التعريف الذي اختاره للكتابة الإبداعية وبالأخص الروائية هو أنها تقترح عالماً أو تقوم بتدميره. وفي جميع حالاتها تتحدد الكتابة بصفتها صيرورة فكرية في قالب زمني بالضرورة. الزمن هو كل شيء. هو ثيمة تتنازعها الفلسفة مع الأدب. فلسفة الزمن هي فلسفة راحة وتعب، جزر ومد، تموج وإيقاع، صمت وموسيقى. باشلار الفيلسوف والشاعر الفرنسي يحضر بكل ثقله لكي يفهم هذا السر الكوني الذي يوجد فينا أو نوجد فيه، الزمن لديه منفصل بخلاف بريغسون فيلسوف الديمومة الذي يمنحه تصوراً اتصالياً. يحاول الفلاسفة إقناعنا بتصوراتهم حول الزمن، أما الأدب فإنه يقوم بتجسيدها. «الجبل السحري» للكاتب الألماني توماس مان رواية حول الزمن: قصة شاب يزور قريبه في مصح جبلي تنعدم فيه المقاييس الدنيوية المألوفة لتحدث اختلالاً في مفاهيم كالمرض والحياة والحب والموسيقى، وبعودة الشاب إلى العالم الأرضي - العالم الواقعي يحدث الموت، هناك عالمان في السرد وفي ثناياه يعالج توماس مان القضايا الأكثر إشكالاً من الناحية الفلسفية والوجودية خصوصاً الزمن الذي يمثل أرضية فلسفية خصبة لتحليل الموسيقى، فبين تعجيل وتأخير للزمن، بين تقدم ورجعية تبدو الموسيقى محرضة حيناً ومخدرة حيناً آخر وفي كل الحالات مدانة ومشبوهة سياسياً، إنها بمعنى ما جوهر الحياة التي لا يمكن أن تعاش، كما يقول نيتشة، من دون موسيقى. يقول باشلار في قراءة شيقة للكاتب السوداوي إدغار آلان بو: «العالم الذي يحييه الزمن كآبة تبكي.. كل يوم يقتلنا الاكتئاب. الاكتئاب ظل ساقط في الماء». الماء بالنسبة لباشلار أحد العناصر الأربعة التي يحلل من خلالها الأدب، وتشكل الخيال المادي في مقابل الخيال الصوري التركيبي. من أين تأتي الكآبة؟ من الزمن. الزمن تموج، والعالم موجة ضخمة، على هذا النحو تقترح الكتابة السوداوية لفرجينيا وولف، الروائية التي تكتب الروايات بعد كل نوبة مرضية قبل أن يقودها المرض إلى الموت «الانتحار». رواية «الأمواج» رواية شاهقة وصعبة في الزمن وفي الموت أيضاً. لا تهمنا أحداث الرواية، ما يهمنا هو الأسلوب والتقنية. تبدأ الرواية بشروق الشمس وتنتهي بالغروب حيث آخر منولوج لآخر بطل ولآخر موجة تتكسر على الساحل. الرواية كلها منولوج، منولوج يتبع منولوج لستة أشخاص تربطهم الذكريات والصداقة. الروائية لا تتحدث إلا في مداخل الفصول وبقية النص منولوجات لحظوية لأبطال الرواية. كل لحظة موجة. الزمن يسيل والعالم فقاعة. مائية الكون والتداعي الفكري والشعوري الداخلي المجنون يحتمان تسييل اللغة، إذ يبتلع الشعر السرد. على اللغة أن تكون شعرية لتحطيم دلالاتها المرجعية واضعة إياها في مجرى مائي متدافع كموج، لكن الكلمة قالب ثلجي، الكلمات تجميد لسيولة اللغة، المهمة إذاً هي اعادة تسييل اللغة بشعرنتها. الرواية شعرية - مع إخراج شعري متفجر للمترجم عطا عبدالوهاب - ليس لأنها محملة بلغة مائية فقط وإنما لأنها تقترح أيضاً عالماً مائياً: تتموج اللغة فيتموج العالم، أو العكس. الرواية تقترح العالم كدوامة مائية، لا شيء بإمكانه أن ينعم بالعزلة، الذوات منتهكة بسواها، المنولوج يكشف عن حضور الآخر في الذات والماضي في الحاضر، هذا العالم معذب بانسيابه، معذب كعذاب الماء كما يقول باشلار.. الكون موج، واللغة شعر، والحياة حلم وهذيان «لسنا سوى قطرات من مطر»، كما يقول منولوج ما.. الوجود في الماء وجود غبشي ضبابي ورخو «كل شيء ناعم ورخو وينثني».. إنه عالم الموت المنسوج بالبنفسج، الذي ينفجر فيه نداء على شكل ضراعة أو خوف أو أمل: «أمسكوا بالشيء إلى الأبد».. مهمة مستحيلة ما دام العالم هو العالم. السلم الموسيقي، الموجات، الساعات.. كل المجازات تشير إلى الانفلات المتوحش للزمن. نحن عبيد الزمن على ما يقول كاتب الكآبة الأبرز «بيسوا».. الزمن يسيل، والساعات محاولات يائسة لتجميده، لكن تقسيم الزمن إلى ساعات ابتذال، الساعات زيف مضلل. رواية «السيدة دالاوي» لفرجينيا وولف كشف لهذا الزيف، إذ مجرى الوعي يفصح عن نفسه كزمن ضد الزمن.. السرد غير عادي بالمرة، الإطار الزمني يوم واحد ينتهي بحفلة تستضيفها الشخصية الرئيسة.. لا غريب في الأمر إذ يمكن للحظة واحدة أن تتسع لتعمر كتاباً كونياً بالأفكار والأحداث.. ليس بتذكرها وحسب بل بمعايشتها كأنها تقع تباعاً في لحظة أسطورية ضخمة: «تيك تاك».. الصوت المزعج الذي يمفصل الزمن ويكثفه بجعله للرتابة دوياً ملموساً مذكراً بأن ثمة لحظة ستمر، لحظة مثل كل اللحظات.. إن «التيك تاك» هي الأجراس التي تقرع مذكرة إيانا بإله اسمه التماثل.. وله شقيقة اسمها الهداية.. وأب اسمه النظام.. هذا الثالوث المرعب الذي تجفل منه كل أصوات الرواية.. إلى الحد الذي يبدو فيه الموت خلاصاً.. لكن الصوت المهيمن صوت متفائل.. لأن موت الشاعر العصابي الذي كره الأطباء وتمرد عليهم بانتحاره أدخل شيئاً من البهجة على السيدة دالاوي، إذ يمكن تجميل الحياة وأن نحياها حتى وإن كانت رتيبة بسودها الزمن اللندني. من الواضح أن «التيك تاك» ليس تذكيراً بضراوة الزمن ورتابته وكثافته الوحشية فقط.. إن الزمن في ركضه السريع والمجسد على شكل لحظوي بل أقل من ذلك بكثير حيث تنقسم اللحظة إلى ما لا نهاية هو تمهيد للموت.. الزمن انزراع الموت في الذاكرة.. والموت سؤال الدين والفلسفة والفن.. لا موت في الموت، يمكننا أن نثق بذلك.. وحينها ستبدو الحياة شيئاً مطلقاً، أبدية وخلود وحلم جدير بمتحوش.. لكن هيدغر يخبرنا أن تعريف الكائن الإنساني يستمد من تعريفات الهم والمشروع والفناء: لكي نعيش ينبغي أن نستحضر الموت.. لأن الحياة هي وجود نحو الموت.. نحو الموت؟ لا، هذه الصيغة مرفوضة عند آخرين.. ريكور مثلا فيلسوف فرنسي انتحر ابنه وتسكنه بعض الجينات اللاهوتية يقدم لنا صيغة أكثر حياة: ليست الحياة وجود - في- الموت كما تقترح الكتابات السوداوية، ولا هي حياة - نحو- الموت كما يقترح هيدغر.. وإنما الحياة حياة - حتى - الموت. * كاتب سعودي.