موسم الخريف في أوروبا، موسم إضرابات. شاشات صغيرة كثيرة كانت هناك. سجّلت مطالب المضربين. استمعت الى شكاواهم. رفعت أصواتهم، وأوصلتها الى أعلى المنابر... وشاشات ارتدت ثوب المضربين. عطّلت مشاريع. أحدثت خللاً في خريطة البرامج. لفتت إليها الأنظار، قبل أن تنتصر في جولتها الأولى، وتجعل باب التفاوض مفتوحاً. شاشات «هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) تنتمي الى الفريق الثاني. لم تكتف بنقل الحدث إنما صارت هي الحدث بإضراب موظفيها احتجاجاً على إصلاح نظام التقاعد، ثم إلغاء الإضراب بعد موافقة إدارة المجموعة البريطانية العامة في مجال الإعلام المرئي والمسموع على بدء محادثات جديدة. هذا هو عادة مآل الإضرابات في النظم الديموقراطية. يقوم الإضراب لغاية ان تحققت انتهى، فيكون بهذا وسيلة لا هدفاً. اما في بلاد العالم الثالث، حيث دور النقابات صوري، فتختفي الإضرابات التي يندر أن تحقق أهدافها، ودائماً لأسباب لا علاقة لها بشؤون الحياة اليومية للعمال. طبعاً هذا حديث طويل ليس مجاله هنا. فما يهمنا هو حديث الإضراب والإعلام. تحديداً إضراب أكثر المتضررين من هذا الكمّ من الشاشات اللامسؤولة. ولا نعني هنا موظفيها، إنما الجمهور العربي. ماذا لو أضرب الجمهور في بلادنا الشاسعة المنفتحة على ألف محطة ومحطة... وعلى ألف شكوى وشكوى من كل محطة في كل يوم؟ ماذا لو قرّر الجمهور يوماً، لفرض إرادته بالفعل بدلاً من «النقّ» الذي يطير في الهواء، ان يعلن امتناعه عن مشاهدة المحطات التي تسيء الى ذوقه وأخلاقه وتبث بذور الفتنة بين الناس؟ ربما نكون هنا امام سؤال يأتي تفسيره بسؤال آخر: كيف تصل حصة العالم العربي من القنوات التلفزيونية الى نحو 700 محطة، يتقاسم 10 منها فقط أكثر من 80 في المئة من كعكة الإعلانات؟ إذا كانت نسبة المشاهدين تقدر بحجم الإعلانات، يمكن القول إن «إضراب» المشاهدين عن متابعة ال600 قناة الباقية لن يمنعها من الاستمرار، ولن يمنع قنوات اخرى مماثلة من الظهور أيضاً وأيضاً. فالمسألة ليست عندنا مسألة ربح وخسارة، إنما قنوات تفتح وقنوات تقفل بصرف النظر عمن يشاهدها، أو عما إذا كان هناك من يشاهدها اصلاً. من هنا، الأكيد ان أضراب الجمهور العربي العريض لن يضرّ بمثل هذه المحطات التي تتكاثر كالفطر... لكنه، في نهاية الأمر، سيكون تمريناً على الديموقراطية لا يريد أحد قمعه ولن يقمعه أحد... فإن حصل يمكن القول اخيراً ان هذه المحطات حققت فائدة ما!