استشاري ل«عكاظ»: 4 عوامل ستعزز الفوز في «الكلاسيكو»    ليفربول يتوقع بقاء صلاح    الهلال أكمل تحضيراته    الإطاحة بوافد وثلاثة مواطنين في جريمة تستر وغسيل أموال ب200 مليون ريال    القبض على عصابة سلب وسرقة    6 نقاط تفصل بنو قادس عن دوري روشن    بيان الاجتماع الوزاري للشراكة الإستراتيجية بين مجلس التعاون والولايات المتحدة    رئيس دولة فلسطين يغادر الرياض        ترقيم الماشية شرط الرعي    مذكرة تفاهم سعودية-موريتانية حول قطاعات الكهرباء والطاقة المتجددة والهيدروجين النظيف    توقيع مذكرتي تفاهم لتعزيز استدامة إدارة النفايات    السعودية للكهرباء تتلقى اعتماد العائد التنظيمي الموزون لتكلفة رأس المال على قاعدة الأصول المنظمة ب 6.65%    محافظ العارضة يستقبل مفوض الإفتاء فضيلة الشيخ محمد شامي شيبة    إسرائيل تناهض تحركات المحكمة الجنائية    %97 رضا المستفيدين من الخدمات العدلية    فيصل بن بندر يستقبل مدير 911 بالرياض.. ويعتمد ترقية منتسبي الإمارة    أمير المدينة يدشن مهرجان الثقافات والشعوب    الهيئة الملكية للجبيل وينبع    اليوم.. آخر يوم لتسجيل المتطوعين لخدمات الحجيج الصحية    حارس النصر "أوسبينا" أفضل الحراس في شهر أبريل    مواهب سعودية وخبرات عالمية تقود الأوبرا الأكبر عربياً "زرقاء اليمامة"    السنيد يتوج أبطال الماسية    جدة: القبض على مقيمين لترويجهما مادة الحشيش وأقراصا خاضعة لتنظيم التداول الطبي    اختتام أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي في الرياض    7 دول طلبت من المحكمة الجنائية الدولية وقف اعتقال مسؤولين إسرائيليين    إنقاذ معتمرة عراقية توقف قلبها عن النبض    الاحتلال اعتقل 8505 فلسطينيين في الضفة الغربية منذ السابع من أكتوبر    «سلمان العالمي» يُطلق أوَّلَ مركز ذكاء اصطناعي لمعالجة اللغة العربية    أمير تبوك يطلع على نسب الإنجاز في المشاريع التي تنفذها أمانة المنطقة    الكلية التقنية للبنات بجدة تطلق هاكاثون تكنلوجيا الأزياء.    أمير المدينة يستقبل سفير إندونيسيا لدى المملكة    زلزال بقوة 5 درجات يضرب شرق تايوان    "جائزة الأميرة صيتة" تُعلن أسماء الفائزين بجائزة المواطنة المسؤولة    افتتاح الملتقى السنوي الثاني للأطباء السعوديين في إيرلندا    سياسيان ل«عكاظ»: السعودية تطوع علاقاتها السياسية لخدمة القضية الفلسطينية    أمطار مصحوبة بعدد من الظواهر الجوية على جميع مناطق المملكة    76 فيلماً ب"أفلام السعودية" في دورته العاشرة    «مطار الملك خالد»: انحراف طائرة قادمة من الدوحة عن المدرج الرئيسي أثناء هبوطها    أمير الرياض: المملكة تدعو لدعم «الإسلامي للتنمية» تلبية لتطلعات الشعوب    وزيرا الإعلام والعمل الأرميني يبحثان التعاون المشترك    نائب أمير مكة يطلع على تمويلات التنمية الاجتماعية    الأهلي بطلاً لكأس بطولة الغطس للأندية    رابطة العالم الإسلامي تُعرِب عن بالغ قلقها جرّاء تصاعد التوترات العسكرية في شمال دارفور    منصور يحتفل بزواجه في الدمام    ديوانية الراجحي الثقافيه تستعرض التراث العريق للمملكة    لقاء مفتوح ل"فنون الطهي"    إطلاق المرحلة الثانية من مبادرة القراءة المتجولة    فيصل بن بندر يؤدي الصلاة على عبدالرحمن بن معمر ويستقبل مجلس جمعية كبار السن    دولة ملهمة    فئران ذكية مثل البشر    إستشاري يدعو للتفاعل مع حملة «التطعيم التنفسي»    المصاعد تقصر العمر والسلالم بديلا أفضل    سعود بن بندر يستقبل أعضاء الجمعية التعاونية الاستهلاكية    ذكاء اصطناعي يتنبأ بخصائص النبات    تطبيق علمي لعبارة أنا وأنت واحد    كبار العلماء: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    هيئة كبار العلماء تؤكد على الالتزام باستخراج تصريح الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحج آيات وذكريات
نشر في تواصل يوم 18 - 10 - 2012

عندما يأتي موسم الحج فتتحقق الآيات، وتتلاحق الذكريات، وتتلاحم العِظات، وتتجمع العبادات، في أفضل بقعة عرفتها الأرض، وأكبَرَتْها الدنيا، وجمَّلها الدين، وسطرها التاريخ، وخلَّدها القرآن، وقدَّرها الرحمن؛ فيه الآيات: ﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَام إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَه كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 97]، وفيه الأمان والطهارة: ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرّكَّعِ السّجودِ ﴾ [البقرة: 125].

إبراهيم – عليه السلام -:
يتذكر المسلم هناك أباه الأول إبراهيمَ، وهو يودع ثمرةَ فؤاده، ومهجة قلبه، ولده إسماعيل، وزوجته هاجر، في مكان قَفْر، صحراء جرداء، لا زرع ولا ماء، لا نفَرَ عنده ولا ثمر، وينطلق إلى ربه متطلعاً إلى ثوابه، ومؤملاً في رضوانه، تستوقفه الزوجة المؤمنة المخلصة هاجر – رضي الله عنها -: إلى أين؟ إلى أين؟ ثم تستدرك: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لن يضيِّعَنا، طاعةٌ لله مطلقة، ويقين في الله ثابت، وتوكّل على الله عظيم، شعارٌ رائع لمن يريد العمل لله، لمن يريد اليقين في الله، لمن يريد تعبيد الأرض لله.

وذهب إبراهيم، وبقِيَت هاجر ومعها إسماعيل الرضيع، ونفِد الطعام والماء، وعطش الرضيع، وأخذت هاجر تروح وتجيء سبع مرات، ذهاباً وإياباً، حتى أنهكها الجهد، وهدَّها العطش، فأرسل الله إليها ينبوعَ الرحمة في صحراء اليأس، أرسل إليها ينبوع الرأفة في بَيْداء العدم، ماءً طاهراً مطهراً، هو شفاء لكل علة، ودواء لكل داء، طعام طعْم، وشفاء سقم، إنه ماء زمزم، شرب منه إسماعيل، وشربتْ هاجر، وشرب إبراهيم، وشربت الأمَّة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وخلَّد الله ذلك في القرآن: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 158]، والأمة التي تنتسب إليها هاجر يجب أن تسعى لله كما سعَتْ، وتتعبَّدَ لله كما تعبَّدت، تتعبد بما جاء ذكره في سورة البقرة إلى يوم الدين.

قواعد البيت:
يتذكر المسلم هناك إبراهيمَ وإسماعيلَ وهما يرفعانِ القواعد من البيت ﴿ وَإِذْ يَرْفَع إِبْرَاهِيم الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيل رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيع الْعَلِيم * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذرِّيَّتِنَا أمَّةً مسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّاب الرَّحِيم * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسولاً مِنْهمْ يَتْلو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيعَلِّمهم الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيز الْحَكِيم﴾ [البقرة: 127 - 129]، إبراهيم – عليه السلام – غايته توحيد الله في الأرض، وتعبيد الناس لرب الناس، وإنجاب الأولاد ليس من أجل الطعام والشراب، ولا من أجل العزوة والمتعة فحسب؛ وإنما من أجل أن يركعوا لله ويسجدوا، من أجل قضية التوحيد، من أجل الدعوة والرسالة، ورفْعِ راية العقيدة عالية: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْت مِنْ ذرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيقِيموا الصَّلَاةَ ﴾ [إبراهيم: 37]، عندما كبِرَ إسماعيل كانا يرفعان القواعد من البيت، ولم تكنِ التسلية غناءً تافهاً، أو طرباً مذموماً، أو لَهْواً ممقوتاً، كلا؛ وإنما كانت لجوءاً إلى الله، واستعانة به، ودعاءً من أجل إقامة الحق في الأرض، ما كانت الأمة الإسلامية بطولها وعرضها، وما كان الرسول الكريم محمد – صلى الله عليه وسلم – يقودها، ويَسوسها، ويرفع من شأنها، ويعلي من مكانتها إلا نتيجةَ هذا الدعاء، وما كان هذا البيت العتيق الذي جعله الله مثابة للناس وأمناً إلا عن طريق سواعدِ هذين النبيين الكريمين، كيف؟!

إنهما من قمم الخير الذين يذكرون في الكتاب الخالد "القرآن الكريم"، لا بأشكالهم؛ وإنما بمناقبهم، لا بحسَبهم؛ وإنما بشمائلهم، لا بألوانهم؛ وإنما بأعمالهم، بما قدموا للبشرية من عطاءٍ، وبما أهدَوا للناس من خير، وبما حفظوا للحق من عهود، وبما صدَقوا مع الله من وعود: ﴿ وَاذْكرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إنه كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسولاً نَبِيّاً * وَكَانَ يَأْمر أَهْلَه بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً ﴾ [مريم: 54 - 55]، ونحن نتعبَّد لله بذكرهم، ونخطو في طريقنا إلى الله خطْوَهم، واذكر في الكتاب إسماعيل، مَن إسماعيل؟!

إنه الغلام الذي جاء في صحراء جرداء، لا زرع فيها ولا ماء، بعد طول انتظار، ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الصافات: 100]، إنه صادق الوعد مع ربه: ﴿ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تؤْمَر ﴾ [الصافات: 102]، ومع نفسه حين قدَّم المشيئة؛ ومن ثم نجح في الابتلاء: ﴿ سَتَجِدنِي إِنْ شَاءَ اللَّه مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الصافات: 102]، إنه الذي رفع مع أبيه الخليل – عليه السلام – القواعدَ من البيت؛ ليتعبَّد الناس لرب الناس، إلى أن يرثَ الله الأرض ومن عليها: ﴿ وَإِذْ يَرْفَع إِبْرَاهِيم الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيل رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيع الْعَلِيم ﴾ [البقرة: 127]، وفي هذا المكان المقفر، وفي هذا الجو الموحش كان الدعاء الخالد لا لأنفسهما، بل للأجيال من بعدهما، الدعاء بالهداية والتوبة، وهذه أخلاق الكبار: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذرِّيَّتِنَا أمَّةً مسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّاب الرَّحِيم ﴾ [البقرة: 128]، ثم رجاء آخر: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسولاً مِنْهمْ يَتْلو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيعَلِّمهم الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ [البقرة: 129]، يرجون الخيرَ للأجيال من بعدهم، ماذا كانت النتيجة؟! غلام ليس كأي غلام؛ وإنما: ﴿ فَبَشَّرْنَاه بِغلَامٍ حَلِيمٍ ﴾ [الصافات: 101]، وأمَّة ليست كأي أمة؛ وإنما: ﴿ كنْتمْ خَيْرَ أمَّةٍ أخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمرونَ بِالْمَعْروفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمنْكَرِ وَتؤْمِنونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110].

وأنت أيها القارئ الحبيب، وأنا العبد الفقير إلى الله، وغيرنا كثيرون من نتاج هذا الدعاء، ومن لبِناتِ هذه الأمَّة، نحسب أنفسنا كذلك ولا نزكيها على الله، ولله الفضل والمنة، ونبي ليس كأي نبي؛ وإنما: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خلقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، ﴿ بِالْمؤْمِنِينَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، بل والعمل الذي كانا يعملانه ويسلِّيان نفسيهما فيه بالدعاء والرجاء لا باللهو والغناء – أصبح أفضلَ بقعة على وجه الأرض: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مبَارَكاً وَهدًى لِلْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 96]، وآمَنَمكانٍ في هذه الدنيا: ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً ﴾ [البقرة: 125]، ﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَام إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَه كَانَ آمِناً ﴾ [آل عمران: 97]، إنها دعوات الكبار، وعزائم الأبطال، وهمم القمم، إنها دعوات لا ترفضها السماء، ولا يردها ربّ السماء؛ لأنها ليست شخصية وإنما عامة، ليست وقتيةً؛ وإنما مستمرة، ليست لمصلحة بعينها وإنما لخيرَي الدنيا والآخرة، إن إبراهيم – عليه السلام – وهو قمة؛ بل أمة ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أمَّةً ﴾ [النحل: 120] – يرجو الأولاد لا للعزوة ولا للمتعة، وإنما ليسجدوا لله ويركعوا: ﴿ لِيقِيموا الصَّلَاةَ ﴾ [إبراهيم: 37]، وجاء إسماعيل على نفس درب أبيه: ﴿ وَكَانَ يَأْمر أَهْلَه بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً ﴾ [مريم: 55]، فإذا رزقتَ الأولادَ، لا تجبن بهم عن طاعة، ولا تقعد بهم عن عبادة، ولا تدفعْ بهم إلى معصية، قِمم الخير كذلك يذْكَرون بأعمالهم:﴿ وَاذْكرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقوبَ أولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ﴾ [ص: 45].

كل الناسِ لهم أيدٍ، ولهم أبصارٌ، أما في هذا الموقف فإن هؤلاء القممَ لديهم ذكاءٌ حاد، وباعٌ طويل، وبصيرة ثاقبة، قدرات هائلة في زرع الخير للناس، وتقديم الهداية للخَلق، ومن الخير ومن الهداية أن اللهَ كتب لك الحج، فجاء بك إلى الحرم، تؤدي مناسكه، أو تستشعر روحانياته، أو تعيش لحظاته، أو تحيي أم تَحيا حركاته وسكناته، إن اللهَ يشرِّفهم بالانتساب إليه أولاً "عِبَادَنَا"، وثانياً: بذكرهم أنهم " أولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ".

ثم الذين من بعدهم يربطون الأرضَ بالسماء، ويصِلون الخَلق بالخالق، الأنبياء والمرسلون، والصحابة والتابعون، والصالحون المصلحون إلى يوم الدين.

أين نحن من هذه المناسك؟ أين نحن من هذه المحطات؟ أين نحن من هذه الشعائر وهذه المشاعر؟ هل كل مستطيع يلبِّي؟ هل كل مستطيع يجيب؟ نسأل الله أن يكون!

أدب النبوة لا يتلاشى في الشدة:
يتذكر المسلم إبراهيمَ – عليه السلام – وهو يقدِّم ولده لله: ﴿ يَا بنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحكَ فَانْظرْ مَاذَا تَرَى ﴾ [الصافات: 102]، فيجيب الولد: ﴿ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تؤْمَر ﴾، نحن نرى صباحَ مساءَ مَن يذبح ولده، ومن يذبح والده، ومن يذبح زوجته، من أجل الشيطان لا من أجل الرحمن، أما الخليل، فقد تمكَّن من الإخلاص لله، وتمكن من سلامة القلب، وتمكن من التوحيد الخالص، فجاء الفداء من الله – تعالى -: ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَه السَّعْيَ قَالَ يَا بنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحكَ فَانْظرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تؤْمَر سَتَجِدنِي إِنْ شَاءَ اللَّه مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّه لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاه أَنْ يَا إِبْرَاهِيم * قَدْ صَدَّقْتَ الرّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهوَ الْبَلَاء الْمبِين * وَفَدَيْنَاه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ *سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمحْسِنِينَ * إِنَّه مِنْ عِبَادِنَا الْمؤْمِنِينَ ﴾ [الصافات: 102 - 111].

لكننا ما زلنا أمَّةَ طعامٍ وشراب، الإسلام أحوج ما يكون اليومَ إلى التضحية والفداء، أين تضحية الأمَّة وأين الفداء؟ الأمة حية لكنها تضرَب في كل مكان، والجميع يتفرج إلا من رحم ربي وعصم، إن الله جاء بالفداء لإبراهيم لأنه أخلص، فهل نحن مخلصون؟ ولأنه ضحى، فهل نحن مضحّون؟ هل التضحية في أن نذبح ونأكل فحسب؟ كلا إنها الرمزية، لكن المطلوب أن يضحِّيَ المسلم بوقته وبعلمه، بماله وولده، بحياته ومماته في سبيل إعلاء كلمة الله، ونصرة دين الله، ذلك من التقوى التي أرادها الله: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لحومهَا وَلَا دِمَاؤهَا وَلَكِنْ يَنَاله التَّقْوَى مِنْكمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكمْ لِتكَبِّروا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكمْ وَبَشِّرِ الْمحْسِنِينَ ﴾ [الحج: 37].

محمد رسول الله والأدب مع الله:
يتذكر المسلم عبدَالله بن عبدالمطلب وهو يفتدى بمائة ناقة، ليودِعَ رَحِمَ آمنةَ بنت وهب أطهرَ نطفة على وجه الأرض محمداً – صلى الله عليه وسلم – وتتحقق دعوة إبراهيم وإسماعيل: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذرِّيَّتِنَا أمَّةً مسْلِمَةً لَكَ ﴾ [البقرة: 128].

يتذكر المسلم حبيبَه – صلى الله عليه وسلم – وهو يتنقل من الطفولة إلى مراحل الصبا، ينتقل من البعثة إلى الهجرة إلى العودة، يتذكره وهو يضع الحجَر ويخمد الفتنة، ويتذكره وهو يخرج من مكة مهاجراً إلى المدينة وهو يقول: ((والله إنكِ لأحبّ بلاد الله إلى الله، وأحبّ بلاد الله إليَّ، ولولا أن أهْلَك أخرجوني ما خرجت…))؛ فينزل الله عليه: ﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقرْآنَ لَرَادّكَ إِلَى مَعَادٍ ﴾ [القصص: 85]، ويعود منتصراً مظفَّراً يوم الفتح الأكبر في عشرة آلاف مسلم وهو يقول: ((جاء الحق وزهق الباطل؛ إن الباطل كان زهوقاً)).

يتذكر محمداً – صلى الله عليه وسلم – وقد كان يحبّ قِبلةَ أجداده السابقين من الأنبياء والمرسلين، وأراد الله – عز وجل – أن يحوِّل وجوهَهم صوب القدس بعد الهجرة، لكن النبي المرسل، والرسول المؤدب، لم يشأ أن يقترحَ حتى مجرد اقتراح، أو أن يدعو حتى مجرد دعاء لتحويل القِبلة، وإنما كان يقلِّب وجهه في السماء، في أدبٍ جم، وسمو فريد، وتواضع رفيع، مع ربه وخالقه ورازقه، هل يغيِّر شرع الله؟ كلا، هل يتحايل على أمر الله؟ كلا، هل يبتدع في دين الله؟ كلا ثم كلا، حاشا لله أن يفعلَ ذلك رسول الله، فما بال الذين يغيِّرون شرع الله في كل صباح؟ قوانين وضعية، وقرارات أرضية، عادات اجتماعية، وسلوكيات فردية وجماعية، أعراضٌ تنتهك، وحقوق تغتصب، وحريات تمتهن، بل دماءٌ تسكب، وأرواح تزهق باسم قوانينَ وقراراتٍ وعادات وسلوكيات ما أنزل الله بها من سلطان، قال جابر – رضي الله عنه -: خطبَنا – صلى الله عليه وسلم – يوم النحر فقال: ((أي يوم أعظم حرمة؟))، فقالوا: يومنا هذا، قال: ((فأي شهر أعظم حرمة؟))، قالوا: شهرنا، قال: ((أي بلد أعظم حرمة؟))، قالوا: بلدنا هذا، قال: ((فإن دماءَكم وأموالكم عليكم حرامٌ، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، هل بلغت؟))، قالوا: نعم، قال: ((اللهم اشهد))؛ صحيح، وقال – صلى الله عليه وسلم -: ((من بدَّل دينه، فاقتلوه))؛ صحيح البخاري.

كان المسلمون يتجهون في صلاتهم إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – فقط يحدِّث نفسه أن تحوَّلَ القِبلة إلى مكة، إلى الكعبة، إلى البيت الحرام، إلى المكان الذي بلغ فيه مراتعَ الصبا، وعلى أرضه درجت قدماه، ومن سمائه استقبل وحْيَ الله، إلى رمز الأمة، وكرامة الأمَّة، وكعبة الأمة، كان النبي يقلِّب وجهه في السماء تأدباً مع ربه، وما أجمل أن يتأدب المخلوق مع خالقه في طلباته، وفي رغباته، في حركاته وفي سكناته، في يسره وعسره، في غناه وفقره، في صحته وسقمه، في قوته وضعْفِه ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْث مَا كنْتمْ فَوَلّوا وجوهَكمْ شَطْرَه وَإِنَّ الَّذِينَ أوتوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمونَ أَنَّه الْحَقّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّه بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلونَ ﴾ [البقرة: 144]، كان النبي يحبّ ويرغب، لكن هل يقترح؟ لا، هل يطلب؟ لا؛ لأن الدين لا يتغيَّر، والشرع لا يتبدل، وهو رسول الله ومصطفاه وحبيبه وخليله؛ فلا يحب أبداً أن يطلب منه تغييراً في الشرع، أو تبديلاً في الدين، لكنه كان يرغب أن يتحول قبل الكعبة، فلاحظت السماء هذه الملاحظة، مثلما كان أيوب – عليه السلام – يئنّ من المرض، كان المرض يذبحه ذبحاً كل يوم، لكنه كان متأدباً مع ربه لا يقترح عليه حتى مجرد الشفاء ﴿ وَأَيّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّه أَنِّي مَسَّنِيَ الضّرّ وَأَنْتَ أَرْحَم الرَّاحِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 83]، مسَّني الضرّ وأنت يا رب به أعلم، والعبد عندما يرجع إلى ربه، يناديه ويخشاه، فإن اللهَ يهديه إلى مبتغاه، يلبي طلباته، ويحقق رغباته، هكذا الأنبياء، وكذا سالكو درب الأنبياء، الصالحون المصلحون، الذين يبلِّغون دعوة الله، ويحفظون الدين، ويحملون همَّ المسلمين: ﴿ الَّذِينَ يبَلِّغونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَه وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً ﴾ [الأحزاب: 39].

اللهم ارزقنا حجّاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً، اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، ولا تجعل الدنيا أكبر همِّنا، ولا مبلغ علمنا، وصلِّ اللهم على سيدنا محمد، وعلى أهله وصحبه وسلِّم، والحمد لله رب العالمين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.