جاءت زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن في 18 نوفمبر 2025، لتُعيد أزمة الصراع في السودان إلى صدارة المشهد الدولي. ويأتي التحرّك السعودي ضمن رؤية سعوديّة شاملة للاستقرار في المنطقة، ولرفع معاناة الشعب السوداني، وبأمل تحويل الأزمة السودانيّة من "فوضى خارجة عن السيطرة" إلى فُرصة لإعادة بناء دولة موحّدة. صحيح أن الحرب الحالية بين قوّات الدعم السريع والجيش السوداني بدأت في السودان صباح 15 أبريل 2023، لكنّ جذورها تمتد إلى أكثر من عقدين. فكلا الطرفين خرجا من داخل نظام عمر البشير نفسه. وهما أيضًا تحالفا معًا لإسقاط البشير في أبريل 2019، ثم سرعان ما اختلفا على كل شيء: من يحكم، ومن يملك الذهب، ومن يُدير العلاقات الخارجيّة. وحين فشلت مفاوضات دمج الدعم السريع في الجيش، تحوّل الخلاف إلى قذائف ومسيّرات ومأساة إنسانيّة كبيرة. فالجيش، بقيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان، يمثّل الدولة المركزيّة التقليديّة. وضبّاطه وجنوده في الغالب من قبائل نهر السودان: شايقيّة، جعلييّن، دناقلة. كما يُقاتل باسم الجيش بقايا من حركات إسلاميّة أعادوا تنظيم أنفسهم في "كتائب المقاومة الشعبيّة. وفي دارفور انضم إلى صفّ الجيش متمردون سابقون من غير العرب الذين عانوا من الجنجويد من قبيلة الزغاوة وفروعها وفصائل مصطفى تامبور، وعبدالواحد نور لفترة قبل أن ينسحب. وفي الشرق يحظى الجيش بدعم بعض قبائل البجا والنجعانا، وفي الوسط تسانده قبائل عربيّة مثل أقسام من المحاميد والمعاليا. أمّا قوات الدعم السريع، بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي"، فتعتمد على شبكة قبليّة عربيّة مترامية: الرزيقات المحاميد (قبيلته)، التعايشة، الحوازمة، المهريّة، وبعض من قبائل المساليت والفلاتة، ثم امتدّت إلى قسم من قبيلة الرشايدة (الأسود الحرة) وفصائل من تيار الميرغني. على المستوى السياسي، حظي حميدتي بدعم عبدالعزيز الحلو (حركة تحرير السودان-شمال)، وجزء من مؤتمر قبيلة البجا، وبعض قيادات حزب الأمة والحزب الاتحادي. وهذا التحالف الواسع مكّنه من احتلال دارفور بعد سقوط الفاشر في أكتوبر 2025، وإعلان حكومة موازية في نيالا تُسمّي نفسها "حكومة السلام والتنمية". والإشكال الأكبر أن القوى المدنيّة التي ساعدت في إسقاط البشير إما مشتّتة أو مقموعة أو مضطّرة للاصطفاف مع طرف ضد الآخر. خارجيًا، صارت الحرب سوقًا مفتوحة للسلاح والنفوذ. فهُناك دول إقليمية تُتّهم أنها تموّل الدعم السريع وتنقل له السلاح عبر قواعد في تشاد وأوغندا وكينيا وليبيا. في حين تقف دول عربيّة وإقليميّة مع الجيش السوداني بأمل تعزيز الاستقرار في السودان والحفاظ على أمن منطقة البحر الأحمر. وهناك مصادر تفيد بحصول الجيش السوداني على مسيّرات من دول خارجية غيّرت موازين المعارك في الخرطوم. وتتردّد تقارير أخرى، تُفيد أن روسيا انقلبت من دعم حميدتي (مرحلة فاغنر) إلى البرهان مقابل الحصول على قاعدة بحريّة في بورتسودان. وفي كل الأحوال فإن الثمن الكبير يدفعه السودانيّون وحدهم. إذ يُوجد اليوم أكثر من 12 مليون نازح داخلي، وأربعة ملايين لاجئ خارجي. وتُفيد تقارير موثوقة أن منظومة التعليم منهارة، والمجاعة مؤكّدة في خمس ولايات، والكوليرا تفتك، في ظل واقع يقول إن 80% من المستشفيات إمّا مدمّرة أو خارج الخدمة. الخلاصة؛ أن ما يجري في السودان ليس صراعًا على السلطة فحسب؛ بل صراع مصالح لقوى داخلية وخارجية وتفكيك لدولة كانت تقوم على التوازنات الهشّة. أما الشعب السوداني الذي يحلم بدولة مدنية فيجد نفسه اليوم بين مطرقة الجوع والمرض، وسندان التصفية العرقية والصراع على ما تبقى من حُطام وطن يتمزّق، يتقاسمه الفرقاء ويزرعون الألغام في حقول بلد كان يُسمى يومًا سلة غذاء العالم. * قال ومضى: قد لا أملكُ الجواب.. ولكنّي شقيتُ بحُسْن ظنّ الأسئلة..