كانت كارثة ومأساة (بكل ما تحمله الكلمة من معنى) تلك المخاطر الجسيمة والساعات الطويلة التي واجهها وعايشها أهالي مدينة جدة يوم الأربعاء المشهود ، لقد وجدوا أنفسهم فجأة (ودون سابق إنذار) في مواجهة غير متكافئة مع السيول الجارفة ، مع الوعود الكاذبة ، مع (الأمانة) الزائفة ، مع العيون الخائنة التي كانوا يضنون لسنوات بأنها لراحتهم وحمايتهم ساهرة ، نعم ، لم يكن الموت غرقا ، وحده الخطر المحدق الذي هدد حياتهم لحظة وقوع الكارثة ، بل كانت الصدمة ، وخيبة الأمل ، وفقدان الثقة ، الخطر الأعظم الذي نال من آدميتهم ، وزعزع أمنهم واستقرارهم ، وغيب عنهم تماما كل بارقة أمل! لقد كشفت لنا السيول المستور ، كشفت لنا حقيقة التطمينات التي لطالما سمعناها على مدار عام كامل من مسؤولي أمانة جدة ، كشفت لنا ماهية المشاريع الوهمية التي ما فتئوا يتغنون بها ، كشفت لنا الجذور المتأصلة للإهمال والفساد ، كشفت لنا البون الواسع بين المواطن العادي والواصل ، كشفت لنا الفرق الواضح بين الأقوال التي يكررونها على مسامعنا (بداعٍ وبدون داعٍ) وبين الأفعال التي لا مكان لها حتى في أجندتهم وجداول أعمالهم كشفت لنا السيول المستور ، كشفت لنا ما هو أكثر من ذلك بكثير ، ولكننا اعتدنا بأن يقول الواحد منا (في فمي ماء) عندما لا يستطيع البوح ، لهذا أقول في حضرة السيول (في فمي وسيارتي وبيتي ماء)!؟ مع كل ما أوردته ، ولأن (المؤمن لا يلدغ من جحرٍ مرتين) ، أرى أن لا نتعب أنفسنا مرة أخرى بتكرار آرائنا ومطالبنا البريئة التي أبدينها في السنة الماضية ، بعد كارثة السيول الأولى ، تلك المطالبات الداعية إلى ضرورة محاكمة المقصرين وإيقاع أقصى العقوبات النظامية على المتهاونين والفاسدين لأن سمو النائب الثاني وعد بذلك ، لذلك أرى أن نوجه هذه المرة بوصلة مطالبنا الحثيثة ، نحو ما هو ممكن ومقدور عليه ، نحو التأكيد على ضرورة مكافأة أولئك المتطوعين ، أولئك المنقذين ، أولئك الأبطال الحقيقيين ، الذين نذروا أرواحهم ووهبوا أنفسهم خالصة لخدمة العالقين والمتضررين حتى تجاوزوا الأخطار (ووصلوا لبر الأمان) علينا أن نكرمهم ونحفظ لهم الجميل لنضمن على الأقل بقاء الخير وأهله بيننا ، بعد أن فقدنا الأمل في زوال مسببات الكوارث عن محيطنا! هناك أنظمة جنائية تنص إلى جانب العقوبات الرادعة ، بمنح المكافآت والمزايا لمن يسهم في الإرشاد إلى الجريمة ، لكن الواقع المؤلم يقول: وحدها الجريمة التي تتحقق بكامل أركانها في هذه المعادلة الإجرائية فلماذا لا نتدارك الأخطاء ونحاول (على الأقل) تصحيح الأوضاع ، بأن نكرم ونكافئ بالمال والأوسمة والدروع كل من يتطوع ليخفف عنا تبعات الجرائم والكوارث والفواجع التي لا خلاص منها ؟!