شراكة عالمية لجمع 500 مليون دولار لمبادراتٍ في مجال التعليم    سمو محافظ الخرج يدشن فعاليات أسبوع البيئة 2024    اتفاقية لإنشاء "مركز مستقبل الفضاء" بالمملكة    أرباح الراجحي 4.4 مليار.. والأهلي 5 مليار    وزير الخارجية ونظيره العماني يستعرضان العلاقات الثنائية    تطور جديد في ملف انضمام صلاح ل"روشن"    نصف نهائي "أغلى الكؤوس".. ظروف متباينة وطموح واحد    «سلمان العالمي» يُطلق أوَّلَ مركز ذكاء اصطناعي لمعالجة اللغة العربية    نائب رئيس غرفة أبها يدشن معرض عسير للعقار والبناء والمنتجات التمويلية    أمير المدينة يستقبل سفير إندونيسيا لدى المملكة    أمير الرياض يعتمد ترقية 238 موظفاً من منسوبي الإمارة    حرب غزة تهيمن على حوارات منتدى الرياض    النيابة العامة: التستر وغسل الأموال يطيح بوافد و3 مواطنين لإخفائهم 200 مليون ريال    أمير المدينة يدشن مهرجان الثقافات والشعوب بالجامعة الإسلامية    القبض على 8 أشخاص لقيامهم بالسرقة وسلب المارة تحت تهديد السلاح    "جائزة الأميرة صيتة" تُعلن أسماء الفائزين بجائزة المواطنة المسؤولة    سياسيان ل«عكاظ»: السعودية تطوع علاقاتها السياسية لخدمة القضية الفلسطينية    رصد 54 مخالفة في منشآت التدريب الأهلية في شهر مارس    افتتاح الملتقى السنوي الثاني للأطباء السعوديين في إيرلندا    أمطار مصحوبة بعدد من الظواهر الجوية على جميع مناطق المملكة    «مطار الملك خالد»: انحراف طائرة قادمة من الدوحة عن المدرج الرئيسي أثناء هبوطها    وزيرا الإعلام والعمل الأرميني يبحثان التعاون المشترك    فيصل بن فرحان: الوضع في غزة كارثي    لتحديد الأولويات وصقل الرؤى.. انطلاق ملتقى مستقبل السياحة الصحية    رابطة العالم الإسلامي تُعرِب عن بالغ قلقها جرّاء تصاعد التوترات العسكرية في شمال دارفور    اللجنة الوزارية العربية تبحث تنفيذ حل الدولتين    " ميلانو" تعتزم حظر البيتزا بعد منتصف الليل    نائب أمير مكة يطلع على تمويلات التنمية الاجتماعية    اللواء الزهراني يحتفل بزفاف نجله صلاح الدين    استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    منصور يحتفل بزواجه في الدمام    فيصل بن بندر يؤدي الصلاة على عبدالرحمن بن معمر ويستقبل مجلس جمعية كبار السن    دولة ملهمة    الفيحاء يتوّج بدوري الدرجة الأولى للشباب    الأهلي بطلاً لكأس بطولة الغطس للأندية    ديوانية الراجحي الثقافيه تستعرض التراث العريق للمملكة    النقد وعصبية المسؤول    مهنة مستباحة    فئران ذكية مثل البشر    إستشاري يدعو للتفاعل مع حملة «التطعيم التنفسي»    تتويج طائرة الهلال بلقب الدوري    ميتروفيتش ومالكوم يشاركان في التدريبات    جامعة «نورة» تفتتح منافسات الدورة الرياضية لطالبات الجامعات الخليجية    منجزات البلدية خلال الربع الأول بحاضرة الدمام    اكتمال جاهزية كانتي.. وبنزيما انتظار    المصاعد تقصر العمر والسلالم بديلا أفضل    سعود بن بندر يستقبل أعضاء الجمعية التعاونية الاستهلاكية    صحن طائر بسماء نيويورك    أول صورة للحطام الفضائي في العالم    ذكاء اصطناعي يتنبأ بخصائص النبات    تطبيق علمي لعبارة أنا وأنت واحد    أمير تبوك يواسي أبناء أحمد الغبان في وفاة والدهم    كبار العلماء: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    وزير الدفاع يرعى تخريج الدفعة (82) حربية    هيئة كبار العلماء تؤكد على الالتزام باستخراج تصريح الحج    المسلسل    الأمر بالمعروف في الباحة تفعِّل حملة "اعتناء" في الشوارع والميادين العامة    «كبار العلماء» تؤكد ضرورة الإلتزام باستخراج تصاريح الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلتي الطويلة من اجل الحرية" لنلسون مانديلا ... في ترجمته العربية . شيء عن الطفولة ، عن الاب والأم ، واستقبال الرجولة بالختان 1 من 5
نشر في الحياة يوم 22 - 01 - 1998

رئيس جنوب افريقيا أكثر شخصيات العالم شعبية في نهاية هذا القرن. تظن انك تعرفه وتقرأ سيرته مرات فتكتشف في كل مرة ما تجهله.
الكتاب الذي صدر عن مسيرة نلسون مانديلا نحو الحرية جاب كل الانحاء، وكان الإقبال عليه قياسياً في كل مكان ولشهور طويلة.
"رحلتي الطويلة من أجل الحرية" يصدر وشيكاً في ترجمته العربية عن دار "جمعية نشر اللغة العربية" في جنوب افريقيا. وأعد الترجمة عاشور الشامس.
"الحياة" تنشر مقتطفات من هذه السيرة:
كان والدي فارع الطول اسود البشرة ذا قوام منتصب مهيب، وهي صفات ارجو ان اكون ورثتها عنه، وكانت تعلو جبينه خصلة من الشعر الابيض. وطالما كنت في طفولتي أفرك مقدمة شعري بالرماد الابيض تقليداً له. كان رجلاً صارماً لا يتردد في استعمال العصا لتأديب ابنائه، وكان عنيداً للغاية، وهذه صفة اخرى اخشى ان يكون الابن قد ورثها عن أبيه.
وكان يشار الى والدي احياناً برئيس وزراء بلاد التيمبو إبان حكم دالينديبو Dalindyebo، والد ساباتا، الذي حكم في اوائل القرن، وخلال حكم ابنه وخليفته يونغينتابا. ولكن تلك التسمية لم تكن دقيقة اذ لم يكن لذلك المنصب وجود آنذاك، غير ان الدور الذي كان يؤديه لا يختلف كثيراً عن مهمات ذلك المنصب. وكان الملكان يضعانه موضع التقدير والاحترام باعتباره مستشاراً، فكان يصاحبهما في رحلاتهما، وكثيراً ما يظهر بجانبهما في الاجتماعات المهمة التي كانا يعقدانها مع مسؤولي الحكومة. وكان يعرف عن والدي انه من الملمين بتاريخ الكوسا، قبيلتنا، ما جعله مستشاراً له وزنه ومكانته. وتعود بدايات اهتمامي بالتاريخ الى وقت مبكر اذ كان لوالدي فضل في تشجيعي على ذلك. وعلى رغم ان والدي كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب فقد اشتهر بالفصاحة والخطابة التي كان يجمع فيها بين الظرف والعلم.
لم يكن والدي مستشاراً للملوك وحسب بل إنني اكتشفت في ما بعد انه كان صانع ملوك كذلك. فعندما توفي يونغيليزي فجأة خلال العشرينات من هذا القرن كان ابنه ساباتا من زوجته الكبرى لا يزال رضيعاً ودون السن التي تؤهله لاعتلاء العرش، فنشب خلاف حول من يخلفه من ابناء دالينديبو الثلاثة، يونغينتابا ودابولامانزي وماليتافا، من زوجاته الأخريات. وعندما استشير والدي في الامر اشار باستخلاف يونغينتابا بحكم انه أرقى الصبية تعليماً، مؤكداً قدرته على حماية عرش القبيلة وعلى ان يكون مرشداً ومعلماً مخلصاً وناصحاً أميناً لولي العهد الشرعي ساباتا.
كان والدي وغيره من أعيان القبيلة الاميين يحترمون التعليم احتراماً جماً، وهو شأن كثير ممن حرموا التعليم في المدارس، غير ان تزكيته لخلافة يونغينتابا أثارت جدالاً حاداً لانتماء أم يونغينتابا لبيت من الطبقات الاجتماعية الدنيا على رغم قبولها لدى التيمبو والحكومة البريطانية. وشاءت الاقدار ان يرد يونغينتابا الجميل الى والدي في وقت لاحق بطريقة لم تكن في الحسبان. تزوج والدي اربع زوجات هن الزوجة الكبرى والزوجة اليمين والزوجة اليسار وزوجة بيت الاسناد أو الدعم. كانت أمي ثالثة أولئك الزوجات وتدعى نوسيكيني فاني ابنة انكيداما من عشيرة امامبمفو المتحدرة من سلالة بيت اليمين في قبيلة الكوسا. كان لكل زوجة سكن خاص يسمى كرال يضم حظيرة صغيرة للمواشي وحقلاً لزراعة الغلة والمحاصيل وبيتاً، أو أكثر، مسقوفاً بالقش وأعراف الشجر. تمتد المسافة بين الكرالات أميالاً عدة وكان والدي يتنقل بينها بالتناوب، وكانت حصيلة تردده على زوجاته ثلاثة عشر ولداً، اربعة من البنين وتسعاً من البنات. كنت أكبر أبناء بيت اليمين وأصغر أبناء والدي، وأخاً لثلاث أخوات كبراهن باليوى، تليها نوتانكو ثم ماخوتسوانا. وبينما كان ملاهالوا، أكبر أبناء والدي إلا ان داليغكيلي كان خليفته في الزعامة وهو إبن البيت الكبير وقد توفي في اوائل الثلاثينات. كما توفي كل اخوتي الذكور في ما بعد وقد كانوا جميعاً يكبرونني سناً ومنزلة في العائلة.
دخل والدي وأنا لم أزل رضيعاً في نزاع حرمه من حقه في زعامة قرية مفيتزو وكشف عن جانب من شخصيته اعتقد انه ورّثه لابنه. فأنا أؤمن بأن العامل الاساسي في صياغة شخصية الانسان هو تنشئته وليس طبيعته التي ورثها. وكان والدي يجنح الى التمرد والاعتزاز بالنفس وكان متشدداً في فهمه للعدل والظلم، وهو ما ألمسه أنا في شخصيتي. لم يكن والدي، كزعيم أو رئيس للعمال - كما كان يشير اليه البيض - مسؤولاً امام ملك التيمبو وحسب بل أمام الحاكم المحلي المعين من جانب الحكومة. وذات يوم تقدم أحد اهالي القرية بشكوى ضد والدي تتعلق بضياع ثور في القرية، فأرسل الحاكم المحلي في طلب والدي يأمره بالمثول امامه. وعند استلام والدي الامر اجاب بقوله:
- لن أحضر لأنني أتوشح سيفي استعداداً للمعركة.
لم يجرؤ احد في تلك الايام على تحدي الحاكم المحلي بتلك الصورة وكان تصرف من ذلك القبيل يعد غاية في العجرفة والاهانة. وهكذا كان.
أراد والدي بجوابه ذاك ان يبين انه ليس للحاكم المحلي سلطان شرعي عليه، وبأنه في الشؤون القبلية لا يلتزم قوانين ملك انكلترا وانما تقاليد التيمبو وأعرافهم. ولم يكن تحدي والدي للقاضي نتيجة انفعال أو تسرع بل كان صادراً عن قناعة مبدئية يؤكد من خلالها صلاحياته العرفية كزعيم للقرية ويتحدى سلطة الحاكم المحلي الرسمية.
وما ان تسلم الحاكم المحلي رد والدي حتى وجه اليه على الفور تهمة مخالفة الاوامر، وعزله فوراً من دون تحقيق او تقص - فذاك حق للموظفين البيض فقط - وبذلك انتهت حقبة زعامة آل مانديلا الى الابد.
***
ذات ليلة، وكنت في التاسعة من العمر، سمعت حركة غير عادية في البيت. انه والدي قد وصل قبل موعده المتوقع، اذ كان يطوف على زوجاته بالتناوب ويقضي معنا اسبوعاً واحداً تقريباً في كل شهر. رأيته مستلقياً على ظهره في كوخ أمي وقد انتابته نوبة حادة من السعال المتواصل. وعلى رغم حداثة سني لم يكن يخفى عليّ ان أيام والدي اصبحت معدودة. فهو يعاني من مرض في الرئتين لم يشخص لأنه لم يرَ طبيباً في حياته قط. ظل أبي على تلك الحال اياماً عدة من دون ان يتحرك او يتكلم حتى تدهورت حالته وكانت أمي وصغرى زوجاته، نودايماني، تعودانه. وفي ساعة متقدمة من احدى الليالي نادى أبي على زوجته نودايماني وطلب منها احضار التبغ كي يدخن غليونه. وبعد تشاور سريع اتفقت الزوجتان على عدم تلبية الطلب والحال كذلك، ولكن أبي ألح في الطلب. واضطرت نودايماني ان تحشو الغليون بالتبغ وتشعله وتقدمه اليه. فأخذ يدخن قرابة ساعة حتى هدأت نفسه بعض الشيء، ثم أسلم روحه وغليونه لا يزال مشتعلاً في فمه. لا أذكر أنني حزنت كثيراً بقدر ما شعرت وكأنني قارب يبحر بلا شراع. فعلى رغم ان أمي كانت هي كل شيء في حياتي، إلا انني كنت أرى ان شخصيتي تتحدد من خلال شخصية أبي، ولذا فان رحيله غير كل حياتي بطريقة لم تخطر على بالي آنذاك. وبعد فترة قصيرة من الحداد اخبرتني امي بأن علي ان أغادر قريتنا قونو، فلم أسألها عن السبب ولا عن المكان الذي سأذهب اليه.
وفي الصباح الباكر ذات يوم حزمت امتعتي القليلة التي كنت امتلكها وانطلقنا في رحلة نحو الغرب قاصدين موطني الجديد. حزنت للرحيل اكثر مما حزنت لوفاة والدي. فقونو بالنسبة اليّ هي كل شيء في الوجود. احببتها حباً خالصاً، هو حب الطفل لموطنه الاصلي. وقبل ان نختفي وراء التلال التفت الى الوراء لألقي نظرة على قريتي تلك، ظننت حينها انها النظرة الاخيرة، فرأيت الاكواخ البدائية والناس يسعون في قضاء حاجاتهم، ورأيت الجدول الذي كنت ألعب فيه مع أترابي يرش بعضنا بعضاً بالماء، وحقول الذرة والمروج الخضراء ترتفع فيها قطعان الماشية كيفما تشاء. تمثلت امامي صورة اصدقائي وقد خرجوا لصيد العصافير، يشربون اللبن الطازج من ضروع البقر ويمرحون في الغدير عند نهاية الجدول. واستقرت نظراتي على تلك الاكواخ الثلاثة البسيطة التي تمتعت فيها بحب أمي ورعايتها. إنها الاكواخ التي ارتبطت بكل ما عرفت في الحياة من سعادة، بل ارتبطت بالحياة ذاتها، وأسفت على انني لم اقبّلها واحداً واحداً قبل ان أغادر. لم يكن يخيل اليّ ان المستقبل الذي استشرفه يمكن ان يقارن على أي وجه من الوجوه بالماضي الذي اتركه ورائي. سافرنا مشياً على الاقدام يحيط بنا الصمت من كل جانب حتى اخذت الشمس تتوارى شيئاً فشيئاً وراء الافق. ان صمت القلوب الذي يجمع بين الام وابنها ليس موحشاً. قليلاً ما كنا نتبادل الحديث، ولكني لم أشك يوماً في حب أمي ولم تهتز ثقتي في دعمها لي.
كانت رحلة شاقة عبر طرق صخرية وشعاب، نصعد تلاً ونهبط تلاً، مارين بقرى لا حصر لها دون ان نتوقف عند اي منها. وفي وقت متأخر من النهار وصلنا قرية عند اسفل واد منبسط تحيط به الاشجار يتوسطه مبنى كبير فاقت فخامته كل ما رأيت في حياتي من قبل فتملكني الاعجاب بروعته وبهائه. كان المبنى مؤلفاً من بيتين، كل منهما على شكل مستطيل، وسبعة اكواخ فخمة مطلية بالجير الذي يبهر النظر حتى عند الاصيل. تتصدر المبنى حديقة واسعة وحقل للذرة تحيط به اشجار الخوخ المدور، وتمتد خلفه حديقة اخرى اكبر مساحة تزدان بأشجار التفاح وجداول الخضار والزهور يحيطها سياج من قضبان. وعلى مقربة من المبنى توجد كنيسة مطلية بالجبس الأبيض.
عند المدخل الرئيسي للمبنى الكبير شجرتان من شجر الصمغ كان يجلس تحتها نحو عشرين من اعيان القبيلة، بينما انتشرت الابقار ما لا يقل عن خمسين بقرة والاغنام نحو 500 شاة ترعى في الأراضي المحيطة بالمبنى. كل شيء يتسم بالجمال والتنسيق وقد ظهرت على المكان معالم الثراء والنظام بصورة لم تخطر لي على بال. انه "المكان العظيم" في مكيكزويني، عاصمة مقاطعة تيمبولاند، اي بلاد التيمبو، ومقر إقامة الزعيم يوغينتابا دالينديبو سلطان التيمبو.
وبينما كنت أتأمل تلك الأبهة عبرت البوابة الغربية سيارة فخمة لها هدير ما إن رآها اولئك الجالسون حتى رفعوا قبعاتهم وهبوا واقفين يهتفون: يعيش يوغينتابا. توقفت السيارة التي علمت في ما بعد انها من نوع فورد في - 8 ونزل منها رجل قصير القامة غليظ البنية يرتدي بذلة أنيقة وكانت تبدو عليه امارات الثقة والحنكة والتمرس في القيادة والسلطة. وكان له من اسمه نصيب اذ ان يوغينتابا تعني "الناظر الى الجبال". كان ذا حضور وجاذبية تشد الأنظار اليه. اسود البشرة يشع وجهه بالذكاء والفطنة، صافح الرجال الذين استقبلوه تحت الشجر واحداً واحداً، وعلمت في ما بعد انهم اعضاء محكمة تيمبو العليا. السلطان يوغينتابا هذا هو الرجل التي تولى رعايتي وولاية امري طوال العقد التالي من حياتي. في تلك اللحظات التي شاهدته فيها وحاشيته احسست كأنني شجيرة اجتثت من الأرض ورمي بها في وسط نهر ليس بوسعها مقاومة تياره الجارف. لقد تملكني مزيج من مشاعر الانبهار والذهول، اذ لم اعرف قبل ذلك اليوم سوى متعي الشخصية، ولم يكن طموحي يتعدى التمتع بما آكل من طعام والتفوق في لعبة المصارعة بالعصي. لم اكن افكر في المال او في المكانة الاجتماعية او في الشهرة او السلطان، ولكن عالماً جديداً انفتح امامي فجأة، وعندما يفاجأ اطفال البيوت الفقيرة بالثراء الفاحش تستولي على نفوسهم مغريات كثيرة لا عهد لهم بها من قبل. وهذا ما كان من امري. فقد احسست بأن كثيراً من قناعاتي وولاءاتي الراسخة بدأت تنحسر، وأن الأسس الغضة لشخصيتي التي أقامها والداي اخذت تهتز، وبدا لي في تلك اللحظة ان الحياة ربما حملت لي في طياتها اكثر من ان اصبح مجرد بطل في المصارعة بالعصي.
علمت في ما بعد ان يونغينتابا عرض على امي اثر وفاة والدي ان يتولى امري وأن يعاملني كما يعامل ابناءه تماماً، وأن يوفر لي ما يوفر لهم من المزايا. لم يكن امام امي خيار آخر وما كان لها ان ترفض عرضاً سخياً كهذا من السلطان. فرغم انني سأغترب عنها رضيت بأن التربية والميزات التي سألقاها في رعاية الحاكم تفوق كثيراً ما تستطيع هي ان توفره لي. فلم ينسَ السلطان لوالدي فضله في وصوله هو الى ما وصل اليه من الزعامة والنفوذ والسلطان.
مكثت امي في مكيكيزويني يوماً او يومين قبل ان تعود الى قونو. كان وداعها لي بسيطاً لا مبالغة فيه ولم تلق علي المواعظ ولم تنصحني ولم تقبلني، وأحسب انها ارادت بذلك ان تخفف علي من لوعة الفراق فأخفت مشاعرها عني. فقد كنت أدرك ان والدي رغب في ان أتلقى تعليماً يؤهلني لمواجهة العالم الكبير، وهو ما لم يتوفر لي في قونو، وها هي نظرات امي الرقيقة تحمل اليّ كل ما كنت اطلبه من الوجدان والتشجيع. وما ان همت امي بالرحيل حتى التفتت اليّ وقالت: كن قوي العزيمة يا بني!
***
عندما بلغت السادسة عشرة من عمري رأى السلطان انني بلغت سن الرشد وآن الأوان لانتقالي الى مرحلة الرجولة. وتقضي تقاليد الكوسا ان يتم ذلك بطريقة واحدة فقط، انها الختان. فعاداتنا لا تسمح للابن الذي لا يختن بأن يرث أباه أو يتزوج أو يترأس الحفلات وجلسات الطقوس الدينية. والرجل عند الكوسا لا يصبح رجلاً بل يظل صبياً ما لم يختن، والختان هو الوسيلة التي يدخل بها الصبيان الى مجتمع الرجال.
وصلنا الى تايهالارها عن طريق النهر قبل بضعة أيام من موعد الختان، وقضينا آخر أيام الطفولة تلك في صحبة مجموعة من الفتيان القادمين للختان، وعشت بينهم جواً مفعماً بالود والروح الأخوية. كان المكان الذي نزلنا فيه مجاوراً لبيت المدعو باناباخي بلاي أغنى وأشهر طفل في تلك المجموعة. وكان بلاي شخصية جذابة وبطلاً من أبطال المصارعة بالعصي، وكان نجماً يحيط به لفيف من المعجبات اللاتي كن يزودننا أشهى وأطيب أنواع الطعام. وكان بلاي أمياً لا يقرأ ولا يكتب ولكنه كان من أذكى الفتيان في المجموعة، وكان يمتعنا بسمره وما يقصه علينا من حكايات رحلاته الى جوهانسبيرغ التي لم يزرها منا أحد سواه. لقد أثار حماسنا بحكاياته عن المناجم حتى كدت أقتنع بأن حياة المناجم أكثر سعادة من حياة الملوك. فقد كانت لعمال المناجم في تصورنا هالة خاصة، وكنا نراهم أقوياء وشجعانا والمثل الأعلى للرجولة. وأدركت في ما بعد ان تلك الحكايات المبالغ فيها هي التي كانت تدفع بالشبان والأحداث الى الهروب من القرى والأرياف والانخراط في العمل في مناجم جوهانسبيرغ حيث تدهورت احوالهم الصحية ولقي كثير منهم حتفه، غير ان العمل في المناجم آنذاك كان من الطقوس التقليدية - كما هي الحال بالنسبة لمراسم الختان - وخرافة خدمت مصالح أصحاب المناجم أكثر مما خدمت مصالح شعبنا وأمتنا.
في الليلة السابقة ليوم الختان اقيمت حفلة ساهرة تخللها غناء ورقص شاركت فيه بالغناء والتصفيق نسوة من القرى المجاورة. تعالت الأصوات بالطرب والغناء والموسيقى واشتد رقصنا سرعة واهتياجاً فنسينا لعدة ساعات ما كان ينتظرنا عند الصباح.
بدأت الاستعدادات للختان مع بزوغ الشمس وقبل أن تغيب النجوم عن سمائها، فذهبنا برفقة الأهل والأقارب للاغتسال في مياه النهر الباردة لتطهير أجسامنا تمهيداً للختان الذي حان موعده عند منتصف النهار. طلب منا الوقوف في صف واحد بالقرب من النهر حيث اجتمع لفيف من الآباء والامهات والأقارب من بينهم السلطان نفسه وعدد من الأعيان والمستشارين. بدأت المراسم بقرع الطبول ولم نكن نرتدي شيئاً سوى الدثار، وأمر كل منا ان يفترش دثاره على الأرض وأن يمد رجليه إلى أمام. انتانبي التوتر والخوف ولم أكن أعلم كيف سيكون موقفي عند اللحظة الحاسمة. فالخوف أو الصراخ كانا من علامات الضعف وعاراً ينال من رجولة المرء، وعليه فقد كنت مصمماً على ألا ألحق بنفسي أو بزملائي أو وليّ أمري عاراً أو اهانة. لم تكن وسائل التخدير تستعمل عند الختان وكان على المرء أن يقاسي الألم بصمت لأن العملية اختبار لشجاعته وقوة عزيمته.
لمحت بطرف عيني إلى يميني رجلاً نحيفاً متقدماً في السن يظهر من الخيمة وينحني أمام أول صبي في الصف. اهتاج الحاضرون وأصابتني قشعريرة خفيفة لشعوري بأن العملية أوشكت ان تبدأ. كان الرجل العجوز من منطقة غكاليكالاند وكان مشهوراً بخبرته في الختان، وها هو يستعد لأن ينقلنا من الطفولة إلى الرجولة بضربة واحد من حربته الرشيقة.
فجأة سمعت أول الفتيان يصيح: ندي يندودا أصبحت رجلاً! وهو ما علمونا ان نقوله لحظة الختان، وبعد لحظات سمعت صديقي جاستس يصيح بصوت مختنق مردداً العبارة نفسها، ولم يبق بيني وبين الختان سوى اثنين من الصبية، ويبدو انني غفلت تماماً عما يجري من حولي إذ أنني لم أشعر إلا والخاتن قد جلس امامي. نظرت بحدة في عينيه وكان شاحب الوجه يتفصد عرقاً على رغم برودة الطقس، فتحركت يداه بسرعة خاطفة وكأنهما تحت سيطرة قوة خارقة، ومن دون ان ينبس ببنت شفة أمسك بقلفتي وشدها إلى أمام ثم نزل بحربته في حركة واحدة فشعرت وكأن ناراً تأججت في عروقي ودفنت ذقني في صدري من شدة الألم، وبدا لي ان بضع ثوان قد مرت قبل أن اتذكر العبارة التقليدية ثم صحت: أصبحت رجلاً!
ألقيت بنظري إلى الأسفل فرأيت جرحاً أنيقاً نظيفاً كالخاتم ولكنني أحسست بالخجل لأنني شعرت بأن الآخرين كانوا أقوى وأكثر ثباتاً مني إذ لم يتأخروا في اطلاق صيحة الرجولة كما تأخرت. وأصابني شيء من الكآبة لضعفي أمام الألم ولو للحظات، ولكنني بذلت كل جهدي كي أخفي ما أنا فيه من ألم. فقد يبكي الصبي ولكن على الرجل أن يخفي ألمه!
بختاني خطوت تلك الخطوة المهمة في حياة كل رجل من أبناء الكوسا وأصبح بامكاني ان أتزوج وأن أملك بيتاً خاصاً بي، وأن أحرث أرضي الخاصة، وأصبح من حقي حضور مجالس القبيلة وأن يؤخذ كلامي مأخذ الجد.
منحت في مواسم الختان اسماً جديداً وهو داليبهونغا ومعناه "مؤسس بونغا" وهو الهيئة التقليدية التي تحكم ترانسكاي، وكنت فخوراً بأن أنادى بهذا الأسم الجديد الذي يعتبر لدى التقليديين من الكوسا أفضل من الاسمين اللذين منحتهما سابقاً: روليهلاهلا، ونلسون.
بعد تلك الضربة الخاطفة من يد ذلك الخاتن الماهر جاء أحد مساعديه فالتقط القلفة من الأرض وربطها في أحد أطراف الدثار الذي كنت جالساً عليه. ضمدوا جراحنا باستخدام أوراق نباتات ناعمة على طرفها أشواك تمتص الدم وغيره من السوائل والافرازات، وعند انتهاء المراسم عدنا إلى الكوخ وقد اوقدت فيه نار بالحطب الرطب تنطلق منها سحب الدخان الكثيفة التي يُعتقد انها تعين الجروح ان تندمل بسرعة. طُلب منا ان نستلقي على ظهورنا في الكوخ المليء بالدخان وان نبسط إحدى الساقين ونثني الأخرى، لقد دخلنا عالم الرجولة.
كان يعولنا أحد المشرفين فشرح لنا التعليمات التي ينبغي علينا ان نلتزمها لننضم إلى عالم الرجال على الوجه الأكمل. كان أول واجبات المشرف ان يدهن اجسامنا العارية الخالية من الشعر بالمغرة البيضاء من أعلى الرأس حتى اخمص القدمين، فأصبحنا كالاشباح، وكان اللون الأبيض رمزاً لطهارتنا ولا ازال اذكر خشونة ذلك الطلاء على جلدي.
وفي الليلة التالية ليوم الختان إذا بأحد المشرفين يتسلل إلى داخل الكوخ عند منتصف الليل ليوقظنا بهدوء واحداً تلو الآخر ويأمرنا بالخروج كي يدفن كل منا قلفته بعيداً عن الكوخ. وكان الغرض من تلك العملية - حسب التقاليد - هو تغييب تلك النتف الجلدية قبل أن يفوز بها السحرة فيستعملونها في الأغراض الشريرة، ولكنها ترمز كذلك إلى دفن شبابنا وطفولتنا. لم أجد في نفسي الرغبة لمغادرة الكوخ الدافئ والمشي في الظلام ولكنني اتجهت نحو الاشجار وبعد بضع دقائق اخرجت قلفتي ودفنتها في التراب، وبذلك شعرت بأنني قد تخلصت تماماً من كل ما تبقى من طفولتي. كان عدد المقيمين في كل كوخ ثلاثة عشر رجلاً ومكثنا فيها حتى اندملت جروحنا. وكان علينا ان نتوشح بالدثار خارج الكوخ لئلا نظهر عراة أمام النساء. وكانت تلك الفترة مفعمة بالهدوء وكأنها فترة إعداد روحي لما ينتظرنا من أعباء الرجولة وتحدياتها.
في اليوم المقرر لخروجنا اتجهنا إلى نهر امباشي في الصباح الباكر لنغسل المغرة البيضاء عن أبداننا، وبعد الاغتسال والتجفيف صبغت أجسامنا مرة اخرى بمغرة حمراء. وكانت التقاليد المتبعة تقتضي ان يقضي الرجل ليلته تلك مع امرأة، ربما أصبحت زوجة له في ما بعد، فتتساقط الصبغة عن جلده نتيجة احتكاك جسدها بجسده، ولكن الذي حدث بالنسبة إلي هو انني تخلصت من المغرة بمزيج من الدهون والشحوم.
عند انتهاء فترة العزلة تضرم النار في الكوخين بما فيهما من أمتعة وتنقطع صلتنا بالطفولة انقطاعاً كاملاً، ويقام بالمناسبة احتفال كبير احتفاءً بانضمامنا إلى عالم الرجال، إذ يجتمع حشد من الأقارب والاصدقاء واعيان القبائل المحليين لالقاء الخطب والغناء وتوزيع الهدايا. كان نصيبي من تلك الهدايا ثورين وأربعة خراف، وأصبحت للمرة الأولى صاحب ثروة لا عهد لي بها من قبل وأصبحت مالكاً بعدما كنت لا املك شيئاً. لم تكن الهدايا التي استلمتها تساوي شيئاً أمام تلك التي قُدمت لجاستس الذي حصل على قطيع كامل من الماشية، ولكنني أحسست بالنشوة والزهو ولم اشعر بغيرة تجاه صديقي، فهو ابن السلطان وأنا لا أعدو ان اكون احد مستشاريه. غمرني طول ذلك اليوم شعور بالقوة والاعتزاز فأخذت أمشي فخوراً مرفوع الرأس وبدأ يراودني الأمل بأنني سأصبح يوماً ما صاحب ثروة وجاه وممتلكات كثيرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.