الأجيال، يتعلم فيها الأحياء ما ينفعهم فيعملونه وما يضرهم فيجتنبونه، وأنه الجسر الذي يصل ماضي كل أمة بحاضرها، وبقدر العناية به وبتدوينه تستطيع الأمم أن تبني حياتها على أسس متينة وثابتة. كما أن الحياة بدورها الطويلة المتعاقبة ليست إلا تاريخا والساعة التي تعيشها هي حاضرك ولكنها ستكون بعد مرورها جزءا من تاريخك تشهد لك أو عليك، ولكي نعرف فائدة التاريخ علينا أن نعرف أن لقاء الأجيال المتعاقبة مع التاريخ ليس بغرض إرجاعه بل لكي نبني واقعنا الجديد على ما طوى من أحداث.. نلتقي بالأمجاد والمفاخر وجلائل الأعمال فتشد نفسها إلى أجوائها المتألقة لتجعل منها حلقة راسخة في القافلة المنطلقة الهادفة. وتلتقي الأجيال الناشئة بالسيئ من الأحداث والمؤلم من الوقائع فتأخذ نفسها عن سبيلها وتحجبها عن الطرق المؤدية إليها تلك هي فائدة التاريخ، من هذا المنطلق أرجع إلى بداية العام 1400ه وما صاحبه من أحداث، ولقد استرجع الأمير المثقف خالد الفيصل تلك الأحداث في مقابلته على قناة «العربية» فقال بعد أن تمت تصفية جهيمان وجماعته الإرهابية وتم تطهير المسجد الحرام - وقتل المهدي المنتظر في الوقت الذي ظن فيه السذج والمجانين وعلى رأسهم جهيمان بأن المهدي حي لن يموت وسط صدمة إسلامية لما حدث حتى أن الملك خالد (رحمه الله) صرخ ليتهم فعلوا ذلك في قصري وليس في المسجد الحرام - بأننا لم نتفاعل مع الموضوع كما يجب من الوجهة الفكرية قضينا على الأشخاص الذين ارتكبوا الجريمة، ولكننا تغاضينا عن الفكر الذي كان وراء تلك الحادثة وتركناه ينتشر في البلاد. وقد صدقت رؤيته، فتوسع هذا الفكر وتمدد في طول البلاد وعرضها، فاختفت مظاهر الفرح وتجهمت أشكال الحياة وران على عادات المجتمع وتقاليده كل أنواع التحريم والتجريم بصورة قاسية لم يألفها المجتمع من قبل، وتغير الخطاب الديني المتسامح وتشدد الكثيرون في المواضيع الخلافية وضاقت أبواب المذاهب وسدت نوافذها واختفت المرأة من كل الفعاليات وتحولت الحياة الواسعة بألوانها الزاهية المتعددة إلى لون واحد يشبه جهيمان في كل تفاصيله، حتى المنارات التعليمية تغيرت لغة خطابها فتشددت وانطفأت أنوار شواهدها فأظلمت، وأصبحت العادة عبادة والعرف واجبا، وبعد أن كنا نعمل بالحديث النبوي اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا أصبحنا نعمل لآخرتنا وكأننا نموت غدا. سيطرت علينا أفكار متشددة فأصبح تفكيرنا ينصب على الموت والآخرة والقبر وعذابه وفتن آخر الزمان، وكثر مفسرو الرؤى والأحلام والتي كانت تستهوي جهيمان كما قال ناصر الخزامي في كتابه (أيام مع جهيمان) أحضر كل المغيبات التي أمرنا الله أن نؤمن بها دون الدخول في تفاصيلها حتى أنه أمر أتباعه بشراء المذياع لسماع أخبار الملائكة التي ستهبط من السماء لكي تهزم الجيش القادم من الشمال، كان جهيمان شخصا جاهلا لا يملك أي خلفية دينية أو ثقافية ترك الدراسة في المرحلة الابتدائية لتخلفه في القراءة والكتابة، عمل كشريطي في شراء وبيع السيارات المستعملة وإصلاحها، بقي فترة من الزمن مطاردا من قبل الدولة أفكاره عقيمة مثل غيره من الإرهابيين والقتلة في القاعدة وداعش والإخوان مدندنين بأن الحكام استغلوا الدين لتحقيق مكاسب دنيوية وأنهم أبطلوا الجهاد وأظهروا الولاء للكفار والأمريكان وتهاونوا مع الفساد إلى آخر ما يرددونه منذ الخوارج وحتى اليوم. جهل جهيمان بالدين وتشدده الفكري أدى إلى هجومه المشؤوم على الحرم المكي الشريف. باسترجاع التاريخ فلقد واجه المؤسس (رحمه الله) بعض المواقف المتشابهة من قبل المتشددين الذين اعتبروا أن الهاتف والسيارة وأجهزة اللاسلكي وتحديث الدولة أشياء غامضة من فعل الشيطان وعلى المسلمين أن يحترسوا من التأثيرات الأجنبية المضللة والتي حاول المؤسس إدخالها لدولته الوليدة، فلم يأبه بأفكارهم ولا يستمع لآرائهم، بل أنه عالج الأمر بصبر وروية حتى إذا ضاق بهم حاربهم حتى قضى عليهم ليعلن بعدها توحيد المملكة بعدل الله وشرعه، ولو أنه سمع لهم أو تهاون معهم لما كان هذا حالنا اليوم. هذا ما تعلمناه من التاريخ. إننا نعيش مرحلة تحول وطني عظيم هو الأكبر يرسم ملامح خطة إصلاح شاملة لإعادة هيكة الاقتصاد وتحديد الأهداف الوطنية. حزمة إصلاحات منتقاة لتحقيق أهداف ملموسة تصب كلها في صالح الوطن الذي أصبح يشكل علامة فارقة على خارطة العالم يضيء العتمة ويحمل مشاعل الأمل اعتمادا على مسؤوليته التاريخية والدينية والاقتصادية، أن هذا التحول الوطني بكل إبعادة يجب أن يشمل كافة نواحي حياتنا الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية والفكرية والثقافية والفنية، وأن نقضي على كل ما يذكرنا بجاهلية جهيمان وطمس معتقداته فهم لا يمثلون الإسلام الصحيح.