مثّل قانون حظر النقاب الفرنسي في الشوارع والأماكن العامة والذي دخل أخيراً حيز التنفيذ، وجهاً من وجوه ازدواج يعتبره البعض الطور الثالث للعلمانية الغربية، الذي عبر عنه فيلسوف ما بعد الحداثة الفرنسي ميشيل فوكو بقوله: «الأنوار التي خلقت الحريات هي التي خلقت السلاسل والأغلال أيضاً». وثمة مفارقة أن يتزامن قانون فرنسي بحظر النقاب مع رفض رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان دعوات بعض النساء الناشطات في صفوف حزبه ذي المرجعية الإسلامية بمساندة المحجبات الناشطات في الانتخابات الاشتراعية المقررة في 12 حزيران (يونيو) المقبل، مبرراً موقفه بقوله إنه «يجب عدم استخدام الحجاب كموضع مساومة من أجل دخول البرلمان». ويلاحظ أنه إن كان كل من الموقفين الفرنسي والتركي يتعلق بحجاب المرأة المسلمة، وأن دستور الدولتين مؤسس على مبادئ العلمانية، إلا أن كلاً من الحدثين له دلالة مختلفة عن الآخر. فالحدث الأول يحيد عن مبادئ العلمانية، وهي عدم اقتحام المجال الخاص للفرد المتمثل في معتقده الديني. والثاني هو عدم استغلال العاطفة الدينية في تحقيق مكاسب سياسية، وهو موقف بالطبع نبع نتيجة خبرة متراكمة للتيار السياسي في تركيا من خطورة استغلال الشعارات والرموز الدينية في الحياة السياسية أفضى إلى تكوين رؤية سياسية مؤسسة على العمل والوعي بالواقع وبناء استراتيجية براغماتية للتعاطي معه واعتبار الدين ملهم الفعل السياسي والاجتماعي بما يملك من قيم روحية تنعكس على السلوك وليس مبرراً لاكتساب الشرعية السياسية. لذلك يمكن القول إن هناك نماذج متعددة للعلمانية لم تتساو في الدرجة وإن كانت انطلقت من فرضية أساسية وهي الثقة في قدرات العقل والاعتياد به في إدارة شؤون الفرد والجماعة كمرجعية نهائية. هذه النماذج تناولت إشكالية ضبط العلاقة بين النسبي الملامس للواقع المتغير والمقدس المتعالي عن الواقع ذاته. لذلك يمكن رصد ثلاثة مسارات رئيسة للعلاقة بين الدين والدولة في الوعي الغربي، هي: الأول: خيار مصادمة الدين والاستيلاء عليه بقوة الدولة كما هو حال فرنسا اليعقوبية والدول الشيوعية، وهو أنموذج تسلطي لا تكتفي الدولة خلاله بإضعاف الدين وردّه إلى دور العبادة أو المجال الخاص، وإنما تسعى إلى انتزاع جذوره تماماً بإزاحته كلية من وسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية. وبلغ هذا المسار من الحدة في التصادم إلى أن رفع اليعاقبة الثائرون في أعقاب الثورة الفرنسية شعار «اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس». وتمت تغذيته في مسار الفكر الغربي عندما أعلنت مواقف إلحادية صريحة من جانب نيتشه، ثم سارتر. الثاني: خيار الانفصال الوظيفي بين الكنيسة والدولة، والالتزام بحيادية الدولة إزاء الشأن العام، كما هو حال الدول الإسكندينافية. إلا أن هذا الحياد لم يكن خالصاً في ظل الدولة القومية الحديثة إثر صعوبة الفصل التام بين مجالات الحياة المتداخلة، وهو ما دفع الدولة في بعض الأحيان للسيطرة على أدوات التعبير الرمزي والديني. الثالث: خيار الربط الوظيفي بين الكنيسة والدولة كما هو متبع في بريطانيا وإيطاليا واليونان وإلى حد ما الولاياتالمتحدة الأميركية، التي فصلت دستورياً ولكنها ربطت واقعياً بين الجانبين لدرجة أن أصبحت العلمانية في بعض الأحيان حارسة للمؤسسة الدينية من توغل المؤسسة السياسية وهيمنتها عليها. وهذا النموذج يعطي دوراً متقدماً للكنيسة والدين في إدارة الشأن المدني وتميزه حالة من الوفاق والتناغم بين الدولة والكنيسة حين تسمح الدولة بوجود الكنيسة في المجتمع المدني، في حين تسبغ الكنيسة نوعاً من الشرعية على الدولة. هذه النماذج الثلاثة الرئيسة وإن اختلفت في دوافعها ومضامينها بين الإقصاء والفصل والربط، إلا أنها أكدت أن هناك عناقاً تاريخياً بين الدين والسياسة. فإذا كانت سياسة الفصل والربط تعني الاعتراف بالوجود، فإن الرغبة في الإقصاء أيضاً هي دليل على الاعتراف الضمني بالحضور في الشأن العام. * كاتب مصري