برعاية خادم الحرمين وزير النقل يفتتح مؤتمر مستقبل الطيران 2024 ويشهد إعلان أكبر استثمار بتاريخ الخطوط السعودية    وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي والوفد المرافق له في حادث تحطم الطائرة المروحية    زلزال بقوة 5.2 درجة يضرب منطقة "شينجيانج" شمال غرب الصين    أكثر من ثلاثة الاف جولة رقابية تنفذها أمانة الشرقية على المنشآت الغذائية والتجارية    إيران تعلن رسمياً مصرع الرئيس ووزير الخارجية    تعليم البكيرية يعتمد حركة النقل الداخلي للمعلمين والمعلمات    وصول أبطال آيسف 2024 إلى جدة بعد تحقيق 27 جائزة للوطن    «التعليم» تحدد أنصبة التشكيلات المدرسية في مدارس التعليم العام    الأرصاد: استمرار التوقعات بهطول أمطار بعدد من المناطق ورياح نشطة في الشمال    حبس البول .. 5 آثار أبرزها تكوين حصى الكلى    أمير عسير يُعزّي أسرة «آل مصعفق»    الفضلي: «منظمة المياه» تعالج التحديات وتيسر تمويل المشاريع النوعية    1.8 % معدل انتشار الإعاقة من إجمالي السكان    رئيس وزراء اليونان يستقبل العيسى    خادم الحرمين يستكمل الفحوصات الطبية في العيادات الملكية    «عضو شوري» لمعهد التعليم المهني: بالبحوث والدراسات تتجاوزون التحديات    أوتافيو يتجاوز الجمعان ويسجل الهدف الأسرع في «الديربي»    البنيان: تفوق طلابنا يبرهن الدعم الذي يحظى به التعليم في المملكة    السعودية.. يدٌ واحدةٌ لخدمة ضيوف الرحمن    متحدث «الداخلية»: «مبادرة طريق مكة» توظف الذكاء الاصطناعي    4 نصراويين مهددون بالغياب عن «الكلاسيكو»    جائزة الرعاية القائمة على القيمة ل«فيصل التخصصي»    السعودية من أبرز 10 دول في العالم في علم «الجينوم البشري»    5 بذور للتغلب على حرارة الطقس والسمنة    وزارة الحج والعمرة تنفذ برنامج ترحاب    المملكة تؤكد استعدادها مساعدة الأجهزة الإيرانية    وزير الخارجية يبحث ترتيبات زيارة ولي العهد لباكستان    نائب أمير منطقة مكة يُشرّف حفل تخريج الدفعة التاسعة من طلاب وطالبات جامعة جدة    ولي العهد يبحث مع سوليفان صيغة شبه نهائية لاتفاقيات استراتيجية    الشيخ محمد بن صالح بن سلطان «حياة مليئة بالوفاء والعطاء تدرس للأجيال»    القادسية بطلاً لكأس الاتحاد السعودي للبلياردو والسنوكر    هاتف HUAWEI Pura 70 Ultra.. نقلة نوعية في التصوير الفوتوغرافي بالهواتف الذكية    تنظيم مزاولة مهن تقييم أضرار المركبات بمراكز نظامية    تأجيل تطبيق إصدار بطاقة السائق إلى يوليو المقبل    جائزة الصالح نور على نور    مسابقة رمضان تقدم للفائزين هدايا قسائم شرائية    تأملاّت سياسية في المسألة الفلسطينية    5.9 % إسهام القطاع العقاري في الناتج المحلي    الخارجية: المملكة تتابع بقلق بالغ ما تداولته وسائل الإعلام بشأن طائرة الرئيس الإيراني    أمير القصيم يرعى حفل تكريم الفائزين بمسابقة براعم القرآن الكريم    الانتخابات بين النزاهة والفساد    الملاكم الأوكراني أوسيك يتوج بطلاً للعالم للوزن الثقيل بلا منازع    ثقافة سعودية    كراسي تتناول القهوة    المتحف الوطني السعودي يحتفي باليوم العالمي    من يملك حقوق الملكية الفكرية ؟!    بختام الجولة ال 32 من دوري روشن.. الهلال يرفض الهزيمة.. والأهلي يضمن نخبة آسيا والسوبر    يوم حزين لهبوط شيخ أندية الأحساء    «الخواجة» نطق.. الموسم المقبل ضبابي    عبر كوادر سعودية مؤهلة من 8 جهات حكومية.. «طريق مكة».. خدمات بتقنيات حديثة    بكاء الأطلال على باب الأسرة    165 ألف زائر من بريطانيا للسعودية    الاشتراك بإصدار مايو لمنتج «صح»    تحقيقات مع فيسبوك وإنستغرام بشأن الأطفال    جهود لفك طلاسم لغة الفيلة    ارتباط بين مواقع التواصل و«السجائر الإلكترونية»    الديوان الملكي: خادم الحرمين يستكمل الفحوصات الطبية    أمير منطقة تبوك يرأس اجتماع جمعية الملك عبدالعزيز الخيرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أغانٍ لأعشاش مهجورة
نشر في عكاظ يوم 23 - 11 - 2013

وجد نفسه في جوف حارة الطندباوي يسير متلكئا تداهمه دوخة، فتزيد من غشاوة إبصاره ليلوذ بالجدران هربا من تنبه المارة لاهتزاز حركته وفقدان التركيز في الوصول إلى الأشياء القريبة منه، وإن كان منظره البائس يجلب العيون الغافلة من غفلتها لتقف عليه بفضول يخالطه التوجس.
تحاشى السير في شارع المنصور وتكبب نحو الشوارع الداخلية بهيئته المزرية باحثا عن غيار يستبدل به ثوبه المشبع بالدماء والملتصق بجسده بلزوجة طاغية ولمعان مستفز، وكلما حاول إزالة الدماء عن وجهه عجز، إذ يختلط دم بدم.
وصل إلى برحة توسطت بيوتا تواضع بنيانها وكشفت أسطحها عن استقرار صنادق خشبية وزنكية لتربية الحمام وتسابق ساكنوها لتجفيف ثيابهم ولحفهم على حافة جدران فقدت ألوانها وأزهرت بألوان فاقعة لتلك الملبوسات الأفريقية، كان يتمنى لو أن لباسا يسقط عليه من تلك الأردية فيخفي به معالم جسده الغارقة في ثوب دامٍ، فكره المشتت ظهر على قدميه المتعرجتين في ممشاها، إذ لا تختار جهة تسير فيها طويلا حتى تنثني لجهة أخرى، كان يدفع قدميه لأن تمضي إلى مركز الشرطة وتسجل بلاغا بالواقعة، حتى إذا سلك طريق المركز تراجع مستقبحا لجوء فتوة في مكانته لأن يستنجد بالشرطة للاقتصاص له. وأضمر نية صادقة على ادخار وتخمير ضغينته حتى يظفر بمحمدوه، وتلك المرأة التي تجرأت وعبثت بوجهه بما لا يجعله قابلا لأن يسمى وجها ومع استقرار خاطره بهذه النية حرض قدميه على السير بحثا عن معالم الوجوه والأمكنة، فقاده تخبطه إلى منحنيات الحي وغاص بين مجاميع من البشر عله يهتدى إلى ذلك الفناء الفسيح أو يرى وجها من تلك الوجوه التي حاصرته بعيونها ليلة البارحة وهو يتلقى تشريطات عبثية لامرأة فارقتها الأنوثة.
كان يسير في أزقة ضيقة تسلم بعضها لبعض، فوجد نفسه في سوق الحجامين، وقد تموجت أعداد كبيرة من طالبي الحجامة مستكينين على مقاعد خشبية، يقابل كل منهم حجاما تجاوره طاولة متسعة وضع عليها محاجم من قرون مجوفة لغزلان وماعز لكل منها مخرجان تغرس فوهة طرفها الأسفل في رأس المحجوم، وينتهي طرفها الأعلى بامتصاص الدم الفاسد تجاورها كؤوس زجاجية مفرغة بفم ضيق وبطن متسع لاستقبال الدم المفصود، وأمواس لتشريط ومناشف مهترئة وبكرات قطن فسد لونه فاقترب من الاصفرار أكثر من البياض.
غدا المكان ملعبا للفوضى، حركة سريعة، وتنقلات مرتبكة، ولغات متداخلة، ووجوه متباينة، ونداءات تضيع في الهواء، وحمير سائبة، وصبية لاهون، ونساء اقتعدن للبيع، وغربان محلقة وهابطة، وأتربة عالقة في الجو، لم ينتظم في هذه الفوضى إلا الحجامون، فكل حجام انشغل بزبونه من غير أن تطرف عيناه في اتجاه آخر، وكأنه في مهمة حراسه يخشى من أن يهرب زبونه بدمه الفاسد، هذه هي حالة كل حجام حيث تناثروا منشغلين بزبائنهم الأشبه باللعب الصدئة التي لا يجلى دحلها إلا بالقشط، فيما كان الريح يجاهد في دفع أكوام شعر ملفوف كأسلاك مسمارية معكوفة تشبثت بمواقعها فجاورت أصحابها غير بعيد من جلستهم المتراصة والمسلمة رؤوسها وظهورها لأمواس الحلاقين المنهمكين في أداء مهمتهم وفق إرشادات الحجامين.
بينما انهمك الحلاقون بإزالة الشعر عن مواقع التحجيم ومستكملين مهمتهم بتشريط الرؤوس تشريطا هينا كمن يمرر شفرته على رقبة الذبيحة، فإذا نز الدم فائرا نهض الحجام لإكمال السلخ بتثبيت محجمة قرن الغزال على فروة الرأس ومباعدا ما بين ساقيه بانحناءة مثالية، بحيث يكون رأس الزبون قريبا من تحويط ذراعيه حتى إذا ثبت المحجمة على منبع التشريط زم شفتيه على المخرج العلوي لقرن الغزال ماصا الدم الفاسد من غير تأفف ومحافظا على إفراغه في الكؤوس الزجاجية المنصوبة على الطاولة الخشبية.. ومكررا فعلته حتى يصل إلى النهاية بمسح رأس المحجوم بقطعة قطن مع تحفيزه على النهوض وتناول عصير الطماطم.
كانت المناظر تجري تحت جفنيه المجهدين من كثرة المسح لإزالة تشعب جريان الدماء على وجهه، فتغيب ملامح السائرين في عينيه، فلا يتنبه أن خطواته تنفر الغربان الموزعة لالتقاط العوالق أو تدوس على كثافة الشعر المدحرج على الأرض مصبوغا بدماء متلبدة وقطع أقمشة التنظيف ومخلفات الكؤوس الملوثة وتخاصم لغات المحجمين وانتشار الصبية بين الزبائن طلبا لمبالغ نقدية ضئيلة مقابل تقديمهم بخات من عطر رخيص لتطهير الجراح..
من يراه على هيئته تلك يظن أن حجاما أخطأ طريق تشريط فروة رأسه ومع أي محاولة منهم لمواساته ينفر بجملة باترة:
هذا لا يعنيك؟
لم يكن محبذا تبادل الحديث مع أي كائن وإن بقيت رغبة الحصول على لباس بديل لثوبه هاجسه المسيطر على تفكيره، استوقفه أحد الحجامين:
لو اشتكيت لشيخ الحجامين فسوف ينصفك.
تلقى إبراهيم تلك الجملة بعدم اهتمام ظاهر، وعندما رأه الحجام عازفا عن الكلام ناول أحد صبيته لفة من قطن مصفر آمرا إياه بتطهير جراح ذلك الغريب.
تحمس الصبي لأداء مهمته طالبا من إبراهيم الجلوس على كرسي خشبي ترجرج تحت قوائم فقدت ثباتها، نهره بجفوة، مشاكسة الصبي جعلته يستلهم فكرة لاحت في باله:
سأقوم بتنظيف الجراح بنفسي.. أريد منك تدبير ثوب نظيف.
ماطل الصبي في تنفيذ الطلب، وحينما تلقى من إبراهيم إشارة للملابس المعرضة للتجفيف فوق الأسطح المنخفضة، لمعت أسنانه عن ابتسامة خاطفة وأسلم قدميه الصغيرتين للأزقة الجانبية لسوق الحجامة.
اقتعد إبراهيم انحناءة كبيرة من الشارع استقرت بجوار جدار مائل، مكنت قامته من الانزواء بعض الشيء عن طريق المارة وإن كان موقعه يوصل العيون إليه، انحنى وبلل قطعة القطن التي يحملها في ماء موحل تجمع من زوائد طاسات وبراميل الحجامة مزيلا لبدا التصق بعنقه وصدره، كانت روحه تجيش بغضب لم يهدأ من ليلة البارحة، محاولا تثبيت صورة المرأة التي زادت من تشويه وجهه إلا أنه استشعر بأن فعلتها فاضت بحقد مضاعف على محمدوه وعلى كل من ارتبط عرقه به من قريب أو بعيد ولم يكن ليقشع ما جثم على صدره من غم سوى الاقتصاص ليس بتشويه الوجه، بل بإزالة الرقبة وأوغل في خاطر الثأر متتبعا صورا تولدت من مخيلته لم يوقفها إلا استواء جلسته عندما رأى الحجام يمد إليه بخبز وصحن تناصف بلحم السارية:
صاحب البطن الفارغ لا يجيد التفكير.
لاك لقيمات معدودات قبل أن يتوقف عن مضغه لظهور الصبي أمامه مادا له بقميص فاقع الألوان وابتسامته تنضح بشقاوة لا تغطيها سنوات عمره القصيرة وقد أظهرتها مفاوضاته النهائية للحصول على مبلغ مالي مجز جراء صنيعه مضيفا اقتراح استخدام مكان لتبديل الملابس، مراوغته في طلب الزيادة لم تبطل مفعول اتساع ابتسامته أو القبول بما حصل عليه من مال يراه أقصر من أن يغطي صنيعه ولم تسترخ ابتسامته إلا مع حصوله على مراده، فانطلق راكضا صوب عمه ليكمل مهامه الأخرى.
خرج إبراهيم من مكان تبديل ملابس الحجامين بقميص مسبل تخط أطرافه على الأرض وأكمام زادت عن يديه، فانتابته غصة فتية حسرة على نفسه لأن يلتصق بجسده ثوب كهذا، واستكان بداخله تقزز ونفور من رائحة انبعثت من ذلك اللباس مستجلبة حالة تأفف صدحت متناغمة مع آلام جراح وجهه.
ومع تدفق شعوره بأن هذا اللباس دنس جسده استعجل العودة إلى جدة بأي صورة كانت.
** **
تعاصر الوقت مع دخول عربة الأجرة التي يقلها إلى موقف السيارات بجدة.
دلف إلى الحي مخفيا معالم وجهه تماما معتجرا شالا اشتراه من أحد الباعة وسالكا أزقة ضيقة توصله للبيت من غير المرور بالمراكيز والمقاعد المتخذة مكانا لتبادل الأحاديث والأنس.
حرص أن لا يراه أحد على تلك الحالة المخزية لقوته وفتوته المصكوكة كعملة ذهبية بين فتوات الحي، وكان مبلغ أمانيه في تلك اللحظات تتوهج بأن لا يصادف أحد رفاقه، وسرعان ما انطفأت نفسه برؤية عمر الياردي مقتعدا كبينة الكهرباء المواجهة للروشان المطل على الشارع من الجهة الغربية، تريث في المنحنى الأخير قبل أن يسارع خطاه ليصل إلى الباب، وبينما كان يعالج انغلاق البوابة الخارجية بمفتاح تاه وسط اتساع جيب لباسه الأفريقي سمع الياردي يصيح به:
لا تنم الليلة في البيت..
دفع الباب برجله عجلا ودس جسده للداخل ورغبة ملحة تعاوده للاستفسار عما قصد الياردي بتحذيره.
كانت أميمة معلقة في الروشان ينهشها جزع مفترس من ليلة البارحة، فلا تجد ملاذا يقيها من فزعها إلا التعلق بفرجات الشيش وتوزيع نظراتها على المنحنيات المفضية لباب بيتهم، وقد تقاسمت نظراتها وجه عمر الياردي القابع أمام الروشان مباشرة وبقية الوجوه العابرة من أمام منزلهم، وما إن سمعت ارتطام الباب الخارجي حتى قفزت مسرعة لتلتقي بأخيها بشعر ملتوت وفم مفتوح لم يمسك فجيعته:
فداك عمري، ما الذي أصابك؟.
فزعها وجملتها العميقة استقرت في سويداء قلبه، وبلهفتها تلك ضاعفت انكساره فأشاح بوجهه عنها، وأدرك أنها لم تتوقف عن انتظار مقدمه من ليلة البارحة، أحس بخطئه الفادح عندما لم يحترز ويحافظ على إبقاء شاله لتغطية جراحه:
ما الذي حدث؟
صمته لم يرفع عينيها المصوبتين لوجهه، ولم يخفف من ذعرها أو يقلل من قضمها لشفتيها وإلصاق يديها بخديها:
بالله عليك أخبرني ما الذي حدث لك؟
عاف من انكساره وجزعها، فصرخ بها أن تعود لداخل البيت، انسحبت مولولة، وارتمى على سريره يجر آهة عميقة كتمها سريعا خشية من وصولها إلى مسامع أخته.
مغاليق نفسيته الضائقة لم تجد منفذا للانشراح، وإن كانت مخيلته بين الفينة والأخرى تزاور صور انتقامه من محمدوه فتفسح له ما استغلق من ضيق.
لم يتوقع فرط حنو أميمة عليه، إذ عادت تحمل صينية غمرت بماء خلط بأعشاب لها رائحة نافذة، ومناشف، وعدة قوارير صغيرة ملئت بسوائل مختلفة الألوان، وأصرت على تطهير جراحه برغم نفوره وهياجه المنتهي بشتم مقذع، فلم تكترث لكل ذلك، إذ تعلم علم اليقين أنه كطفل مشاغب يريد إنهاء شغبه من غير عقوبة تطبق عليه، وبعد أن سكب على مسامعها كل الشتائم المعتادة، سحبته من يده، وأقعدته، فاستسلم لحنانها واضطجع سامحا لآهاته العميقة أن تخرج، هالها منظر جراحه، فانحنت تقبل رأسه وتتناشج ببكاء مكتوم، فربت على مرفقها مجاهدا أن لا تفر عبرته أمامها.
اطمأنت على تطهير تلك الجراح، وزودته بوصلتي معمول وكأس شاي وقطعتين من الحلوى التركية وعادت إلى داخل الدار تأكل من لهفتها عليه.
كان الغروب يتسلل من ثقوب الروشان مبشرا بليل كالح السواد، فمصابيح البيت الداخلية أصابها العطب فجأة وجراحه الملتهبة أضرمت حرائقها فمسته بعذاب أليم، فانزوى في فراشه تاركا صمته يثرثر بصور من التخيلات، كان أكثرها إحراجا وخجلا صورة أبيه المتقافزة كسمكة لم تصد فتريح مخيلته من تقافزها:
والله ثم والله ستضيع أمجاد أسرتي على يديك..
** **
عندما نفر يوسف عاشور من قضبان السجن غاضبا على ابنه ومتهما إياه بالفشل والتقاعس:
والله ثم والله ستضيع أمجاد أسرتي على يديك..
لم يكن صادقا، فقد سبق ابنه إبراهيم في تحقق ضياء أمجاد تلك الأسرة، بما أحدثه من تمزيق وفرقة لأفرادها وتبديد لثرواتها وانتهى بتحبير سمعة سيئة للأسرة بالتهمة التي ألقي في السجن بسببها.
ولم يكن أبوه (عاشور باجيو) موقنا من صلاحه لغلظة كريهة وقسوة جافة تلبست تصرفاته وامتزجت بسوء الظن لمن هم حوله، وكثيرا ما جابهه بهذه الأدواء محاولا تصحيح اعتواره، فكان يهرب من اللوم والتقريع بالكذب المتواصل، امتلك صفات مستقبحة جعلت عاشور باجيو يتدبر ادخار وخزن ثروته خفية، وأمعن بتخبئة أمواله وعقاراته واصفا مستقبل ابنه بالمستقبل الأسود ولم تبتعد نبوءته عن الواقع، إذ سعى يوسف بكل همة لأن ينهي أمجاد تلك الأسرة وهو يحسب أنه يحسن صنعا.
وقد استشعر الجد بتفتح نوافذ الأمل على إبقاء توهج سيرة أسرته مع ظهور أول حفيدين له، داعيا الله أن يكونا أكثر صلاحا من أبيهما.
إبراهيم وأميمة آخر ورقتين تبقتا معلقتين في شجرة عائلة ضخمة.
جاءا إلى حياة جدهما متأخرين كثيرا، فلم يدركا أنهما من أصل شجرة تم نقل جذورها من الحدود المتطرفة لإيطاليا بعد تزاوج مضاعف لأصلابهما بعروق إسبانية يعود جريان سلالتها من أشبيلية، وتبرعمت عصارة العرقين في جدهما الثاني (ريفيرا باجيو) الذي عشق زوجته الأشبيلية المسلمة فأدخلته قلبها وأدخلت الإسلام إلى قلبه، فحمل أسرته قاصدا الحج وفي حادثة سياسية طارئة أظهرت نبوغه فاستمالته حكومته ليكون أحد أوائل رجالات القنصلية الإيطالية بجدة، وسرعان ما تخلص من هذا العبء.
وأول اسم عربي دخل إلى هذه الأسرة كان عاشور باجيو، وهو الذي ابتنى هذا القصر وعرف بقصر الباجو في تحوير لاسم العائلة كما تفعل لهجة العامة تيسيرا وتسهيلا، حتى إذ تهدم سريعا وفقد تاريخه ورونقه التصق باسم عاشور وغدا هذا الاسم اسما للعائلة.
لم يدرك إبراهيم أو أميمة ضخامة أسرتهما وإن لازمتهما ذكريات طفولية بعيدة عن امتلاء واكتظاظ حجرات البيت بالعمات وأبناء العمومة والأقرباء المرتبطين بنسب قريب وبعيد من جهة الجدات والخالات ويتذكرا بضابية توافد الضيوف المكثف من غير صد أو تذمر مع توفير أسباب الراحة لهم من قبل خدم تضاعفوا بتضاعف المتواجدين داخل البيت.
في حياة الجد عاشور كان يسمى قصرا حتى إذا تداعت أركانه وتنافر ساكنوه وهجرت ساحاته وغرفه الخلفية تراجع عن موقعه وارتضى سكان الحي بتسميته ببيت عاشور، متناقلين شائعة أن الجد الكبير دفن صفائح الذهب في إحدى جنباته تاركا وصية لأحفاده تخبرهم بطريقة الوصول للكنز المدفون.
وتيقن أهل الحي من وجود ذلك الكنز بتسرب جنيهات الذهب في مواسم الأمطار وتناثرها في مواقع ركود المياه الجارية، وغدت من عادة أهل الحي ومع نزول المطر يتفرق الأهالي حول بيت عاشور منتظرين ركود السيول الهابطة من مرتفعات الصهريج والمارة بالساحات الخلفية للقصر ويعودون بعملات نقدية تؤكد صحة إشاعة الكنز المدفون.
يوسف عاشور قلم أغصان أسرته بعد موت أبيه مباشرة، إذ بدأ بإغلاق الأبواب في وجه الضيوف وتسريح الخدم مشترطا على بقية القاطنين بالقصر القيام بمهامهم إن أردوا البقاء، ولم تكن النساء متسامحات مع أفعاله، إذ امتهن كرامتهن من خلال أوامره المجحفة بخروجهن لأداء مهام لا يقوم بها إلا الرجال متعمدا بيع أغراضهن من ثياب وحلي وأحذية وافقادهن تميزهن بين نساء الحي، وحين احتملن تعنته تمادى في سفهه بترحيل أبناء العمومة والعمات مع أبنائهن إلى موطنهم الأصلي، وقبل تدبر فكرة ترحيلهن كان يبحث عن مخبأ يحجب عيونهن عن ازدراد الثروة التي ستؤول إليه ليس إرثا بل حسدا، فهو يحمل فكرة راسخة أن في اتساع عيون النساء خرابا ماحقا، وأن كثرة الأقارب كمن يربي عقارب بين قميصه وجلده، وقد أجاد أداء وإتقان دور المشفق على مصالحهن بادعاء أن أباه أوصاه بتسفيرهن لكي لا يمتن في أرض تخلو من شجر البلوط والسنديان والصفصاف ولا يجدن زهر الرمان أو ثمر الكرز في أرض سبخة وحرمانهم من الكستناء إلا في أحلامهن، وأقسم أن أباه وفر لهن قصرا يطل على مياه البحر الأبيض المتوسط، وأن إجلاء الخدم كي يسبقوهم في ترتيب وتزيين غرفهم بأفخر الأثاث، أحلام كثيفة نثرها في مخيلة أقاربه، وفي صفقة مباغتة جمعهم جميعا وأركبهم سفينة أخبرهم بأنه بمثابة سفينة نوح التي ستقلهم للإسكندرية، ومن هناك سيتوجهون إلى جنوا أرض الأجداد التي حول إليها جدهم كل ثرواته المجموعة كي ينعموا بها هناك وليس في أرض ميتة.
فرغ البيت وانتظر انهمار الثروة التي لم تظهر بتاتا، وظل يبحث عن وصية أبيه ليعرف أين خبأ صفائح الذهب.
** **
ليل كالح، وضجيج يتنامى من مفارق الحي، فتتهيج له الشوارع المظلمة وتفز من سباتها لاستقبال تلك المجاميع الخارجة في جريان عشوائي باتجاه بيت عاشور.
لم يكن إبراهيم في حالة جيدة كي يطمئن ويهدئ من روع أميمة التي وقفت على باب غرفته مذعورة:
ما الذي يحدث حول بيتنا؟.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.