التاريخ ... يعيد قس بن ساعدة الأيادي

التاريخ نبع حي لاينضب ، وموئل عطاء متدفق ، يثري الحاضر المؤهل لنيل السؤدد بالمجد الغابر الأثير ، من خلال المعايشة لقيمه ، والتفاعل الواعي مع توهُّج حضوره ، ليسهم من جديد في إيقاظ حركة التجديد لِما كان ، ويقدم للرواد مايحدو مسيرتهم دون صفحات الفصول التاريخية لرجال عظماء أفذاذ ، وهبهم الله عزَّ وجلَّ القدرة على الإنجاز الإيجابي ، حيث تقدموا الصفوف بنظرتهم الثاقبة بمراحل لم تأتِ بعدُ من عمر الإنسانية ، ووهبوا مَن جاء بعدهم مفاتيح الحيوية والطموح لينهلوا من معين ثَرٍّ لايعتريه النضوب .
ولعل قُس بن ساعدة الأيادي هو واحد من أولئك القلائل الذين لايستطيع التاريخ أن ينساهم أو يتناساهم ويتغافل عن ذكر مناقبهم التي مازالت تجوب المراجع الوثيقة منذ مئات السنين ، قال الشعر ولم يدوِّنْه التاريخ مع الشعراء ، واتصف بمزايا حميدة جليلة بقيت مع ذكره تفوح بالطيب في مجتمعات الناس ،وإن الذي أجمع عليه المؤرخون هو أن قُسًّا من أفصح العرب لسانا ، وأبلغهم بيانا ، فكان الخطيب الذي يجمع الحكمة ويبثها في قالب بلاغي أخَّاذ ، يتميز بجلب الانتباه و بالتأثير . ذكره النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه ، وهو القائل : ( إنَّ من البيان لسحرا ) ، ويذكر التاريخ أن قسا التقى قيصر الروم الذي أجله وعرف مكانته ، وكان يتوكأ على عصاه حين يخطب ، ويقول : أما بعد لينتبه السامع إلى مايأتي من كلام ... وهو اول من قال ( البيِّنةُ على مَن ادَّعى ، واليمين على مَن أنكر ) وأقر قوله هذا الإسلام بل أصبح قاعدة شرعية ، وفي سائر مفردات خطبه استنهاض لسلوك الناس في عمل الخيرات والمبرات ، والتفكر في حقيقة هذه المخلوقات . وقد نال مكانته المرموقة التي ربما فاقت مكانة الشاعر الذي كان يعد فارس القول في الدفاع عن القبيلة .
وأنقل بعض ماجاء عن قس بن ساعدة من بعض المراجع ( كان يدين بالتوحيد و يؤمن بالبعث ، و يرشد إلى عبادة الخالق ، ويرفض عبادة الأصنام والأوثان التي كان عليها حال العرب آنذاك، وكان يتأمل في مخلوقات الله ويعلم أن هنالك ثمة خالق واحد لجميع هذه المخلوقات، ويؤكد ذلك ما ينسب إليه من قول : كلا بل هو إله واحد، ليس بمولود ولا والد، أعاد وأبدى، وإليه المآب غدا وقوله: كلا بل هو الله الواحد المعبود، ليس بوالد ولا مولود) .
وفي نفس المرجع ( وقس بن ساعدة هلك قبل نزول الوحي بالرسالة الخاتمة على النبي الخاتم صلوات الله وسلامه عليه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم عاصره، وقد جاء في الأثر عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: لما قدم وفد إياد على النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا معشر وفد إياد ما فعل قس بن ساعدة الأيادي ؟ قالوا : هلك يا رسول الله ، قال صلى الله عليه وسلم : ( لقد شهدته يوما بسوق عكاظ على جمل أحمر
يتكلم بكلام معجب مونق لا أجدني أحفظه ) ، فقام إليه أعرابي منهم فقال : أنا أحفظه يا رسول الله فقال خطبة قس المشهورة ، والتي يقول فيها على اختلاف في الرواية : يا أيها الناس اسمعوا وعوا ، وإذا وعيتم فانتفعوا . إنه من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت ، ليل داج ونهار ساج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج وسماء ذات أبراج ، نجوم تزهر، وبحار تزخر، وجبال مرساة وأرض مدحاة ، وأنهار مجراة ومطر ونبات وأرزاق وأقوات وآباء وأمهات وأحياء وأموات جمع وأشتات وآيات وذاهب وآت، ضوء وظلام، وبر وآثام، ولباس ومركب، ومطعم ومشرب ونجوم تمور، وبحور لا تغور، وسقف مرفوع، ومهاد موضوع، ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون أرضوا بالمقام فأقاموا ؟ أم تركوا هناك فناموا.؟ ألا ان أبلغ العظات السير في الفلوات والنظر إلى محل الأموات ) .
ولعل هذه ومثيلاتها تؤكد مكان ومكانة هذا الرجل العظيم ، الذي يُعتبر صوتا مجلجلا عبر الأيام ، يبعث الهمم ، وينشر الحكم ، وها قد لاقى صدى صوته أثرا في الرحاب التي عاش فيها ، فهبَّ أبناؤها يحيون مآثره ، وينشرون أنفاسه من جديد في ربوع نجران ، ليتنسمها شبابها الطموح ، لتبعث في صدورهم أسباب تحرِّي مكامن التاريخ ، حيث تتجلى أحلى نوازع النفس التَّوَّاقة لصعود القِمم ، لتأتي بأعمال مجيدة ، وتسطر لهم أعذب السِّير الحميدة ، في صفحات الفضائل والمآثر التي طالما يتغنَّى الناس بها في كل زمان ومكان ، لأن رقي الطباع واستقامة السلوك ، وإيجاد البيئة النظيفة للتواصل والتعاون ، خدمة للمجتمع ، ورغبة في توجيه المواهب والطاقات والقدرات إلى مافيه خير الحركة الثقافية التي باتت تبسق أفنانها ، وتزهر أغصانها ، وتتدانى ثمراتها في هذه المنطقة التي عاش فيها قس بن ساعدة .
و يطيب لمَن بيده أن يقدم لمجتمعه النافع من جليل الأعمال والإنجازات والمآثر التي تعيد للمجتمع الثقة بأبنائه المثقفين والموهوبين ، ويبعث الطمأنينة في نفوسهم ...
هذا الوعي وهذه الإنجازات ، وهذه العودة الجميلة إلى خيمة قس بن ساعدة في ظلال بشائر خير يفوح أريجُها المعطار في أجواء الآمال الوريفة التي يرعاها سمو أمير المنطقة ، ويدعمها ماديا ومعنويا تحقيقا للغايات النبيلة ، والأهداف السامية التي يتطلع إليها أبناء المنطقة كما في سائر المناطق الأخرى ، فتقوى الأواصر ، ويشتد ساعد الجدِّ على تحقيق أسباب النجاح .
طوبى للنادي الأدبي في نجران هذا الزخم المتلألئ بالقيم الأدبية وفنونها ، والامتدادات الثقافية ، وإنها التفاتةٌ مباركةٌ لمسيرةِ العملِ الأدبي في هذه الملتقيات التي تتجددُ فيها روح التعاون والتآخي بين أهل المواهب والقدرات . من خلال سِمة رائدة لتجديد قيم الأصالة العربية الإسلامية في النفوس ، وبعث مشاعر التفوق بأعمال جليلةٍ وفضائلَ مستحسَنةٍ ، تشهد بالإيثار والترفع عن حب الذات ، والإقبال على حُسن التواصل لكيلا تنطفئ قناديل الهمم المتقدة .
وهنيئا لوسائل الإعلام على تنوع أساليبها ومواقعها وهي تنقل هذا الحدث الأغر،وتؤازر من خلال نشره وبثِّه اندفاع رواده شطر مزيَّةِ السعي نحو الأعلى . وهنيئا لصحيفة نجران نيوز الألكترونية حق الرعاية الألكترونية لمهرجان قس بن ساعدة بإشراف رئيس تحريرها الأخ الكريم الأستاذ مانع بن صالح آل قريشة ... هذا المهرجان الذي تبنَّاه النادي الأدبي بنجران ، تحت رعاية كريمة حانية من صاحب السمو الملكي الأمير مشعل بن عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود أمير منطقة نجران ، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق الجميع لِما فيه الخير والسؤدد .
بقلم الاديب والشاعر / شريف قاسم