اختتمت في مسقط ندوة تطور العلوم الفقهية التي بحثت في دورتها التاسعة مفاهيم وأفكار حول (الفقه الحضاري - فقه العمران) موصية بوجوب التزام قواعد المرور التي يُؤدِّي التفريط فيها إلى الإضرار بالآخرين، ونشر ثقافة الوعي بهذه القواعد على أنها واجبٌ شرعيٌّ يستحق مخالفُه العقوبةَ الأخروية مع العقوبة الدنيوية. واقتربت الندوة من مشكلة العصر (بخاصة في عمان) وهي حوادث السيارات والتي يذهب ضحيتها نحو ألف شخص كل عام في السلطنة، ودعت في توصياتها إلى ما يلزم مرتادي الطريق مراعاة حقوقها المادية والمعنوية، كالستر وغض البصر ورد السلام ونحوها، وما الى يلزم المشرفين على الطرق حفظ الحقوق الاجتماعية والأخلاقية، وتجنيب كل ما شأنه التشويش على سائقي المركبات ووقوع الحوادث، وأكدت على ان الإسلام عني بالطريق وجعلها من المصالح العامة التي يجب الحفاظ عليها، وصرف كلّ ما يؤذي المارّة عليها. وأشادت الندوة بعد ثلاثة أيام من الحوارات طرحت من خلالها عشرات من أوراق العمل بإسهامات العمانيين الواضحة في بناء الحضارة الإسلامية منذ دخول الإسلام، وأشارت إلى عهد الإمام الصلت بن مالك الخروصي الذي عدته شاهدًا حضاريًّا، لما احتواه من قيم ومبادئ تضبط سلوك المسلم في حالي السلم والحرب، والرخاء والمحن، ومن منطلق هذه الوثيقة الحضارية العمانية أوصت الندوة بدراسة هذا العهد وتحقيقه وترجمته إلى لغات عدة والتعريف به في المحافل الإقليمية والدولية المهتمة بحقوق الإنسان، لما تضمّنه من أسس أخلاقية في التعامل مع أسرى الحرب. وفي مسائل المضاربات أوصت الندوة باتخاذ الإجراءات والوسائل التي تحول دون التلاعب بالأسواق المالية والاحتكارات، وتشجيع المؤسسات المالية على التعامل وفق قيم الفقه الحضاري باعتبارها حلولاً للأزمات المالية الحالية، مطالبة باتخاذ الإجراءات والوسائل التي تحول دون التلاعب بالأسواق المالية والاحتكارات، وتشجيع المؤسسات المالية على التعامل وفق قيم الفقه الحضاري باعتبارها حلولاً للأزمات المالية الحالية. وشددت الندوة على أن للفقه الحضاري أو فقه العمران مفهومًا شاملاً لا يقتصر على الجانب الإنشائي أو المادي فحسب، بل يشمل جوانب معنوية كثيرة تكتمل بها نظرية الحضارة الإسلامية، فهناك قيم العدل والأمن والعلم والحرية والرخاء والأخوة والتعاون والتكافل وغيرها من الجوانب المشرقة في حضارة الإسلام، لا بُدَّ من العناية بها فقها وتأصيلاً، يلي ذلك التركيز على جانب التطبيق بعد التنظير، وصولاً إلى العناية بجوانب الحضارة المادية مع نظيرها من الجوانب المعنوية بحيث يُقدَّمُ الفقه الحضاري للعالم أجمع على أنه مشروع متكامل. وأوضحت الندوة التي شارك فيها علماء من داخل السلطنة وخارجها من بلدان عربية وإسلامية وغيرها ان الإسلام فتح أفق النظر في الكون للاستفادة العلمية والعملية: (قل سيروا في الأرض فانظروا) ونحو ذلك من النصوص التي تُعدّ قاعدةً ومنطلقًا للفقه الحضاري العمراني بما مكّن أهل الخبرات المختلفة من إبراز مواهبهم وأفكارهم في بناء الحياة وتطويرها، وحيث إن الفقه الحضاري لا يمكن أن يستقيم عوده إلا باستقائه من ينابيع الدين الصافية؛ فلذلك توصي الندوة بإعداد مصنف مرجعي يشتمل على نصوص الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المرتبطة بمكنونات الفقه الحضاري، مرتّبًا ومبوبًا على مسائل العمران، بحيث يُشكِّل مادَّة نصِّية مرجعية في ذلك. وطالبت الندوة بإعداد مدونة واسعة للفقه الحضاري يشتمل على مباحث الفقه المتعلقة بمسائل العمران وفقه البيئة والمياه ونحوها، لإيجاد فقه مفصل مؤصل في هذه المجالات بين أيدي الفقهاء المحدثين، يُربط فيه الفقه الحضاري بالفقه الموروث وفق المذاهب الفقهية المتعددة، للخلوص إلى رؤية عامة وشاملة للمسائل المتعلقة بذلك، ثم وضع إطار مستقبلي لاستيعاب مستجدات الحياة الحديثة المعاصرة. ورأت الندوة أهمية كبرى للقيام بدراسة كلّ ما حفظه التراث من عهود إسلامية سابقة لاستخراج الأسس الحضارية والاستفادة منها في بناء الحضارة الإسلامية الجديدة، وقضايا التواصل والتعارف مع الأمم الأخرى، مؤكدة رؤية الإسلام العميقة والأصيلة والسابقة في احترام الحرية الفردية في مقابل شمول المجتمع وتوجهاته، وإعمال التوازن بين المصالح الفردية والجماعية بحسب القاعدة المعروفة «لا ضرر ولا ضرار». وطالبت بأن يتم العمل على إظهار رؤية الإسلام في إعمار الكون وإصلاحه، وعنايته بتنمية حياة الناس وكل الكائنات والمخلوقات في مختلف البيئات، من خلال قواعد الفقه ومقاصد الشريعة المعنية بذلك، ليكون هذا ردًّا حضاريًّا على ما يُتّهم به الإسلام من إرهاب وعنف ونحوه. وتناولت الندوة قضايا عصرية من بينها البيئة ورأت ان الأصل في البيئة السلامة والنقاء، وتلوثها هو من جناية الإنسان بسوء التصرف معها وإفسادها، فينبغي التوعية المستدامة لحماية البيئة وصيانتها لتكون عونًا على الحياة الكريمة، مطالبة بالعمل على الحدّ من ظاهرة التصحر والاحتباس الحراري والاهتمام بالتشجير انطلاقًا من حضِّ الإسلام على الغرس والزرع، وشددت على إحياء الآداب والأخلاقيات التي أسهم بها الفقه الإسلامي في التعامل مع المياه، والتراث الموروث يحتوي على جوانب عدة لا تزال تحمل بداخلها عناصر بقائها وفاعليتها في هذا المجال، ووضع ميثاق أخلاقي لاستهلاك المياه وتضمينها في قوانين إدارتها، وعلى الاهتمام بمسائل تقسيم الأرَضين والاستثمار العقاري مع الحفاظ على سلامة البيئة، والإفادة في ذلك من الموروثات الفقهية والخبرات الكبيرة للمزارعين بما يخدم أغراض التنمية والبيئة الصحية. وأشارت ندوة فقه العمران الى عمل الفقهاء والإداريين والمشتغلين بالشأن العام طويلاً على تنظيمات المدينة الإسلامية في العصر الوسيط، ولا شك في أنَّ التنظيمات الحديثة مختلفة، لكن يمكن الإفادة كثيرًا من التراث الأخلاقي والتنظيمي للمدينة؛ إسهامًا في معالجة المشكلات المتفاقمة للديموغرافيا المعاصرة. ورأت الندوة أن دور المسجد لا يقتصر على أداء العبادات البدنية كالصلاة، بل يشمل كل جوانب الحياة التي لها صلة بالمسجد كالأنشطة العلمية والاجتماعية، وهذا يستدعي التنسيق بين علماء الشريعة والمهندسين المعماريين عند تصميم المساجد لاستغلال كل مساحات المسجد وتزويده بالمرافق اللازمة لأداء رسالته. وأوصت الندوة بضرورة دراسة حقوق العمال ونشر ثقافة احترام العامل وعدم ازدرائه وانتقاصه، وإعمال المبادئ الأخلاقية الحضارية المتصلة بحقوق العمال، فقد جاء الإسلام الحنيف بما يحفظ للعامل حقوقه المادية والمعنوية باعتباره موردًا بشريًّا حيويًّا. العمل على تعميم التصورات الفقهية الحضارية في مناحي الحياة المختلفة، وإشاعتها عبر وسائل الإعلام والدروس والمحاضرات والخطب، وضمن المناهج التعليمية بشقيها العام والعالي، وذلك لبيان عظمة التراث الفقهي من جهة؛ ولاستعادة بعض تلك القيم والتعاليم والتأسِّي بها من جهة أخرى، وكذلك العمل على الانفتاح على محيطنا الإقليمي والدولي لفهم التغيرات التي تعتمل داخله ولها صلة وثيقة بمجتمعاتنا، ومن هنا تبرز أهمية الإسقاط على الواقع والالتفات إلى فقه النوازل المعاصرة لإزالة ما يشكل على الناس، وربطهم بقواعد الشرع الحنيف وأصوله الثابتة.