حين نتحدث عن الرزق تذهب أذهان الكثيرين مباشرة إلى المال أو العقارات .وربما تتجاوز بعض الأذهان هذا التفكير إلى ضرب آخر من الأرزاق كالأولاد مثلا أو الصحة أو السعادة أو الزوجة . وربما يصدق هنا المثل القائل : " كل يغني على ليلاه " .فمن يجعل المال شغله الشاغل يعتقد أن الرزق المطلوب هو المال .ومن يرى سعادته في العيال يرى أن الله قد أكرمه حين حباه قبيلة من الأولاد فتيانا وفتيات، ويرى قرة عينه أن يراهم حوله يمرحون .ومن الناس من يرى أن الله قد رزقه أكرم رزق، وقسم له أفضل قسمة، إذا من الله عليه ووهبه خلقا حسنا فصدق فيه قول القائل : فإذا رزقت خليقة محمودة فقد اصطفاك مقسم الأرزاق ألوان الرزق والرزق في الحقيقة تتنوع أصنافه، وتتباين صوره، فمنه الحسي كالمال والأولاد والزوجة والعقارات والمنصب والدرجة العلمية، ومنه المعنوي كالعلم والرضا والسعادة وراحة البال، ومنه ما يشمل جانبا حسيا وآخر معنويا كالصحة . ومن الرزق أيضا الإيمان واليقين .ففي الحديث : " إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه " ، وفي الحديث الآخر : " إن للمعصية ظلمة في القلب وسوادا في الوجه وإن للحسنة ضياء في القلب وسعة في الصدر ونورا في الوجه " . وليس هذا كله إلا حديث عن الإيمان، إذ أنه لون من ألوان الرزق، يتفاوت ويتباين بتباين صلة العبد بالله، ومقدار استعداده لتلقي رزق الله .وهذا ما يعنيه طيف من أطياف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن للقلوب إقبالا وإدبارا، فإن أقبلت فزيدوها وإن أدبرت فألزموها الفرائض " . وحديثنا عن القلوب التي هي رزق من عند الله .يشمل أمرين، هما : قلبك أنت، وقلوب الآخرين .ولنبدأ بقلبك أنت على حد قول سيد الخلق : " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول " .وقلبك هذا رزق من الله، فمن ذا الذي غرس فيه الرحمة سواه، ومن الذي ينعم عليك بإحساس الحنو والرفق، حينما ترى ما يدعو لذلك . من ذا الذي يرزقك إحساس الوجل والخشية حينما تتلي عليك آيات الله : " الَّذِينَ إِذَا ذُكرَ اللهُ وجلت قُلُوبُهُمْ " " الأنفال : ." 2 من ذا الذي يلين قلبك لذكره : " ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوب ُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهَِّ ذَلِكَ هُدَى اللهَِّ ي َهْدِي بِهِ مَنْ ي َشَاءُ وَمَن ي ُضْلِلْ اللهَُّ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ " " الزمر : ." 23 أليس من رزق الله لك أن وهبك قلبا متحركا حساسا يطرب للخير، وينشرح به، ويفزع من الشر وينقبض منه؟ أليس من رزقه لك أن وهبك قلبا تتحرك أوتاره، حينما تتلى كلمات الله، فيرسل إشارته للعين لتدحرج على الخد دمعة ساخنة من قلب حرارة المعصية والتفريط؟ أليس من رزقه ووافر نعمته أن وهبك قلبا، يرحم الضعيف ويئن لأنين المساكين، يحب الصغار، ويرسل إشارته لليدين لتتحركا بلمسة حانية على رأس يتيم، أو صدقة ضئيلة لجيب مسكين، فتضع البسمة على شفتيه، طالما عاشرها الحزن وقست عليها الأيام . وإن قالوا إن الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يحس به إلا المرضى، لقلنا إن الرزق نعمة في يد أصحابه، لا يحس به إلا من فقده .والقلب رزق لا يحس به إلا من حرم نعمة القلب .ولنا في القرآن خير دليل، حين نقرأ : " أَفَلاَ ي َتَدَب َّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا " " محمد : ." 24 فكأن القرآن يعرض بالقلوب التي حرمت رزقها من نعمة التدبر، فصارت موصدة الأبواب لا تستقبل نعمة الله .وفي الحديث عن الرجل الذي قال للنبي حين رآه يقبل الحسن والحسين : " إن لي عشرة من البنين ما قبلت واحدا منهم قط " ، فرد عليه النبي قائلا : " وما علي إن كان الله قد نزع الرحمة من قلبك، من لا يرحم لا يُرحم " وكأن النبي يشير من طرف خفي إلى أن هذا الرجل قد رزق الرحمة، التي يفيضها الله على قلب من أراد من عباده .وحرمانه من الرزق يجعل قلبه في مصاف القلوب التي منعت فضل الله سبحانه .بل إن القرآن يعيب على من تملكوا القلوب - آلة وجسما - ثم حرموا نعمة الرزق القلبي، الذي يمكنهم من إدراك نعمة الله في الكون : " لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ ي َفْقَهُونَ بِهَا " " الأعراف : ." 7 وحينما يحرم القلب رزقه من المشاعر والأحاسيس الفاضلة تنعدم فيه نوازع الخير وتنضب فيه منابع الهدى، فلا يتحرك لنداء ولا يستجيب لدعوة، ويحال بينه وبين صاحبه : " يا أيُها الذين آمنوا اسْتَجِيبُواْ للهِِّ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لمَِا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَّ ي َحُولُ ب َينَْ المَْرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تحُْشَر ُونَ " " الأنفال : ." 24 وحينئذٍ يقسو القلب، ويتحجر حتى يصير أشد قسوة من الحجارة نفسها : " ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالحِْجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً " " البقرة : ." 74 ترابط القلوب ويجهل الكثيرون قيمة المحبة في الله، وقرب القلوب وترابطها على معان سامية .فالله سبحانه هو الذي يؤلف القلوب " وَأَلَّفَ ب َينَْ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ ب َينَْ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَّ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " " الأنفال : ." 63 وتكون قلوب الآخرين هدفا للدعاة، الذين يضعون كل اهتماهم في كسب قلوب الناس .وحين نقول إن القلوب رزق، نعني أنك قد تجد داعية من الدعاة قد من الله عليه بمحبة الناس، فرزقه قلوبهم، وملكه مفاتيحها .فاستطاع أن ينفذ إليها بكل سهولة ويسر .وآخر قد أوصدت أمامه أبواب القلوب فلم يعد لديه إليها سبيل، ولم يجد من الناس إلا النفور والإعراض، إنهم لم يلتمسوا هذا الرزق " أي رزق القلوب " ممن يملك مفاتحه . وإن كان الله قد ربط كسب الرزق والمعاش بالسعي فقال : " فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه " ، وجعل هذا كله في سورة تتناسب مع السياق، هي سورة الملك؛ فمن المناسب أن نقول إن السعي لطلب رزق القلوب أمكن وأجدر . وما رزق النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرزق الواسع من القلوب إلا بمحبة الله له، ومعونته له على كسب قلوب الناس والتأثير فيهم، ثم بصبره الواسع المتين ورأفته ورحمته بهم، وحكمته التي جعلته أرعى لحالهم منهم وأبصر بأمرهم من أنفسهم : " وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهَِّ لَوْ ي ُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَْمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللهََّ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَز َيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ " " الحجرات : ." 7 إن المتبصر في حال القلوب يجد رزقها يزيد، طالما ارتبطت بالله واعتصمت به .فالمرء إن ربط قلبه بالله هانت عليه الدنيا وزاد إيمانه وغمره فضل الله .فلا يفقد شيئا طالما أن الله معه، على حد قول ابن عطاء الله السكندري : " إلهي ! ماذا وجد من فقدك، أم ماذا فقد من وجدك .عميت عين لا تراك عليها رقيبا، وخسرت صفقة عبدٍ لم يجعل له من حبك نصيبا " .فالقلب الجاف لا ينشىء جدولا والقلب البارد لا يسعر ناراً، وما خرج من القلب وصل إلى القلب، وما خرج من اللسان لم يجاوز الآذان .إن كان هذا طريق القلوب، فهيا نسير فيه ليزداد رزقنا لقلوبنا ولقلوب غيرنا وعلى الله قصد السبيل . أحمد محمد سعد