لا شك أن علوم الحاسبات حققت في العقود الثلاثة الأخيرة تقدما مذهلا بعد أن اقتحمت كافة مجالات حياتنا، وأثرت فيها بشكل منهجي وإيجابي لم يكن يتوقعه أو يتخيله أحد، بدءا من ألان تورينج، كلود شانون، نوربيرت وينير، جون فون نيومن، وألن تيورنج وغيرهم من عباقرة علوم الرياضيات، ممن شيدوا القواعد الأساسية لنظريات الحوسبة الرقمية وطوروا الأدوات اللازمة لتطبيقها. استطاع إنسان اليوم بكل تأكيد أن يطوع كل ما جادت به علوم العصر من تراكمات علمية وتكنولوجية لخدمة أهدافه وتعزيز طاقاته البشرية والإنتاجية، ونجح في ذلك دون شك وإلى حد بعيد، لكن معدل التسارع في الزمن الذي يتضاعف ويتزايد بشكل يصعب على العقل البشري اللحاق به حدا بالإنسان إلى أن يفكر وبشكل جاد في حوسبة عقله، بعد أن نجح في حوسبة الماكينة والآلة، ما مكنه من السيطرة عليها بشكل مطلق ووظفها لخدمة أغراض البشرية ورفاهيتها. في عام 1955، طرحت مجموعة من الباحثين مقترحا لأول مشروع بحثي على مستوى العالم في الذكاء، جاء فيه أنه إذا تم تسخير جهود عشرة من العلماء سنويا، فإنه يمكن إحداث تقدم في مجال الذكاء الاصطناعي في شهرين، وإلى يومنا ما زال المشروع البحثي قائما بكامل طاقته، أملا في حوسبة العقل البشري، الذي يعتبر أعقد جزء في جسمه. فقبل ثلاثين عاما مضت، قدر العلماء عدد الخلايا العصبية في المخ بحوالي عشرة بلايين خلية، أما الآن فقد توصل العلماء لعدد أكثر دقة وهو 100بليون خلية عصبية. إن حوسبة العقل البشري هى الحلم الذي طال انتظاره، وسيطول أيضا لعقود أخرى مقبلة، هذا الحلم المعتمد على علم الذكاء الاصطناعي لا يمكن التوصل إليه إلا بفهم صحيح لتركيبة العقل البشري. وأعتقد جازما أن العلماء حققوا تقدما في هذا الاتجاه يمثل قيمة مضافة في درب التقدم العلمي، الذي بدأ خطواته الأولى منذ أن اخترع تشارلز باباقي جهازه الحسابي في نهايات القرن التاسع عشر، الذي اعتبره الناس بداية لابتكار أجهزة توازي قدرة العقل البشري في المنطق والحساب. إن الكمبيوتر يمكنه القيام بأي عمل حسابي مجرد بشكل يتسق مع العقل البشري.. وهذا إجراء رياضي بحت، أو القيام أيضا بعمل هندسي مجرد. إن المفهوم الشائع اليوم هو أن عقودا من التقدم المذهل السريع في مجالي تزويد السرعة والتخزين وتطوير الشبكات، وهي عمل عقلي مجرد أيضا إلى جانب تطور البرامج الذكية، هي التي جعلت الكمبيوتر علما وعملا وثقافة، بطرق لم يكن يتخيلها حتى أكثر المتفائلين منذ أعوام مضت، تلك التغيرات الكثيرة بسبب الهندسة الذكية فتحت أبواب التطور والتغيير للوصول إلى آفاق أبعد مما تتصورها أجيالنا الحالية. إن تقنيات صناعة الكمبيوتر لديها القدرة على أن تغير ما تراه عن طريق المحاكاة حتى الآن؛ لكن هل باستطاعتها أن تنوب عن أجيال المستقبل في القدرة على التفكير واتخاذ القرارات؟ أعتقد جازما أن العلماء يكثفون أبحاثهم للإجابة على هذا السؤال، أم أن العقل البشري سوف يخذلهم ويحتفظ بأسراره التي خصه بها الخالق سبحانه وتعالى وفضله عن سائر المخلوقات، خصوصا أنه رغم ما حققه العلم من تقدم لم يستطع الكمبيوتر أن يحاكي حتى الحشرات أو الحيوانات بشكل يتطابق مع سلوكياتها التي تتسم بالعقلانية. أعتقد جازما أن تأثير الكمبيوتر سيتوغل بشكل أعمق في كافة الفروع العلمية والحياتية، ما ييسر حياة الإنسان ويساعده بشكل أكبر في أداء أعماله وتواصله الاجتماعي، لكن من الصعب أن أتصور أن يتجاوز ذلك إلى التفكير بالنيابة عنه. * نائب رئيس أول لقطاع الشركات في شركة الخليج للتدريب والتعليم.