاته بالموساد.
وفي الغرفة التي اجتمع فيها أفراد المجموعة المكلفة بالعملية، كانت الخطط قد وضعت لمطاردة السنجاب في القاهرة، والوقوف على كل تفاصيل تحركاته.
في بداية وصول هشام للقاهرة، نزل في فندق كليوباترا في ميدان التحرير لمدة ثلاثة أيام حتى ينتهي من "مهمته"، لم يكن يدري أنه يقوم بمهمة ذات طابع سري، ولكن فقط كان يود أن ينجز بسرعة، وبكفاءة بعيدا عن ضجة البيت عند أمه وزيارات الأقارب والأصدقاء.
وفي الفندق كان أحد رجال المخابرات المصرية، يجلس في صالة الاستقبال كواحد من موظفيه، لاستلام هشام عندما يدخل، وعندما يخرج يسلمه لزميل له على مقعد سيارة أجرة في منطقة انتظار السيارات ليبدأ في ملاحقته من ساعة خروجه من الفندق، وركوبه سيارته، أو أول سيارة أجرة، وكانت سياره الأجرة الواقفة في أول طابور انتظار التاكسي - نفسها - بقيادة أحد رجال جهاز الأمن المصري.
ولم يتركوه لحظة واحدة، وهو يتجول على مكاتب السماسرة، للسؤال عن أسعار الأراضي، أو مكاتب موظفي التليفونات للبحث عن خط تليفوني بطرق ملتوية إبان ازمة التليفونات المستعصية بل أنهم لم يتوقفوا عن متابعته حتى إذا صعد أحد مكاتب السماسرة، كان لا بد أن يصعد وراءه أحد رجالنا ليعرف بالضبط أين صعد، ومع من تكلم أو تعاقد، وحتى مكتب السمسرة نفسه سوف يكون موضع تحقيق دقيق بعد انصراف الشخص المراقب!
حتى احتمال أن يكون رجل الموساد قد درب هشام بعيدا عن أعين رجال المخابرات المصرية على فنون الهروب من مطاردة السيارات، لم يترك دون احتياط، فإذا لجأ هشام إلى إجراءات تأمينية ليعرف ما إذا كان أحد يلاحقه أم لا، كان يدخل - مثلا - في شارع سد بالسيارة، ليعرف ما إذا كانت السيارة خلفه ستدخل هي الأخرى أم لا، أو أن يقوم باللف حول ميدان Round about مرتين أثناء قيادته للسيارة، أو حتى بالتاكسي الذي يركبه فإذا قامت السيارة خلفه باللف مرتين عرف أنها كانت تتابعه وتطارده، وبالتالي يتجه وجهة اخرى أو يعود أدراجه، وهنا يجب أن ينسحب رجل الأمن ويتصل بسيارة أخرى من أقرب نقطة لتتولى من جهتها المراقبة والمتابعة.
وعلى الرغم من أنه ثبت أن هشام لم يدرب على تقنيات الهروب من المتابعة إلا أن المراقبة استمرت لحظة بلحظة، وكانت حصيلتها بالتحديد أن معظم الأماكن التي سأل هشام عن أسعار إيجارات المكاتب فيها والتي أخبره إدوارد أنها ستكون مناسبة لمقر الشركة، كانت تقع على طرق رئيسية التي درجت القوات المسلحة على استخدامها ليلا لنقل العتاد والجند، أثناء التحركات أو المناورات.
أما أماكن قطع الأراضي التي كلفوه بالسؤال عنها لبناء المصنع، فكانت كلها تقريبا في دائرة واحدة، تقع حول، أو في منطقة كوم أوشيم بمحافظة الجيزة، وهي تلك المنطقة التي توجد بها قاعدة، تدخل ضمن نطاقات الدفاع الجوي عن القاهرة الكبرى!
وبعد أن أمضى هشام محجوب ثلاثة أيام في الفندق، ذهب إلى شقة أسرته وأمضى هناك بقية أيام الشهرين اللذين أمضاهما في القاهرة.
في أواخر أيام الاجازة كان هشام تواقا للعودة الى لندن، وتوصيل المعلومات المطلوبة إلى إدوارد، كما يتحصل منه على دفعة مالىة جديدة وبخاصة أن زوجته كانت قد اتصلت به من لندن وطلبت منه مبلغا إضافيا لمصاريف العلاج.
لم يعد هشام ملتفتا في الكثير أو القليل، إلى عمله في "مصر للطيران"، كل ذرة من تركيزه كانت منصبة على العمل مع إدوارد، وذلك الجو الفخيم، المليء بموائد العشاء الفاخر، في أكبر الفنادق، وأهم أنواع النبيذ، ونوادي القمار، وآفاق الأهمية التي تنبئ بها.
وطوال المسافة التي قطعتها الطائرة به في نهاية إجازته إلى لندن، لم يكن في ذهنه شيء سوى مدى رضا إدوارد عنه عندما يعود الىه بالمعلومات، ولم يكن في ذهنه أن عيون رجال المخابرات المصرية تتابعه خارج وداخل البلاد.
هذه المرة حمله التاكسي من المطار إلى فندق شديد الفخامة إسمه السافوي كورت، وكان إدوارد قد اتفق معه على أن ينزل فيه لدى عودته من القاهرة، وأن الشركة ستقوم بدفع الحساب!
والحقيقة أن إدوارد كان يحرص من وراء اختياره لهذا الفندق بالذات، إلى تحقيق عدة أهداف في وقت واحد: أولها انه بعيد عن فندق رويال لانكستر، الذي اعتادت أفواج مصر للطيران النزول فيه في ذلك الوقت، والذي كان هشام دائم التردد علىه للالتقاء مع أعضاء الأطقم أو اصطحابهم إلى الخارج. ثم أنه فندق مبهر بالفعل والاقامة الملوكي فيه تدخل خطة إبهار هشام التي بدأت بكازينو البلاي بوي، وهو - كذلك - يقع أمام فندق ستراند مباشرة. وهو فندق كما سنرى له مداخل ومخارج مختلفة وعجيبة، يمكن أن تستخدم بنجاح في عمليات تأمين اللقاءات، وأخيرا فإن وجود المدخل الخاص حارة صغيرة في فندق سافوي كورت يجعل أية عملية مراقبة - إذا أراد صاحبها ألا تنكشف - أن تبدأ من شارع ستراند، أي خارج الممر، وبالتالي فإن هشام أو إدوارد، يمكن أن يستقل تاكسياً من داخل هذا الممر ويمرق به إلى الشارع العمومي من دون أن يلاحظه أي مراقب!
أنهت موظفة استقبال إجراءات تسجيل وصول هشام، بينما، هو يلقي بنفسه على أحد المقاعد المتناثرة في الصالة على أرضية مربعات من الرخام الأبيض والأسود، تناثرت علىها سجاجيد قديمة، ورفع ناظريه إلى السقف الذي ترصعه 12 نجفة أثرية من الزجاج المصنفر والنحاس الأوكسيديه، وأخذ يسلي نفسه بمراقبة الداخل والخارج من البابين الدوارين، اللذين تعلو كل منهما من الداخل نصف دائرة من زجاج أخضر فاتح، واللذين يفضيان إلى الممر الخارجي، حيث يوجد سافوي تياترو، أو مسرح سافوي ومجموعة من المتاجر الفخمة، وموقف لسيارات الأجرة السوداء التقليدية، يعلوه سقف شفاف من الزجاج المصنفر.
كانت التعلىمات إلى هشام واضحة... الا يتصل بإدوارد وأن ينتظر أن يتصل به إدوارد، بحجة أن رأفت دائم التردد على مكتب إدوارد ولا يجب أن يعرف شيئا عن اتصال هشام بالمكتب، حتى لا يقحم نفسه على البيزنيس الجديد.
إذن فسوف يبقى هشام أسيراً داخل هذا الفندق الجميل، إلى أن يحدث الإتصال الموعود.
ومر يوم بأكمله من دون أن يحصل هشام على الاتصال، وبدأ هشام يمضي معظم الوقت في غرفته، إذ هاجمته هواجس مبررها أنه إذا جلس في صالة الاستقبال، فقد لا يسمع النداء الصوتي إذا ما جاءته المكالمة.
وحين رن جرس التليفون في غرفته، في الىوم التالي، كان أجمل ما سمع هشام في حياته، قفز من على سريره، والتقط السماعة بفرح فوار، وعلى الجانب الآخر من الخط كان صوت إدوارد، يسأله عن صحته، وهل أنجز جمع المعلومات اللازمة. ثم يضرب له موعدا في مطعم ريفر، ولما سأله هشام عن مكان هذا المطعم، ضحك بصوت عال، قائلا إنه تحتك يا هشام، في نفس الفندق.
وفي الثامنه مساء الموعد المضروب كان هشام قد ارتدى حلة رمادية غامقة وربطة عنق فاخرة الألوان، وهبط إلى مطعم ريفر، حيث مدخله من ردهة الاستقبال، حيث هبطت به عشر درجات سلم، إلى باب خشبي بزجاج على شكل مربعات. وبينما على جانبي السلم درابزين من الحديد الأسود المشغول، والمجموعة كلها، أفضت به إلى بهو رحب جدا تتوسط سقفه نجفة اثرية ضخمة جدا، وتتناثر فيه المقاعد، والأرائك ذات الألوان الداكنة وفي الركن ساعة أثرية تيمفوس فوجيتسل، ووراء هذا الباب بيانو أسود حوله جدران مغطاة بورق حائط مشغول منه فيه، باللون السالمون الفاتح، وحول هذه القاعة 25 عموداً رخامياً من الغرانيت الوردي الفاتح المعروق بعروق غامقة. وبعد هذه الردهة كان المطعم الكلاسيكي الجميل ريفر.
حياة هشام الآن - أصبحت الفرجة والإستمتاع، بهذه المطاعم والفنادق، ومحاولة إرضاء إدوارد والحصول على ثقته. وعلى مدخل المطعم كان إدوارد في انتظاره، يرحب به على الطريقة العربية، مقبلا إياه على خديه الأيمن والايسر، بما لفت أنظار المحيطين، إذ كانت تلك التقالىد العربية غير معروفة - بعد - في بريطانيا.
جلس الصديقان على مائدة في مكان بارز، واستمع إدوارد إلى الحصيلة التي رجع بها هشام، ولفت نظره دقتها هذه المرة بسيل متتال من الاسئلة يغلفها بعبارات تقدير عن إنجاز هشام.
عمل عظيم ومجهود رائع. سوف تقوم الشركة بدراسة جدوى المشروع، على ضوء المعلومات التي قدمتها. "ولكن الشركة تريد بعض المعلومات عنك، وعن شهادتك وأسرتك".
وهنا أجابه هشام: "والدي ضابط في القوات المسلحة لواء على المعاش الآن، ولي ثلاثة أخوة من الذكور، واحد ضابط في القوات المسلحة، والثاني مهندس، والثالث موظف. وسبق لي الخدمة كمجند بالقوات المسلحة".
وواصل إدوارد الضغط على هشام بالأسئلة: "في أي سلاح كان والدك يخدم. وما هو وقت خروجه إلى المعاش، وهل ما زال يلتقي زملاءه القدامى وتلامذته. وأين يخدم أخوك، وفي أي سلاح، وهل ينتظر أن يتم تجنيد أخوك المهندس كضابط احتياط".
وكان هشام يجيب، والخاطر المسيطر علىه أن يرضي إدوارد، وأن كل هذه الأسئلة للتعرف على مستواه الاجتماعي، إذ ربما يكون للوظيفة المنتظره جانب يحتاج الى مثل هذه المعلومات!
وطلب إدوارد من هشام أن يشرع في تأجير شقة خالىة في القاهرة، وأن يزودها بجهاز تلكس، وتليفون، وأعاد علىه التأكيد استعداد الشركة لدفع الرشاوى المطلوبة، كما طلب منه أن يحاول توطيد علاقته ببعض العاملين بمصر للطيران، "إذ ربما سنحتاج إلى مهندسين ميكانيكيين في الشركة". وأخيراً لوّح إدوارد لهشام بأنه قد يلتقي خلال أيام بمدير الشركة البلجيكية.
وأخيرا، بينما هشام يتابع في اهتمام لاهث، قال له إدوارد ان كل مقابلاتنا، بدءا من الآن، ستتم في فندق ستراند المقابل لفندق سافوي، وعلل إدوارد هذا بأنه رجل معروف في مجال البيزنيس ولا يريد أن يرصد أحد من منافسيه تحركاته، إذ ربما يؤدي ذلك إلى استنتاجهم طبيعة نشاطه المقبل.
وكان هشام قد عطل عقله تماماً، وأصبح على استعداد لقبول أي اشياء تقال بسهولة حتى ولو كانت مجرد كلام فارغ.
ولكي يدعم إدوارد استقرار هشام الداخلي، وارتباطه اعطاه مرتب شهرين مرة واحدة بايصال بدون تاريخ، وابلغه أن التعيين سيتم فور مقابلته لرئيس الشركة البلجيكية.
وخرج هشام بعد ذلك العشاء وهو يشعر أنه على أبواب أهم مراحل حياته... على ابواب النجاح الحقيقي.
......................
وفي الىومين اللذين تليا ذلك اللقاء المفصل، عاد هشام إلى انتظار مكالمة إدوارد التي سيخبره فيها بموعده مع رئيس الشركة البلجيكية.
وكالعادة مر هشام بفصول الملل كلها. وهو ينتظر مكالمة إدوارد، ثم جاءه أخيرا صوت إدوارد يقول "عندي خبر سار لك، لقد وصل الى لندن مدير الشركة البلجيكية، وعلىك بالحضور غداً صباحاً لمقابلته في فندق ستراند بالاس، حيث ينزل، وأن تكون آخر شياكة، وتلبس أفخر ما عندك من ملابس، وسيكون الموعد في العاشرة، حيث ستجدني في انتظارك في بهو الفندق".
وفندق ستراند بالاس - هذا - هو فندق عجيب يشبه بيت جحا، وقد أنشئ عام 1909، إذ أن جميع المحلات خارجه غولد سميث للساعات والكريستال - ولويد بيكر للجلود - وهاوس أوف جيونيسكي للهدايا الإنكليزية التقليدية، لها مداخل بعتبات من الفسيفساء الأبيض والأسود، ولها مخارج تقع في داخل الفندق نفسه، أي أن الإنسان يمكن أن يستخدم أحدها لدخول الفندق من دون أن يتوقع ذلك أي أحد يراقبه، إذ سيظل القائم بالمراقبة يتصور أن الهدف دخل إلى المحل ولم يدخل الفندق.
ومن ناحية أخرى، فإن قهوة وبار جونستون في شارع ليج ستريت الجانبي تفضي هي الأخرى إلى داخل الفندق من الجانب المقابل، أي إلى ردهة استقبال الفندق التي تقع في المنتصف ثم يوجد مخرج جانبي يفضي بك إلى خارج الفندق من الناحية الىسرى.
أي أنك يمكن أن تدخل من "جونستون كافيه"، وتخرج من إكسترا ستريت، أو تدخل من الباب الرئيسي وتخرج إما من جونستون كافيه، أو إكسترا ستريت، أو تدخل من أي محل، وتخرج من أي مخرج.
وكل هذا مناسب جدا للتمويه، وإجراءات تأمين المقابلات فضلاً عن أن الموقع قريب جدا من الفندق الذي خطط الموساد لإقامة هشام فيه وهو سافوي كورت.
وفي الموعد المضروب عبر هشام محجوب الشارع الذي يفصل بين الفندقين، وابتاع علبه سجائر، وجريدة صباحية إنكليزية ثم دلف إلى فندق ستراند من أحد المداخل الفرعية عبر قهوة جونستون .
وانتظر هشام في بهو الاستقبال الكبير لمدة عشر دقائق، انتابه فيها قلق كبير، ولكن بظهور إدوارد انفرجت أساريره، كأنه وجد معشوقته وحبيبة قلبه!
وبادره إدوارد قائلاً: "سوف نذهب الآن إلى الشقة التي ينزل فيها مدير الشركة البلجيكية".
وسأل هشام باستغراب: ألم تقل إنه ينزل في فندق ستراند بالاس؟
فأجابه إدوارد: "لقد وجد بالأمس شقة مناسبة انتقل إلىها لأن إقامته في لندن سوف تطول قليلا".
وعلى باب الفندق أوقف إدوارد تاكسيا، وطلب منه الذهاب إلى كينزنغتون هاي ستريت.
وما إن نزل الرجلان، من سيارة الأجرة، حتى راح إدوارد ينبه هشام الى ضرورة التحدث مع المدير بلغة إنكليزية راقية، ومراعاة أصول الاحترام واللياقة.
وانعطف إدوارد من الشارع الرئيسي ليدخل إلى حديقة كينزنغتون من بوابة بالاس غيت، حيث شارع بالاس غرين. وكأنه أثناء تلك التمشية يكتسح كل شيء حوله بنظره، فيما كان هشام يستجمع نفسه قبل لقاء الرجل الذي سيمنحه الاستقرار المادي، وآفاق نجاح بلا حدود.
توقف إدوارد فجأة أمام مبنى قديم عمره أكثر من مئة عام، وصعد مع هشام درجتي سلم، قبل أن يقرع الجرس، فيفتح الباب.
وما أن دخل هشام نصف خطوة إلى الداخل، حتى فوجئ بأربعة من الحراس المدججين بالسلاح يفتشونه ذاتيا، ثم يقتادونه إلى مكتب أغلقوه علىه، بينما اختفى إدوارد تماماً.
وبعد ساعة كاملة حضر ادوارد ليخاطب هشام بعبارة حازمة ولهجة خشنة لم يعتدها منه، من قبل:
"أنت - الآن - يا عزيزي في السفارة الإسرائيلية".
* رئيس تحرير "الاهرام"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.