تدخل جمهورية مصر العربية الشقيقة اليوم مرحلة هامة في حياتها ببدء الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية المتعارف عليها «بالإعادة» لتحديد الأوفر حظا من المرشحين الفائزين بصدارة الانتخابات التي جرت يومي 23 و24 من الشهر الماضي.. وحصل فيها مرشح الإخوان المسلمين الدكتور محمد مرسي على (5 ملايين و764 ألفا و952) صوتا.. فيما حصل فيها الفريق (أحمد شفيق) على (5 ملايين و505 آلاف و364) صوتا وجاء ثانيا بفارق الأصوات وخرج منها عشرة مرشحين آخرين. •• وتعتبر قرارات المحكمة الدستورية الصادرة ظهر يوم أمس الأول الخميس 14/6/2012 م .. والقاضي أولها بعدم دستورية قانون العزل السياسي الذي استبعد أعدادا كبيرة من المشاركة في الانتخابات المبدئية.. وكان في حالة إقراره.. سوف يستبعد المرشح الثاني «أحمد شفيق» من سباق الرئاسة الحاسم.. غير أن حكم المحكمة الدستورية حول هذا القانون أتاح له الدخول بقوة اليوم في منافسة لا نستبعد أن تكون شرسة.. وإن انتهت بمفاجأة كبيرة.. تقود معها «شفيق» إلى كرسي السلطة بعد انتهائها يوم غد الأحد، وفور إعلان النتائج النهائية من قبل لجنة الانتخابات الرئاسية العليا رسميا يوم الثلاثاء المقبل على أبعد تقدير.. •• أما الحدث الثاني المزلزل أيضا.. فقد ترتب على حكم المحكمة الدستورية نفسها بعدم «دستورية» ما ورد بنصوص قانون مجلس الشعب.. من عدم قصر الانتخاب الفردي على المرشحين المستقلين غير المنتمين لأي حزب من الأحزاب السياسية وبما أدى إليه من مزاحمة مرشحي الأحزاب السياسية لهم في المقاعد التي يجب أن تخصص لهم.. مما دفع المحكمة إلى الحكم بعدم دستورية المواد المتعلقة بالتقدم للترشح لعضوية مجلس الشعب بالنظام الفردي للمنتمين للأحزاب السياسية إلى جانب المستقلين غير المنتمين لأحزاب سياسية، وبالتالي فقد اعتبرت المحكمة المجلس في حكم المنحل دستوريا لأن فقدان ثلث أعضائه حق العضوية يؤدي إلى الحكم بعدم شرعية المجلس. •• وبالرغم من الجدل الدائر على مدى اليومين الماضيين حول سلامة هذين الحكمين.. وأحقية المحكمة الدستورية في إسقاط شرعية مجلس الشعب.. إلا أن الحكم يعتبر نافذا وغير قابل للطعن أو الاستئناف أو النقض، والأهم من ذلك هو أن المجلس العسكري الأعلى للقوات المسلحة الذي يدير شؤون البلاد قد باشر المهام التشريعية فور صدور حكم المحكمة الدستورية حتى لا يترك البلاد في حالة فراغ دستوري خطير من شأنه أن يقودها إلى ما هو أخطر وأعظم. •• هذان الحكمان ولا سيما الحكم الأخير منهما دفعا الإخوان المسلمين وليس حزب الحرية والعدالة الذي لم يحدد موقفه كحزب سياسي بوضوح إلى اتخاذ قرار شجاع وقوي بالرغم من انزعاجهم الشديد وصدمتهم بصدور الحكمين. وقرروا قبول تلك الأحكام والمضي في انتخابات الإعادة اليوم وغدا.. لكن خطابهم الإعلامي كان «عنيفا» و«حادا» وفيه الكثير من التهديد والوعيد بإشعال الثورة من جديد في الشارع المصري إذا قدر للمرشح الآخر (الفريق أحمد شفيق) أن يفوز بالرئاسة.. ووصفوا حدوث ذلك بالطبخة السياسية المسمومة.. تماما كما اعتبروا أحكام المحكمة الدستورية أحكاما سياسية، وليست قانونية أو دستورية. •• وفي المقابل فإن المرشح الثاني أحمد شفيق قد اختار لغة أخرى في التعامل مع تلك الأحكام.. واستخدم لغة خطاب «عملي» حيث قدم الكثير من التعهدات للمصريين.. تلامس جميع مشاكلهم وهمومهم الاقتصادية.. والاجتماعية. والتعليمية.. والثقافية والإعلامية .. وركز فيه على شخصية وكرامة مصر والمصريين، ومكانة مصر في المنطقة والعالم ووعد برفع مستوى المعيشة في البلاد، وحل مشاكل البطالة.. وتوفير مظلة تأمين شاملة.. وإقامة المدارس والمصانع، وإعادة هيكلة وبناء الاقتصاد، وتنمية الأرياف والاهتمام بالزراعة والمزارعين.. كما دغدغ بخطابه «التعهدي» المستقبلي مشاعر كل الفئات والمذاهب والأديان.. كما وعد بتحقيق العدالة بين كافة المصريين.. مسلمين.. وأقباطا.. والاهتمام بالجميع في داخل مصر وخارجها.. مستثمرا في ذلك مخاوف الأقباط من الإخوان، كما تناول أيضا قضايا الإقليم مثل العلاقة مع إسرائيل، وإعادة النظر فيها في ضوء مصالح بلاده.. وكذلك التعامل مع إيران على أسس موضوعية تقوم على ضمان عدم تشيع مصر أو التدخل في شؤونها.. في الوقت الذي أبدى حرصا شديدا على تطوير علاقات بلاده مع الولاياتالمتحدةالأمريكية. •• ومن الواضح أن الخطابين سيكونان مختلفين في تأثيرهما على الناخبين اختلافا جذريا وكبيرا.. •• ففي الوقت الذي تحدث فيه «شفيق» كرئيس وقدم الوعود ودغدغ الأماني (إلى درجة المبالغة) فإن (مرسي) ركز على تشيع الصورة لمستقبل مصر في ظل من أسماهم بعودة فلول النظام القديم إلى السلطة ممثلا في الفريق شفيق. •• هذان الخطابان.. وإن تبعهما نوع من الاصطفاف وراء المرشحين.. حيث أعلنت بعض الأحزاب والقوى السياسية الخاسرة ومنها حزب أيمن نور «الغد» وحركة «6 أكتوبر».. إلا أن لغة الشارع المصري كما قدمها الإعلام المرئي والإلكتروني يوم أمس أعطت انطباعا بأن فرص أحمد شفيق قد تكون أكبر في الوصول إلى كرسي الرئاسة.. فقد نجح خلال الأسابيع القليلة الماضية في اختيار خطاب متوازن طمأن به المصريين إلى أنه سيكون «عراب الاستقرار المنشود» وأن فترة حكمه «4 سنوات» ستكون بداية مرحلة بناء جديدة لمصر.. وأن المنطلق إلى كل هذا هو بناء قاعدة أمنية قوية.. واقتصادية متماسكة لإدراكه بأن المصريين قلقون على مستقبل بلادهم وغير سعداء بما يرونه في الشارع. •• وبين خطابي المرشحين بدا الفارق كبيرا.. بين لغة «واعدة» بقيام حكم مدني متكامل تطلق فيه الحريات.. وتنتعش البلاد.. ويمارس الناس فيه حقوقهم وعباداتهم.. ولا يخافون من الاعتقال أو العزل أو التجاهل.. وبين لغة أخرى بدت أقرب إلى «التوتر» و«الانفعال» و«الضبابية» في إعطاء وعود لم يتأكد منها الشعب المصري حول قيام حكم مدني في ظل مرشح الإخوان الدكتور محمد مرسي.. •• ومن الواضح أن من يقودون حملة «شفيق» بدوا أقرب إلى «الحنكة السياسية» ومعرفة ما يدور في أذهان المصريين.. وما يخافون منه.. وما يتطلعون إليه .. وركزوا تركيزا بالغا على خطط وبرامج التنمية الغائبة .. فيما لم يتمكن الإخوان المسلمون من توحيد لغة خطابهم.. وبدا أن هناك أكثر من صوت وأكثر من قوة.. وأكثر من تيار.. وأكثر من توجه داخل صفوفهم.. وأن فرص الجميع على «الربط بين برامجهم الرئاسية المستقبلية وبين استمرار ثورة 25 يناير 2011م، وتحقيق المزيد من المنجزات على صعيدها.. وهي لغة وإن استقطبت فئة الشباب والثوريين في الميادين المصرية.. إلا أنه لا يبدو أنها تلقى قبولا كبيرا لدى معظم الصامتين من الشعب.. وهم الذين قد يختارون طريقا من طريقين.. فإما التصويت للفريق أحمد شفيق لأنهم يأملون في إصلاح الأوضاع، وإبعاد مصر عن الفوضى.. وإما أن يمسكوا عن التصويت لأي من المرشحين وتصبح الغلبة في النهاية لمن يستطيع الحصول على أكبر عدد ممكن من الأصوات بأي صورة من الصور.. وبالتأكيد فإنه ليس من بينها احتمالات التزوير المكشوف.. •• فإذا أضيف إلى كل هذا أن المنظمين لحملة شفيق قد استغلوا بعض أخطاء خصومهم وفي مقدمتها تغيير مواقفهم.. وسياساتهم المعلنة.. وضبابية موقفهم من التنوع الثقافي في مصر.. وتحديداً تجاه «الأقباط» ولغة التهديد بكل ما قد تؤدي إليه من استمرار تعطيل الحياة العامة، وتدمير الاقتصاد المصري.. إلا أن الإخوان قد يحصلون على أصوات تفوق فارق المائتي ألف صوت التي تفوقوا بها على شفيق في الجولة الأولى من الانتخابات، وربما يفوزون بفارق كبير في الأوصوات.. وهم بالرغم من أنهم قد نجحوا في الماضي ولبعض الوقت في «وصم» شفيق بأنه كان وراء «واقعة الجمل» بحكم رئاسته لوزراء مصر في تلك الفترة.. بالرغم من ذلك إلا أن شفيق عالج ذلك ووجه نفس التهمة إلى الإخوان وربما يحصد نتيجتها الثلاثاء إيجابا. •• هذا السجال السياسي والإعلامي.. وهو سجال يتراوح بين «ثورية مؤدلجة» وبين فكر ليبرالي واقعي متحمس.. يبدو أنه سيحسم في النهاية بصورة دراماتيكية في الأيام القليلة القادمة لصالح «الفريق شفيق»..وإن كنت أعتقد أن تعهداته المفتوحة.. قد تضعه أمام فترة حكم صعبة يستحيل معها تحقيق كل تلك الوعود مهما أوتي من قوة.. ومن حنكة.. ومن دهاء.. ومهما وجد من دعم سياسي.. ومالي.. واجتماعي من الداخل والخارج.. وإن كان المتوقع منه أن يحقق شيئا ملموسا لمصر.. وليس كل ما وعد به ولا سيما في الفترة الأولى من حكمه في حالة اختياره.. •• لكنني أعتقد أن «الإخوان المسلمون» لن يمكنوه من إدارة شؤون البلاد بالهدوء الذي يعد به.. لأ نهم كما يبدو أكثر استعدادا لتحريك الشارع في هذا الاتجاه.. في حالة خسارتهم للفوز بالرئاسة .. وإذا كان ما يحسب للإخوان في هذا الصدد فهو أنهم بدوا واضحين كل الوضوح في هذه المسألة عندما استبدلوا التركيز في برنامجهم الإصلاحي لحكم مصر.. بلغة التهديد باستمرار الثورة وإشعالها في كل مدينة وقرية وهذا في حالة حدوثه .. فإنه وضع قد يقود مصر إلى خطر داهم.. وقد يدفع المجلس العسكري الأعلى إلى اتحاذ تدابير حازمة من بينها إعادة تطبيق قانون الطوارئ لدواع أمنية وسياسية وإنسانية تقتضيها مصلحة البلاد.. ويوجبها حجم الأخطار المحدقة بالبلاد في ظل وقوع تطورات من هذا النوع.. •• ذلك احتمال قوي.. •• إلا أن الاحتمال الآخر يظل هو.. فوز الإخوان بمنصب الرئاسة.. بصرف النظر عن الفارق في الأصوات سواء كان كبيرا أو صغيرا.. وعندها فإن الشارع المصري.. ولا سيما الصامت منه سوف يقرر أمرا من أمرين.. فإما القبول بما أفرزه صندوق الانتخابات.. وانتظار ما سيفعله الإخوان المسلمون بعد ذلك.. ولا سيما بالنسبة لإعداد الدستور وقيام المؤسسات التشريعية في ظل إدارتهم للبلاد.. وكيفية تعاملهم مع المؤسسة العسكرية بصورة أكثر تحديدا.. وإما القيام بثورة مضادة.. أو بهجرة واسعة إلى خارج مصر تتعطل معها الكثير من أوجه الحياة.. •• لكن الأخطر من كل هذا.. أن تؤدي نتائج الفرز لهذه الانتخابات إلى الفوضى الشديدة.. وعندها.. لا يصبح هناك سوى قيام نظام عسكري لا مناص منه.. تتحدد ملامحه المستقبلية في ضوء التطورات والمستجدات.. وإن لم تكن البلاد مستعدة لاستمراره طويلا كما فعلت ثورة 23 يوليو 1952م.. وذلك خيار ليس مستبعدا ولكنه بكل المقاييس لن يكون مقبولا في حسابات أكثر المصريين تفاؤلا.. وإن كان غير مستبعد في حساب القوى الإقليمية والدولية أيضا.. وإن كان احتمالا ضعيفا من بين عدة احتمالات أخرى غير مطمئنة.