القيادة تعزي ملك البحرين في وفاة الشيخ عبدالله بن سلمان بن خالد آل خليفة    مدير ناسا يزور السعودية لبحث التعاون الفضائي    اليابان تستعد لاستقبال ولي العهد    المنتخب السعودي للعلوم والهندسة يصل إلى الولايات المتحدة للمشاركة في آيسف 2024    البديوي يرحب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً يدعم طلب عضوية دولة فلسطين    رابطة العالم الإسلامي ترحب بتبنّي الأمم المتحدة قراراً يدعم طلب عضوية دولة فلسطين    القيادة تعزي ملك البحرين في وفاة معالي الشيخ عبدالله بن سلمان بن خالد آل خليفة    الهلال ينهي تحضيراته للحزم    شرطة مكة تقبض على مصريين لنشرهما إعلانات حملات حج وهمية ومضللة    شرطة الرياض: القبض على (5) أشخاص لمشاجرة جماعية بينهم    العطاوي: سنكمل نجاحات غرفة الرياض التجارية ونواكب المرحلة وتطلعات القيادة    جمعية الرواد الشبابية تنظم دورة "فن التصوير" في جازان    إيغالو يقود الوحدة بالفوز على الخليج في دوري روشن    ترقب لعودة جيمس مدافع تشيلسي للعب بعد خمسة أشهر من الغياب    إنترميلان يكرر إنجاز يوفنتوس التاريخي    موعد مباراة الإتحاد القادمة بعد الخسارة أمام الاتفاق    سورية: مقتل «داعشي» حاول تفجير نفسه في السويداء    وزير الشؤون الإسلامية يدشن المنصة الدعوية الرقمية في جازان    «سلمان للإغاثة» ينتزع 719 لغماً عبر مشروع "مسام" في اليمن خلال أسبوع    رومارينهو: الخسارة بهذه النتيجة شيء ⁠محزن .. و⁠⁠سعيد بالفترة التي قضيتها في الاتحاد    رئيس جمهورية المالديف يزور المسجد النبوي    "كنوز السعودية" بوزارة الإعلام تفوز بجائزتي النخلة الذهبية في مهرجان أفلام السعودية    وزير الشؤون الإسلامية يفتتح إدارة المساجد والدعوة والإرشاد بمحافظة فيفا    النفط يرتفع والذهب يزداد بريقاً    30 ألفاً ينزحون من رفح يومياً.. والأمم المتحدة تحذر من «كارثة هائلة»    "العقار": 19 ألف عملية رقابة إلكترونية ب4 أشهُر    إتاحة باب الانتساب لنزلاء السجون الراغبين في إكمال دراستهم بالشرقية    جامعة الملك سعود توعي باضطرابات التخاطب والبلع    خطبتا الجمعة من المسجد الحرام و النبوي    خيرية آل عبدان في ذمة الله    استمرار هطول أمطار رعدية متوسطة على معظم مناطق المملكة    رسالة رونالدو بعد فوز النصر على الأخدود    بيئات قتالية مختلفة بختام "الموج الأحمر 7"    مقرن بن عبدالعزيز يرعى حفل تخريج الدفعة السادسة لطلاب جامعة الأمير مقرن    الشاعرة الكواري: الذات الأنثوية المتمردة تحتاج إلى دعم وأنا وريثة الصحراء    حين يتحوّل الدواء إلى داء !    أدوية التنحيف أشد خطراً.. وقد تقود للانتحار !    مصير مجهول للمرحلة التالية من حرب روسيا وأوكرانيا    ب 10 طعنات.. مصري ينهي حياة خطيبته ويحاول الانتحار    جمال الورد    مفوض الإفتاء في جازان يشيد بجهود جمعية غيث الصحية    جامعة الأمير مقرن بن عبدالعزيز تحتفل بتخريج الدفعة السادسة    رَحِيلُ البَدْرِ    «البعوض» الفتاك    رئيس جامعة جازان المكلف ⁧يستقبل مدير عام الإفتاء بالمنطقة    تعزيز الاستدامة وتحولات الطاقة في المملكة    أمانة الطائف تسجل لملّاك المباني بالطرق المستهدفة لإصدار شهادة "امتثال"    أمير منطقة جازان يلتقي عدداً من ملاك الإبل من مختلف مناطق المملكة ويطّلع على الجهود المبذولة للتعريف بالإبل    أسماء القصيّر.. رحلة من التميز في العلاج النفسي    كيف نتصرف بإيجابية وقت الأزمة؟    تجنب قضايا المقاولات    بلدية صبيا تنفذ مبادرة لرصد التشوهات البصرية    شركة ملاهي توقّع اتفاقية تعاون مع روشن العقارية ضمن المعرض السعودي للترفيه والتسلية    رسالة من أستاذي الشريف فؤاد عنقاوي    دلعيه عشان يدلعك !    تدشين مشروعات تنموية بالمجمعة    المملكة تدين الاعتداء السافر من قبل مستوطنين إسرائيليين على مقر وكالة (الأونروا) في القدس المحتلة    القيادة تعزي رئيس البرازيل إثر الفيضانات وما نتج عنها من وفيات وإصابات ومفقودين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ريادة التأسيس الثقافي تُحدِّد المسار والاتجاه

إن ذلك التأسيس الثقافي الجيَّاش والمفتوح قد جعل الثقافة اليونانية ثقافةً منفتحة ونامية وقابلة للتطور السريع فبعد حقبة البطولة التي مثلتها إبداعات هوميروس ظَهَرَ طاليس مؤسِّسًا للفكر الفلسفي الذي مثَّل قطيعة مع الانتظام البليد فالفلسفة كانت طفرة نوعية في الفكر البشري وكانت نقداً لما كان سائداً وإنتاجاً حُرًّا للمعرفة بقدر ماتسمح به الوسائل التي كانت متاحة
الثقافات كيانات متباينة تكوَّنت خلال ظروف مختلفة فصاغت قابليات المنتمين إليها صياغات متنافرة وبذلك صار لكل أمة طريقة تفكير مغايرة لما هو سائدٌ في الثقافات الأخرى، وتَجري تلقائيًّا قولَبة كل جيل بالقوالب الثقافية للجيل الذي قبله في تسلسل ثقافي تلقائي حتمي حاسم، وتعود كلها إلى التشكُّل الأول لأي منها فكل ثقافة محكومة بنقطة البداية وبالأحداث الكبرى المزلزلة التي مرَّتْ بها فزادت اندفاعها وشَحَنَتْها بالطاقة الإبداعية أو غيَّرت اتجاهها أو بدَّدَتْ طاقة الخلق التي كانت فيها أو حوَّلت مسارها ولكن تبقى نقطة البداية هي الأهم فالعقل يحتله الأسبق إليه سواء أكان عقلاً جماعيًّا يتواصل انتظامُ توارثه عَبْر الأجيال أم كان عقلاً فرديًّا يتبرمج تلقائيًّا عن طريق التشرُّب التلقائي للثقافة السائدة..
لقد عَبَّر عن ذلك المبدع واسيني الأعرج بنص جامع مدهش حين كتب يقول : (أصعب الأشياء في الحياة هي البدايات.. عليها تترتب كل الحماقات).
ونضيف: وتترتب عليها أيضا كل الإبداعات وما تشهده الدنيا من تطورات فالنهايات تتحدد بالبدايات إن الإنسان بما ينضاف إلى قابلياته ويتبرمج به ويعتاد عليه فينساب منه تلقائيًّا من إيجابيات أو سلبيات ومن مزايا أو نقائص فالتأسيس الثقافي هو الذي يحدد اتجاه الثقافة..
ومع أن المبدع الأعرج بنصِّه القصير الجامع يقصد حياةَ الأفراد لكن قوله ينطبق أيضا على كل جماعة وكل فئة وكل مذهب وكل مجتمع بل على الطوفان البشري بأجمعه فالعقل يحتله الأسبق إليه والقابليات الفارغة تتبرمج بما يصل إليها أوَّلاً، وما من أحد يستطيع الإفلات من سطوة وتَحَكُّم البدايات إلا في حالات استثنائية نادرة جدا حين تنكسر تلقائية الانتظام وهي لاتنكسر إلا بتأثير قوي مزلزل لأن البداية تُحَدِّد الاتجاه بينما الاتجاه يحدد المسار والمحتوى وما يجري قبوله تلقائيًّا وما يجري رفْضه تلقائيًّا..
ومن هنا جاءت ضآلة تأثير العلوم الحديثة على العقل البشري الذي مازال مشحوناً بالخرافات والأوهام والبداهات المضلِّلة التي تراكمت خلال القرون رغم كل ما تحقق من كشوف علمية عظيمة كاشفة وداحضة..
إن كل ثقافة تشبه النهر في شق مجراه وفي انتظام تدفُّقه وفي مساره واتجاهه وغزارته أو اضمحلاله.. إن اتجاهه ومساره ومحتواه محكومٌ بنقطة انطلاقه وبالروافد التي تصب فيه فنهر النيل يبدأ في التكوُّن وينحدر من ذُرى الجبال في أعماق أفريقيا ويمر بالعديد من الدول يتغذى مما فيها من روافد ويُغَذي أرضها وتنمو الحياة على ضفافه وبذلك يتحدَّد نمط الحياة بشواغله واهتماماته وأدواته ومنتهى طموحاته وكذلك الثقافات إنها تتأسس بحدثٍ ثقافي كبير فيتحدَّد المسار والاتجاه بذلك التأسيس الأوَّلي وتتكوَّن القيم والاهتمامات ثم تتدفق الروافد إلى المجرى فيزداد اتساعه ويغزر محتواه ويتكاثر الناس المنتمون إليه..
إن البدايات الإبداعية الحرة المنفتحة للثقافة اليونانية هي التي أدَّت إلى بزوغ النزعة الفردية وإلى ظهور الفكر الفلسفي، وإلى التطور الاستثنائي في النظام السياسي ثم إلى ذلك الإشراق اليوناني الاستثنائي العجيب في كل المجالات وهو إشراقٌ تم حجبه في العصور الوسطى في أوروبا ولكن الأوروبيين استعادوه وازدهروا بتأثيره.
إن الأوروبيين بمختلف لغاتهم ينتمون إلى الثقافة اليونانية وهم يَعتبرون أن النهر الثقافي الأوروبي كانت بدايةُ انطلاقه مع (الإلياذة) و(الأوديسة) لذلك العبقري المدهش هوميروس، ويتجلى اهتمام الأوروبيين بهذا المؤسِّس على أكثر من صعيد وعلى سبيل المثال فإنه في عام 1987 عَقَد المركزُ الأوروبي للدراسات الإنسانية بجامعة وريك مؤتمراً عن (العبقرية) وخَصُّوا هوميروس بأكثر من بحث كما تكرر ذكره في بحوث أخرى وقد تم جَمْعُ بحوث المؤتمر في كتاب يحمل عنوان (العبقرية : تاريخ الفكرة)، وقد ترجمه محمد عبدالواحد محمد، وليس هذا الجهد الأكاديمي الجماعي سوى مظهر واحد من مظاهر الاهتمام به والإعجاب بإبداعه والاعتراف بعبقريته وتأكيد ريادته الثقافية والإحساس القوي بانتمائهم الثقافي لتلك البداية الزاخرة الوهَّاجة..
لذلك كان الفيلسوف الألماني الأشهر جوته يربط الأوروبيين بذلك الحدث الثقافي الكبير فيقول :
(الذي لايعرف كيف يتعلَّم من دروس ثلاثة آلاف سنة الأخيرة يبقى في الظلام) إنه يجعل البداية الأووربية مع هوميروس في ملحمتيه (الإلياذة) و(الأوديسة) كما يؤكد في سيرته الذاتية بأن اكتشافه لإبداع هوميروس قد كان حاسماً بالنسبة لاهتمامه بالفن فيقول : ( لكن حسِّي الجمالي قُدِّر له أن يكون مُحَصَّنًا بأروع القوى ضد كل الأشباح المعادية للفن فقد أشرقتْ شمسُ هوميروس) ويصفه البرفيسور جلن موست بأنه: (صاحب عبقرية أصيلة)، أما الشاعر الإيطالي بترارك فينادي هوميروس: (أوَّه أيها الرجل العظيم كم أنا شغوفٌ أن أسمعك تتكلم) أما دانتي فيصفه بأنه (الشاعر المهيمن).
لقد كان هوميروس ملهمًا للمبدعين في العهد الإغريقي العظيم ثم منذ بزوغ النهضة الأوروبية ومازال يلهمهم ويكفي أن نطلع على بعض الأعمال الإبداعية الأوروبية التي تأتي تقليداً له وامتداداً لإبداعه لندرك كم كان تأثيره هائلاً..
إن صاحب رائعة (زوربا) المبدع المعاصر الشهير نيكوس كازنتزاكي يقول في سيرته الذاتية والفكرية : (لو أني حاولت أن أحدِّد الناس الذين تركوا آثاراً عميقة في نفسي لحدَّدْتُ هوميروس وبوذا ونيتشه وبيرجسون وزوربا فالأول هوميروس بالنسبة لي مثل العين الأخَّاذة مثل قرص الشمس الذي ينير الكون ببهائه الشافي). وبسبب شدة تأثُّره به فإنه قد كتب ملحمة ضخمة بعنوان (الأوديسة) على منوال أوديسة هوميروس وقد وصفها كولن ولسون في كتابه (المعقول واللامقعول في الأدب الحديث) بأنها ملحمة رائعة وبأنها تقع في سبع مئة صفحة..
إن الأوروبيين قد اعتبروا الهومرية عنواناً للانطلاقة الأوروبية الزاخرة بكل ما انتهت إليه من نُظم سياسية متطورة وقوانين اجتماعية منفتحة وإبداعات متنوعة فارقة، واختراعات جديدة خارقة وكشوف مختلفة عظيمة، ومغامرات ريادية باهرة واختراقات عميقة مذهلة غير مسبوقة في كل الحالات فتنوعت حول الهومرية الدراسات والتخريجات والتأويلات واستمر الأوروبيون ومازالوا يواصلون الحديث عنها والكتابة على منوالها، وتأكيد الارتباط بها والرجوع إليها والاستفادة منها وتحديد معالم التحول الحاسم من خلالها في الحياة الإغريقية التي هي مصدر التميز الأوروبي..
لقد مثَّلَتْ (الإلياذة ) و(الأوديسة) طفرة ثقافية عجيبة وهما أول إبداع إغريقي مدوَّن ولكن لأنهما عملٌ إبداعي باهر في ذلك الزمن الموغل في القدم فإن البعض كانوا يشككون في أنهما من عمل فرد واحد ونسي هؤلاء المشككون أن الإبداع لايكون إلا فرديًّا فلو اجتمع الملايين من سكان موسكو لما استطاعوا مجتمعين أن يبدعوا رواية (الحرب والسلام) ولكن فرداً واحداً هو تولستوي أبدعها كواحدة من إبداعاته الكثيرة..
إن المهتمين يعرفون بأن أفلاطون ضد الشعر والشعراء وبأنه قد كتب على مدخل الأكاديمية (لايُسمح بدخول الشعراء) لأنه يرى أنهم يعتمدون على الخيال وحْده، وأنهم لايهتمون بالحقيقة وأنهم بذلك يسهمون في إغراق الأذهان في الفكر الخيالي الأسطوري ولكنه رغم ذلك يقول عن هوميروس :
(أعترف بأنني ملزَم بنوع من الاحترام الودي لهوميروس شعرتُ به منذ نعومة أظفاري فقد كان الأستاذ الأصيل والمرشد لجميع أولئك الشعراء المجيدين ولكن من الخطأ أن نكرم رجلاً على حساب الحقيقة).
وهنا يظهر التطور النوعي الهائل الذي حصل للثقافة اليونانية فقد تأسست في البدء في العصر البطولي على الإبداع الشعري المتحرر من قيود التحقق وغير المحكوم بمتطلبات الحقيقة فجنحت الثقافة اليونانية في البدء إلى الإغراق في الخيال وتمجيد الأبطال وتقديس البطل وأمعنت في الأساطير ولكنها في الوقت نفسه مهَّدَتْ لبزوغ النزعة الفردية وفتحَت الآفاق للتفكير المستقل،وهذا قد أفضى إلى إشراق الفكر الفلسفي الذي صار همُّه السعي نحو الحقيقة والتحرر من الخرافات والإمعان في التمحيص والنقد والتحقُّق فلو لم يثب اليونانيون من مستوى الإبداع الشعري إلى مستوى القطيعة الفلسفية مع السائد المنتظم تلقائيًّا لما صاروا بذلك التميُّز الاستثنائي الباهر فامتيازهم العظيم في كل ماتميزوا به مصدره الحقيقي هو إشعاع الفكر الفلسفي الذي أسَّس للتوقف والنقد والقطيعة وتأجيل الحكم وبذلك دَفَعَ إلى الانطلاقة العلمية والسياسية والاجتماعية التي تختلف عن كل ما كان سائداً في الأرض آنذاك..
إن إبداع هوميروس ومَن خَلَفوه من أمثال بندار وهيسيود كان له تأثير عظيم في توجيه مسيرة الثقافة اليونانية ويؤكد سكوت جيمس في كتابه (صناعة الأدب): بأن وظيفة الشعر (في نظر اليونانيين) هي أن يُعَلِّم وأن يُحَسِّن حال الإنسان وأن يُنتج أناساً أكثر وطنية.
وتنقل الباحثة الأمريكية أديت هاملتون في كتابها (الأسلوب اليوناني) عن الدكتور ميدلتون قوله:
(بندار يُذهل ولكن هوميروس يُقَدِّم الكأس الأكثر دعماً .. الأول ينبوعٌ من الصعود الهائل، والآخر بحرٌ أرجواني هادئ من الأمواج المتوالية ).
لم يكن هوميروس شاعرَ قبيلةٍ بل كان شاعرَ كلّ القبائل اليونانية فكان شعره تأسيسًا لأُمَّة لذلك فقد كان إبداعه مفخرة لكل اليونانيين على اختلاف قبائلهم وبذلك أسهم في خلق انتماء ثقافي واحد فكان المؤسِّس الأول للروح الإغريقية الفريدة..
ويستعرض البروفيسور جلن موست في بحث له بعنوان (البعث الثاني للهومرية) تأثير هوميروس فيقول : (أتيح لهوميروس امتلاك إبداع أعظم من إبداع أي كاتب آخر على الإطلاق) ثم يؤكد: ( خيالُه الإبداعي يبقى مع ذلك منقطع النظير وليس عَجَبًا أن يتم الاعتراف على الدوام بأنه أعظم الشعراء فهو أعظم مَنْ تفوَّق فيما هو أساسٌ للشعر ألا وهو الإبداع بدرجاته المختلفة الذي يميز عمل العباقرة العظام.. إن أوسع مدى للدراسة الإنسانية والتعلُّم والاجتهاد الذي يسيطر على سائر الأمور لايستطيع أيٌّ منها أن يبلغ هذا الإبداع، إن عمل هوميروس فردوسٌ بَرِّي).
إن الإلياذة والأوديسة كانتا ومازالتا مرجعية ثرية يعود إليهما المؤرخون والأدباء والنقاد والمبدعون والفلاسفة والدارسون من مختلف المجالات فيجدون فيهما معالم الطريق نحو ما انتهت إليه أوروبا من ازدهار استثنائي باهر وعلى سبيل المثال فإن جوستاف جلوتز وهو مؤرخ فرنسي وعالم اجتماع كان في كتابه (المدينة الإغريقية) يعتمد كثيرًا على الإلياذة والأوديسة في تتبع مسيرة التحول التدريجي نحو الديمقراطية، ويكرر الاقتباس من هاتين الملحمتين.
وقد صدر الكتاب ضمن عملٍ جماعي مكوَّن من منظومة من الكتب العلمية المهمة عما أسموه (المعجزة الإغريقية)، وقد جاء في التقديم الذي كتبه للكتاب المشرف على المشروع العلمي عن الظاهرة الإغريقية العالم هنري بير بأن: (قصائد هوميروس تصوِّر هيئة اجتماعية في سبيل التطور فعند هوميروس نتبيَّن عناصر الديمقراطية التي ستؤكِّد صوتَ الشعب ..) إنه يجد في هاتين الملحمتين مؤشرات الاتجاه نحو الفرادة الديمقراطية اليونانية كظاهرة سياسية فريدة غير مسبوقة في ذلك العصر ثم بوصفها النموذج الذي احتذاه الغرب في ديمقراطيته الحديثة..
ثم يؤكد هنري بير بأن احترام الإنسان الفرد في الثقافة اليونانية كان ظاهرة فريدة وهي من أهم عوامل بزوغ الفكر الفلسفي الخلاق كما أنها من أهم عناصر التحول الديمقراطي الباهر فيقول: (لقد ازدهرت الديمقراطية بفضل تحرير الفرد الذي يَهَب المدينة من القوة بقدر ماتهبه من الحرية..)، وفي مكان آخر يقول: (في بلاد اليونان كان للفرد تأثير قوي واضح على النظم السياسية وعلى التشريع) ومن تلك التجربة الفريدة للنظام الديمقراطي الرائع استمد العالم المعاصر تطوره السياسي الحديث وكما يقول هنري بير: (إن صَبْغَ العالم بالصبغة الإغريقية قد أدى إلى نشر نُظُم المدينة..).
إن ابتكار النظام الديمقراطي بمؤسساته المتوازنة الفاعلة هو أعظم الإنجازات الإنسانية...
ويتنوع اهتمام الدارسين فنجد في كتاب (تاريخ العالم) فصلاً طويلاً كتبه الدكتور جاردنر عن
(اليونان في عصر البطولة) وفيه يقول: (عصر البطولة في اليونان مباينٌ أظهر المباينة للعصور السابقة عليه واللاحقة له) ثم يؤكد : (أن معرفتنا لعصر البطولة مستقاة في معظمها من الملحمتين العظيمتين الإلياذة والأوديسة وهما من أنفس المقتنيات الأدبية عند العالم المتحضِّر من عهد اليونان إلى يومنا هذا وعلى هذا فإن هاتين الملحمتين تجعلان في ميسورنا أن نتمثَّل حياة هذا الشعب وخُلُقه بما أبدعتا في وصفه على هذه الصورة الوافية الحية التي لايدانيها وصفٌ في الأدب القديم).
ويقول في موضع آخر: (الإغريق كانوا يدرسون الإلياذة والأوديسة ويتمثلون بهما على أنهما المثال المقرر للكمال المنشود عند الشعب الإغريقي وأصبحت الإلياذة والأوديسة من ذلك الحين معدودتين في الخافقين صورة للروح اليونانية) أي أن إبداع هوميروس كان الإطار الثقافي الذي حَشَدَ الانتماء الإغريقي ثم إنهم داخل هذا الإطار الجامع طوَّروا فكرهم ومنظومة قيمهم وأسلوب حياتهم وانتهوا إلى تلك الوثبة الحضارية المعجزة التي كانت السبب وراء طفرة الغربيين في العصور الحديثة ما جعلهم يعتبرون تلك البداية مصدر إلهامهم..
وكما يوضح طه حسين بأن وَلَعَ الغربيين بتلك البداية قد جعلهم يوفرون بمختلف لغاتهم ترجمات متعددة لإبداع هوميروس تتناسب مع مستويات الناس وأعمارهم فيقول: ( فلن تجد في أوروبا وأمريكا طبقة من طبقات الناس الذين يقرأون إلا والسبل ميسرة لها لتقرأ الإلياذة والأوديسة في غير مشقة ولا عناء تقرؤها في الترجمة الدقيقة وتقرؤها في الترجمة المقاربة وتقرؤها إن شاءت في ملخَّصات سهلة قريبة المنال).
وهذا يعني أن إبداع هوميروس كان وما زال في المجتمعات الغربية محلَّ عناية وإقبال الناس من كل المستويات المعرفية..
ويتوقف الفيلسوف الأكبر هيجل عند إبداعات هوميروس فيقول : (كل بطل عند هوميروس يمثل اشتمالاً حيًّا وكاملاً على خصائص الشخصية الأدبية وملامحها فالجوانب المتعددة للروح الإنسانية النبيلة تكشف عن كنوزها في هذا الإنسان الفرد (أخيل) والشيء نفسه يمكن أن يقال عن أوديسيوس واياكس وأغاممنون وهكتور وأندروماخي فكل واحد من هؤلاء هو عالَم مستقلٌّ متكاملٌ وكلُّ واحد منهم إنسانٌ حيٌّ متكامل)..
أما الشاعر الإنكليزي الكسندر بوب فإنه وهو يحاول تأكيد الامتياز المطْلق لشكسبير لايجد أنسب من أن يُفَصِّله على هوميروس وهو في هذا يؤكد القيمة الأدبية الكبرى للإلياذة والأوديسة حتى وإن كان جاء ذلك من أجل تأكيد عبقرية شكسبير فيقول: (إذا كان هناك كاتبٌ يستحق أن يوصف بالأصالة فهو شكسبير، إن هوميروس نفسه لم يكن يستمد فنه من ينابيع الطبيعة بهذه التلقائية فقد كان يمر خلال المصافي والقنوات المصرية، ولم يكن يأتيه خاليا من بعض أصباغ الثقافة أو بعض أشكال النماذج السابقة عليه أما شعر شكسبير فإلهامٌ على وجه اليقين).
وأختم المقال بما كتبه بورا في كتابه الرائع (التجربة اليونانية): (إن هوميروس كان يروي أحداث الحرب الطويلة بين اليونانيين والطرواديين فقد ساوى بين الفريقين في كل فضائل الرجولة، ولم يشر أبداً إلى أن الطرواديين أقل شأنا لكونهم من الأجانب الغرباء) ثم يقول: (إن البدايات الأولى لتاريخ الإغريق تبدأ مع قصائد هوميروس في الجزء الأخير من القرن الثامن قبل الميلاد وهنا نستطيع من خلال عيون العبقرية أن نرى كيف عاش الرجال والنساء وكيف ماتوا وهنا أيضا نرى على وجه التقريب بداية كل ما هو هيليني خالص) ثم يقول: (لقد ارتكزت الحضارة اليونانية في أوج عظمتها على توازن دقيق بين التراث القديم، ومستحدثات الأفكار).
هكذا كانت الثقافة اليونانية متوازنة بين الانتظام والاقتحام. بين الالتزام والإبداع. بين تمجيد التراث والإضافات المستمرة إليه فلم ينشأ عندها وهْم الكمال والاكتفاء وإنما كانت تستمطر كل السحب وتستنطق كل الأشياء من أجل المزيد من النماء والتطور والازدهار..
إن ذلك التأسيس الثقافي الجيَّاش والمفتوح قد جعل الثقافة اليونانية ثقافةً منفتحة ونامية وقابلة للتطور السريع فبعد حقبة البطولة التي مثلتها إبداعات هوميروس ظَهَرَ طاليس مؤسِّسًا للفكر الفلسفي الذي مثَّل قطيعة مع الانتظام البليد فالفلسفة كانت طفرة نوعية في الفكر البشري وكانت نقداً لما كان سائداً وإنتاجاً حُرًّا للمعرفة بقدر ماتسمح به الوسائل التي كانت متاحة كما ظَهَرَ صولون كرجل قانون ومُنجز إصلاح وانفتحتْ أمام الإغريقيين كلُّ الآفاق فظهر السفسطائيون الذين زلزلوا السائد كما ظهر سقراط الذي وطَّد التفكير الفلسفي الحقيقي وابتكر منهج التوليد ومنهج التحقق وتتلمذ عليه أفلاطون ثم أرسطو وقاد بركليس أول نموذج ديمقراطي في الحياة البشرية فكان بذلك يعطي النموذج الأفضل للعمل السياسي النبيل..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.