قبل ثورة السوشيال ميديا (Social Media) كان من أكبر هموم الصحافة العالمية والعربية في الأربعين أو الخمسين عاما الماضية (همُّ) التوزيع وتحقيق أكبر عدد من المبيعات للنسخ المطبوعة فهو المقياس الحقيقي لنجاحها، وبعد ما يقارب القرن وربع القرن تقريبا من سعة الانتشار كانت صحيفة الديلي تلغراف (The Daily Telegraph) على وشك الإغلاق، هذه الصحيفة اليومية تصدر في لندن، وصدر العدد الأول لها في 29 يونيو 1855، وحظيت بانتشار واسع في المجتمع البريطاني والأوروبي وأصبح لها شأن في وسط الإعلام العالمي. إلا أنها واجهت مشاكل كبيرة في إدارتها قبل ثلاثة عقود -أي في منتصف الثمانينات الميلادية تقريبا- فهوى طرحها، وقل بيع نسخها، حتى تم تعيين المراسل الشهير ماكس هستنجز (Max Hastings) رئيسا لتحريرها، فعادت الديلي تلغراف إلى تألقها وتفوقت على منافستها صحيفة التايمز (The Times) بأكثر من مائة ألف نسخة كل يوم. نشأ السيد ماكس هستنجز بين أب من كبار الصحافيين وأم من كبار الناشرين، سمع في منزله منذ كان يافعا حكايات الحسد والغرور والفشل وعشرات الذين ينتهون ثرثارين، لا ماض ولا حاضر ولا مستقبل. شاهد عشرات النجوم يسقطون في آبار النسيان، لأنهم لمعوا دون أساس، أو جد، أو استحقاق، أو دراية. عاصر ماكس هستنجز شارع ال(فليت ستريت) -شارع الصحافة- اللندني، وكان مركزا هاما لانطلاق المشوار المهني لأي صحفي، إذ تقع فيه مكاتب العديد من الصحف المحلية والهامة. هذا الشارع نُشرت فيه أول جريدة يومية بريطانية، واسمها (دايلي كورانت)، في 11 مارس عام 1702. كان هذا الشارع يستقبل القادمين بالعشرات ويرجعهم بالمئات، أدعياء لم يحققوا شيئا. (في عام 1988، نُقلت كل الصحف من شارع فليت إلى منطقة دوكلاندز، واعتمدت على طرق الطباعة الحديثة بالكمبيوتر، بدلا من الألواح المعدنية الساخنة، وأصوات الآلات الكاتبة وبات شارع الصحافة من التراث). كتب ماكس هستنجر مذكرات (رئيس تحرير) - (Editor) لتبدو مثل مجموعة دروس لأهل مهنة الصحافة بشكل عام، وبشكل خاص لمن تولوا فيها مسؤوليات عليا ك(رئيس تحرير) صحيفة أو مجلة. أول هذه الدروس (رئيس التحرير متواضع)، وتعود بي الذكريات إلى ما يقارب العشرين عاما، عندما كنت أعمل محررا صحفيا، وتمت مصادرة جهاز التسجيل الخاص بي والكاميرا التي أحملها، وأنا أقوم بعملي لتغطية مناسبة وطنية، وكان موقف مدير المكتب آنذاك غير منصف لي، فأسرعت بالاتصال على مكتب رئيس التحرير وأبلغته بصوت ناحب ما حدث، وما هي إلا ساعات قليلة حتى حضر مسؤول من هذه الجهة معتذرا عما حدث، وأعاد لي ما صودر مني، فعاودت الاتصال على رئيس التحرير (المتواضع) ودموع النصر تزاحم كلماتي. أعود إلى ماكس هستنجز، يقول: (رئيس التحرير الناجح هو من يستقطب لا من يستبعد، من يسمع، لا من يتحدث عن نفسه دون انقطاع، من يفرح بأعداد اللامعين في صحيفته، لا من يغار منهم ويكرههم). على صعيد آخر، عندما سئل (أرثر سيلزبرجر جي آر)، نجل مؤسس نيويورك تايمز الأمريكية (The New York Times) عندما كان رئيس تحريرها عن سبب نجاحه قال: (لم أعامل نفسي يوما كصاحب عمل، ولا عاملت أحدا كرئيس تحرير، وما زلت إلى اليوم أتجول مثل بقية المراسلين، عندما لا تعود تقرأ مقابلاتي مع سياسيي العالم، ابحث عني في صفحة الوفيات). الصحافيون الكبار من أصحاب المدارس المتميزة ستبقى ذكراهم حاضرة على مر السنين لِما قدموا من مهنية عالية وحب نابض، فصنعوا تفردا وإبداعا يستحق الإشادة.