انفجار لفظي أم تحول فكري استعرت هذا من مقال كاتبنا القدير محمد بن علي بن كدم عبر صحيفتنا الرائدة والمميزة صحيفة الرأي الإلكترونية والذي كان بعنوان "رقي الذات في الكلمات". من الصعب مجاراة كاتبنا في انتقاء معظم الكلمات، ولا حتى في المفهوم العام لبعض الجمل التي هي أقرب إلى الفلسفة أحياناً، وفي مرات أخرى هي رسائل مغلفة وملغمة لمحيطه المكاني والسكاني، بل تتجلى فيها نزعة الانتقام اللفظي المنتقى وكأنها تصفية حسابات قديمة وجديدة مع من يعتقد بأنهم خذلوه أو على أقل تقدير لم يفهموه أو لم يقدّروا ما قدّم لطريب أو للصحافة ، وفي أحيان قليلة تظهر عبارات "المزحة بالرزحة"، هذا مايعتقده أو يتوهمه أو ربما هو كذلك بالفعل، فليس لنا إلا الظاهر وبما خطه بيمينه ونشره في وضح النهار، وهذا ما يريده من خلال قوله لي: "وتمنيت لو أنه أعلن رأيه في مقالته تلك لواقعنا المرّ". الكتابة عن محمد بن كدم سلاح ذو رؤوس نووية قد ينفجر أحدهما فيلتهم الصاحب، الصديق، العدو والمنتقد بل وحتى المحايد، تكتب عنه أو له وكأنك تمشي بين ألغام الحوثيين لا تدري هل زرعت لحمايتهم أم لقتل اليمنيين الآخرين، أم فخ للتحالف، أم لقتل أنفسهم لأنهم يزرعونها بلا خرائط. محمد بن كدم مثقف واع، صحفي حصيف يتقبل الآخر عندما يعرف بأن الأمر ليس بمكيدة أو خلفه أمر ما، ولهذا كان هذا المقال.
هو أم هم؟ نحن لسنا في محاكمة وليس لنا إلّا ما يظهر من كتابات عامة وعبارات "مسلّحة" ولكنها من طرف واحد، هذا الطرف معروف بنهجه وبقدراته الكتابية، وظروف نشأته ومسيرة حياته، الطرف الآخر أو بالأصح الأطراف الأخرى الذي يعنيهم الكاتب، لم نعرف عنهم إلا رفض ما يقدمه كاتبنا، فنصبح بحاجة لشيء من التفصيل أو التحليل حتى نقيّم الوضع، فكل ماسمعناه منهم أنه نسي طريب منذ غادرها ولم يتذكرها إلا بعد أن أصبحت عروس كل يخطب ودها، وهذا غير كافٍ منهم وليس بدليل يعتد به، وفي نفس ليس بمسوغ ليثير حنقه عليهم خاصة بأننا في بيئة تردد المثل الشعبي " من رد ماكنّه شرد" فهل لابد لمجتمع ما قبول مايطرح؟ والتسليم برأي الكاتب، بالتأكيد لا. هل يحق للكاتب أو المؤلف أو الباحث، فرض ما يقول على الآخرين؟ أيضاً لا وألف لا. هل ما يقدمه الباحث أو الكاتب يرقى لما يتطلع إليه محيطه؟ وهنا مربط الفرس، وقد يكون بداية فهم الآخر، الكاتب كمن يتحدث في مجلس عام قد يوفق وقد يخفق وقد يعجب بكلامه البعض ويفسره آخرون بتفسير آخر، قد يخطئ أحدهم في كلمة فيقابل بشتى أنواع الطعن والهمز واللمز، رغم أنه قدم الكثير والكثير، فكيف تعيب صاع من القمح الخالص حبة واحدة من الشعير؟، وقد يخطئ آخر بكلمتين أو أكثر فيُتجاهل خطأه كل من حوله، بل قد يبحثون له عن مبررات، هنا المسألة قبول مسلم به لما يطرحه أحدهم وعدم قبول مسبق لآخر قبل أن تتحرك شفتيه بحرف واحد. وبهذا يكون السؤال الأصعب: هل الرفض للشخص نفسه أم لإنتاجه الفكري. إيصال الفكرة كثيرون أخفقوا في إيصال فكرتهم أو هدفهم بوضوح لمن حولهم، فعندما تكون الفكرة قاتمة تظهر بوادر الشكوك والتساؤلات، ولماذا؟ وكيف؟ ومن وراءه؟ وهذا لا يعنيه؟ والكثير من التساؤلات، حتى في خصوصياته وحياته العائلية وماضيه وتاريخ جده العاشر وخاله السابع عشر. إذا لم تصل الفكرة بوضوح قبل الشروع في أي عمل، فالفشل محتوم أو على اقل تقدير سيكون المشوار مظلم حالك كظلمة الفكرة التي لم تصل.
ناقم أم هائم من خلال معظم الجمل التي يرسلها أبا ياسر في مقالاته تتجلى نبرة الانتقام والهجوم، ولو أعدنا قراءة مقالاته لرأينا هذا الهجوم وهذه الحدة في الطرح. خذوا هذا المثال وكيف حكم على كل القراء: "بالرغم من كثافة الأسماء المترددة على المقالة لأنها مغيبة ثقافيا وفكريا" وهذه الجملة قد تكون من أقل الجمل والعبارات حدة. قد نجد من خلال هذا الهجوم أو الانتقام طريقاً أو تفسيراً لمعرفة لماذا الطرف الآخر قد يرفض مايطرح حتى وإن كان طرحاً إيجابياً!
نرجسية أم نظرة دونية كاتبنا القدير انخرط في العمل الصحفي مبكراً، وتأثر بشخصيات صحفية وثقافية وفنيّة كانت لها التأثر على شخصيته، ووصل في التحرير الصحفي إلى قمته، ولو قارنا بين مجتمعه الصحفي والثقافي الذي كاد أن يبعده نهائياً عن محيطه الاجتماعي لوجدناها مقارنة متباعدة الأطراف، فهل كان نرجسياً يعيش في واقع مختلف حتى ولو كانت هذه النرجسية مؤقتة ثم انقلبت إلى نظرة دونية لمجتمعه المكاني والسكاني؟ أين ذهبت هذه النرجسية بعد ترك العمل الصحفي؟ هل انقلبت إلى خيبة أمل. هل كان للعقبات والصعاب التي واجهته في عمله دور في إعادة بلورة تفكيره، ونظرته لمجتمعه القريب، لعل أخطر مراحل حياته هي مرحلة الإيقاف عن إدارة تحرير صحيفة المسائية ثم السجن الذي أعقبها بعدما أصبح مديراً لتحريرها، وهذه المرحلة في اعتقادي هي الأخطر والأهم، فقد استيقظ من غفوته وعرف بجد كل من حوله وكأن حاله يقول: جزى الله الشدائد كل خير، ولمن لا يعرف فقد كان السجن بسبب كاريكاتير أجنبي تم إعادة نشره واسيء فهمه، وكان لابد من كبش فداء، فكان رأس الطريبي الضيغمي العبيدي.
مسيرة عصامي قدّر لي أن أطلع على منشور شيّق عن سيرته وبعض محطات حياته، ووجدت بأنني أعرف محطات أخرى، ومنعطفات خطيرة، ومشاكسات كثيرة، وهو يعرفها بطبيعة الحال ولكنه لم يشأ الإفصاح عنها، وقد يكون لا يزال عالقاً بذهنه مقص الرقيب الصحفي، وسُلطة رئيس التحرير المطلقة، نحن الآن في انفتاح عظيم وتقبل لا حدود له، والقارئ يريد ماخفي خلف الكواليس، أما ماظهر فوق المسرح فكل يراه ولا يريد أن يقرأه، التشويق والتمليح أمران ضروريان. مسيرته مسيرة عصامية شاقة يجدر به أن يظهرها في كتاب حتى لو بقيت مخطوطة حتى ينشرها أحفاد أحفاده، ولو لم تكن شاقة وغامضة أحياناً لما كان هذا المقال ولما صب جام غضبه يميناً ويساراً.
التصالح نهاية المطاف لا بد من صلح بدون إقبال وبدون زامل وبدون حذف بشوت، تصالح ثقافي، تراجع فرسان، أقلام زرقاء لا حمراء، تقدير لما قدم من جهد أدبي وثقافي، تقدير لوجهات نظر أخرى لها نهجا المحافظ ونظرتها لتسيير الأمور، لا بد أن تكون محطة التسامح والصفح والتناسي. يقول محمد بن علي بن كدم في أحد مداخلاته الخاصة الموجهة لي: ("... إنّي في المحطة الأخيرة من التجوال" .... "فإني مدبر لا مقبل" ... ). محمد بن علي بن كدم يودعكم فهل يجد من يكرّمه، يحتفل به، يقدم له شيئاً قبل أن يودعنا؟ لا نريد أن نكرمه ونحتفي به في غيابه، لا نريد التكريم في مقبرة النسيم أو مشروفة.