حريتي ونعيم شقاءها فقدتها حين غادرت طريب قبل حلول عام 1400ه بعشرة أيام. أرقام تلك اللحظات بالساعة واليوم والشهر والعام لا تزال حاضرة وصعبة. لحظات تعب جسدي ونفسي، وزادها ألماً تلك المكابرة السائدة بعدم اظهار مشاعر فراق الأهل والمكان، وعدم التعبير ولو بدمعة واحدة تشق غبار الوجه لتخفف من الحنين الذي تجاوز المعقول قبل المغادرة!، البكاء ضعف وأحياناً عيب، ومعانقة الأب وضم الأم لم تكن مألوفة وغير واردة، ولم يبقى غير التخفي عن الأعين لمعانقة جذوع الأشجار وضم نهاية الجدران والوقوف وداعاً أمام باب المنزل الخشبي السميك المصنوع محلياً ذو النهد النحاسي الجميل . في تلك اللحظات الأخيرة قبل وداع الحرية لم أرى أحد استشعر ما بداخلي من أمواج الحزن وضيق الصدر والخوف من القادم إلاّ أمي. ثم أدركت لاحقاً أن الصعوبات والتحديات والعقبات التي لم اتوقعها ابداً ربما كان لها ارتباط بذلك الأسبوع الأخير ما قبل الرحيل وبالحالة النفسية الغريبة التي كان عنوانها الصمت الحزين والجلوس تحت شجر التين الوارف في ملتقى مصب البئرين، كما الوقوف على حافة البئر "عَطِيّه" وخلف الجميلة المتعجرفة ماكينة "البلاكستون" التي لا أزال احترمها وأزورها احياناً رغم تنكرها للماضي وكأنها لا تعرف اصحابها!، ولن انسى التجول مرتين بمنتصف الظهيرة بين واحات الوادي العتيق مروراً بمساجد العيدين عندما كانت الخطبة قصيرة وهادفة ودعاءها يملأ النفوس نوراً وحبوراً وأملاً. أما ليلة الوداع الأخيرة فقد قضيتها ساهراً متعباً باكياً وأنا أشاهد بعض فوانيس طريب من على سطح المنزل السامق الجميل الذي فارق الدنيا لاحقاً. فمن يُعيد لي حريتي ويًعيدني قسراً الى جوار أبي مابقي في الحياة متسع؟..