إلى بغداد مجدداً، حيث الحرارة اللاهبة، الحرارة التي افتقدتها سنوات طويلة. وكم كنتُ أتمتّع حين أتصيّد هذه الحرارة في زياراتي المتكررة لدولة الإمارات. هذه المرة ليس ثمة تأخير، فطائرة خطوط طيران الشرق الأوسط المريحة على موعدها. كنتُ مضغوطاً بالعمل حتى آخر لحظة. وكانت أحلامي تخلط الواقع بالخيالات، بحيث سافرت دونما حقيبة قبل موعد السفر... في الأحلام طبعاً. البارحة كانت الرياح الترابية في بغداد بانتظاري، فرحتُ حتى بالتراب. منذ زيارتي عام 2003 وأنا أعيد اكتشاف بغداد. لقد أضحت اليوم مدينة أشجار السدر، - ربما لم أنتبه لهذا في السابق. إنها قرية كبيرة، هذه المدينة أضاعت حدودها حقاً. البارحة وبعد الوصول الى الفندق، وهو تقريباً عبارة عن ثكنة من الخارج، إلا انه من الداخل بهي الشكل، والشيء الوحيد الذي يبدو انه من اليوم هو المصعد فهو ممتاز، لكن بقية الأشياء فيه قديمة وعتيقة. كنت أتأمل نفسي. في مدينة الملاهي حيث كنّا البارحة في المساء، تطفر دمعتي وأنا أشاهد العائلات وهي تريّح نفسها في هذا العراق الجديد. بعد الملاهي كنا في شارع أبو نواس وفي مطعم للسمك المسكوف، كل المقدمات والسلطة لا علاقة لها بالمطبخ العراقي، فقط السمك والخبز الطازج والبصل، أما بقية التهويمات فهي نتف جديدة، على الأغلب من المطبخ التركي. وهذه النتف تجدها اليوم تقريباً في كلّ مكان في العراق، من الشمال إلى الجنوب، من دون أن تفهم سبب إضافتها إلى المطبخ العراقي. في مؤتمر الترجمة، الذي عُقد تحت شعار: «بالترجمة تتواصل الحضارات» اللغة الفارغة ذاتُها، الساعات تنفرط وتضيع، ومعها يروح المزاج وتنداح الأفكار إلى آخرة الدماغ. ندمي يتكرر كالعادة من حضور المؤتمرات التي يطيشُ الصوتُ فيها. فأفضل الانزواء في الغرفة، أو التيه في المدينة، وفي هذه الحالة المدينة هي بغداد. الفندق هنا أشبه بثكنة عسكرية، الألوان الزاهية والوجوه التي تبدو مرحة وباسمة. ثمة وجوه أخرى لا تحملُ معنى أبداً، فهي فاقدة للتعبير. في الصباح أثناء الفطور أتذكر فندق السفير في مدينة الجزائر. الفوضى ذاتها، لا أعرف لماذا تراءى لي التشابه. لم أستطع النومَ إلا ساعتين. من الشباك ألمح المياه تسري في دجلة، الشمس أشرقت مبكراً. باقات الأزهار الاصطناعية من جديد، على الموائد. كلما حاولت أن أفهم هذا التقليد الذي لا معنى له سوى كونه يمثل زينة رخيصة وقلة ذوق. حالة سائدة حتى في زمن الرئيس العراقي الأسبق أحمد حسن البكر. الضجر من جديد، لا أحد هنا يريدُ أن يسمعَ شيئاً، الضجيجُ يقدمُ من كلِّ صوب، رغبتي كبيرة في الاختلاء بنفسي، لكي أحرّرها من هذا الضيق، أريدُ لها أن تعبّر عن نفسها، أن تصوغها دواخلها بهدوء. أردتُ أن يعود القلق إلى الكلمات وإلى السير فيها بين الأسطر. ضجري كبير. لم أعد أستطيع سماعَ الهذر عن الأنا الوطنية، عن أنا الماضي، عن التبادل الثقافي في بلاد يحاربُ بعضها بعضاً. قلة النوم مثل التركة الثقيلة. أسحبها من مكان إلى آخر. أفكّر: الحرب كفعل هي أيضاً تبادل ثقافي. لا أحد يستمع للعزف المنفرد. لمن نترجم اذاً هل نكلّم أنفسنا؟ عدم الاهتمام يشمل الجميع. لا أحد هنا جاء لأجل أحد. الجميع يمارس الإعاقة بلا توقف. مؤتمر بغداد الدولي الأول للترجمة، حضر جمعٌ كبيرٌ من المسؤولين والمهتمين، ولكنهم كانوا تقريباً في غياب تام، فهواتف هؤلاء النقالة مفتوحة وترنّ طيلة الجلسات العلمية المزعومة، وهم يتحدثون من خلالها أو مع بعضهم طيلة الجلسات. لم يكفّوا عن هذا حتى عندما حضر الموسيقيون وعزفوا وغنوا، بقي هؤلاء يثرثرون إلى ما لا نهاية وكأنهم في جلسة خاصة... البروشور الذي وُزع خلال المؤتمر لا يحوي من المعلومات إلا أسماء المساهمين في التنظيم وشعاره «بالترجمة تتواصل الحضارات» ولكن لا وجود لمن سيساهم فيه. ومتى سيأتي دوره، فهذا أمر لا يعرفه المنظمون أنفسهم... المجلات التي تصدرها وزارة الثقافة سواء باللغة الإنكليزية أو الفرنسية أو بالعربية فهي لا تختلف عن المجلة التي تنشرها وزارة النقل العراقية حيث تتصدرها صور الوزير والمدراء العامين والموظفين الأقل شأناً. أنه لأمر معيب فعلاً... أن تتحول مجلات متخصصة إلى مجرد دفاتر ساذجة من ناحية المحتوى. كنتُ أنظر إلى نفسي، إلى الإحباط الذي أعيش فيه، أتأمل المشهد وأسير من مكان إلى آخر. فندق المنصور – ميليا، يضم مطعماً فرنسياً، حيث لا وجود لشيء فرنسي، ربما شكل المقاعد، والمطعم الصيني، لا وجود فيه للطعام الصيني، ربما فرش المائدة فقط والشكل الخارجي... يلقي الكتاب والفنانون في العراق اليوم اللوم، كلّ اللوم على وزارة الثقافة والحكومة جراء الحالة المتردية التي يعيشونها، فالمآل الذي وصلت إليه حال الثقافة والفنون في العراق يبعث على الشفقة. وسبب هذه الحالة المتردية ليس وزارة الثقافة، كما يعتقد غالبية المثقفين والفنانين العراقيين، بل هم أنفسهم أولاً، فالأعمال الفنية لا تنتجها الوزارات ولا الحكومة، بل على العكس، فقد تساهم هذه الوزارة وهذه الحكومة في عرقلة وجودها. النتاج الثقافي هو نتاج فردي بالدرجة الأولى، ولا يمكنه أن يوجد إلا بجهد فردي خالص، أو بجهود مؤسسات أهلية غير حكومية، وأما دور الحكومة إن وُجد، فهو هامشي. ولكن يبدو أن هذا الأمر غاب عن جمع المثقفين العراقيين الذي عانوا الأمرين، وأضحوا نتيجة للاحتكاك المستمر بالأحزاب الشمولية والحكومات إلى مجرد طفيليين ينوحون بمجرد أن ترفض هذه المؤسسة الحكومية أو تلك نشر كتاب أو دعم هذا العمل الفني أو ذاك.