وردتني بعض الاستفسارات الكريمة التي تتعلق بما ذكرته في آخر مقالي الماضي عن الاكتتاب لشراء أسهم المؤسسين للشركات، وهذا يستدعي بسط الكلام في مسألة الاكتتاب وحمايته في هذا المقال بحسب ما يتيسر به المقام سواءً الاكتتاب التأسيسي أو البيعي. ابتداءً، مرحلةُ الاكتتاب في رأس المال تعتبر من المراحل الأساسية في تأسيس الشركة والتي تقتضي حماية واسعة لها من أي تلاعب أو تحايل، وذلك أن الاكتتاب هو الأداة المهمة لتجميع رأس مال هذه الشركة عن طريق مخاطبة جمهور المستثمرين الذين يُقدِمون عليه ثقةً في المشروع وفي مؤسسيه. وكذلك قد ينشأ الاكتتاب في مرحلة ما بعد التأسيس لإكمال رأس المال المصرح به أو عند الاحتياج لزيادة رأس المال أو بيع جزء من رأس المال وفق القيمة السوقية العادلة (وأُطلِقُ على الأخير تسمية خاصة من عندي وهي الاكتتاب البيعي)، وذلك طبعا بعد أخذ موافقة الجهات الرسمية على ذلك. ونظرا للأهمية العملية للاكتتاب، فإن التشريعات المعاصرة أولته حمايةً جنائيةً خاصة من خلال تجريم بعض الأفعال التي تتعلق بالاكتتاب العام، كإثبات بيانات كاذبة أو مخالفة النظام في نشرات الاكتتاب. ومستند الاكتتاب بالأسهم يطلق عليه (نشرة الاكتتاب) أو (نشرة إصدار الأسهم) وكلا اللفظين مترادفان، ونشرات الاكتتاب هذه هي التي تقع عليها الأفعال المجرّمة، ولذا تولى المنظم السعودي حمايتها بنصوص تجرّم المساس بها أو التلاعب فيها وبيّن الشروط والضوابط الواجب توافرها فيها، ومن أهمها توخي الصدق والأمانة في كل البيانات الواردة فيها، الأمر الذى يؤدي بدوره إلى درء المخاطر التي قد تهز ثقة المكتتبين في مثل هذه الشركات مع ترسيخ مبدأ الاعتماد على الصدق والأمانة في المجال التجاري واستقرار التعاملات فيه. أما إذا احتوت النشرة على بيانات كاذبة أو مخالفة للحقيقة أو النظام، فإن ذلك يترتب عليه مسؤولية مؤسسي الشركة (أو ملّاكها في حال الاكتتاب البيعي) جنائيًا عن تلك التجاوزات، وعليه يتم معاقبتهم عما اقترفوه طبقا للعقوبات التي نص عليها المنظم السعودي في المادة (212) من نظام الشركات السعودي وهي السجن لمدة قد تصل إلى سنة والغرامة التي قد تصل لمليون ريال أو بإحدى هاتين العقوبتين، هذا بالإضافة طبعا إلى رد المبالغ التي تم الحصول عليها بالبيانات الكاذبة والمخادعة في حال الاكتتاب البيعي. وحيث ان المثال يوضح المقال فإني سأذكر مثالًا للبيانات الكاذبة في نشرات الاكتتاب التي تؤثر في جذب الناس واستغلال ثقتهم في صحتها، وذلك فيما اسميه بالاكتتاب البيعي (بيع المؤسسين والملاّك لجزء من أسهمهم بسعرٍ أعلى من القيمة الإسمية لها) حيث نجد مؤسسي الشركة وملاّكها يمارسون هذا التأثير على المكتتبين من خلال أمرين رئيسين هما: تضخيم الأصول وتقليل الخصوم، ولا بد من تواطؤ المستشار المالي مع الملاّك وأعضاء مجلس الإدارة بشكل عام في هذا التحايل. ومن أكبر ما يقع به الكذب والتحايل في تضخيم الأصول هو تضمين مشاريع سابقة وهمية بأرباح عالية بالاتفاق مع أطراف عقودها، وهذه الأرباح تُدرج من خلال قروض وودائع من أصحاب المصالح تكون في الظاهر من ضمن رأس المال لكنها في الحقيقة رأس مال غير فاعل، وهذا لا يتم توضيحه في نشرة الاكتتاب. وكذلك تُدرج مشاريع مستقبلية بأرقام ماليّة عالية جداً لكنها في حقيقتها وعودٌ بمشاريع. والأمثلة على ذلك عديدة لا يتسع المجال لسردها. أما تواطؤ المستشار المالي فإنه يكون من خلال طلب هذه المعطيات الصورية ودراسات الجدوى من مؤسسي وملاك الشركة، والتي يتقرر من خلالها القيمة المستحقة للسهم المطروح للاكتتاب العام. ولذلك تتم عمليات اكتتابٍ لشركاتٍ عديدة بأسعار عالية جداً، تم تقييمها وفق بيانات كاذبة أُدرجت في قوائمها المالية للثلاث السنوات الأخيرة التي يتطلبها النظام السعودي قبل طرح الاكتتاب لجزء من أسهم الشركة القائمة مع معطيات أخرى تتعلق بالعقود والمشاريع المستقبلية والشهرة والحاجة السوقية لمنتجات الشركة ونحو ذلك. ثم بعد سنة أو أكثر تتكشف الحقائق عن تلك البيانات والمعطيات، وتعود أسعارها إلى السعر الحقيقي لها الذي يكون السعر المكتتب به أضعافه مراتٍ عدة، بل وبعضها بعد الاكتتاب بسنتين أو ثلاث تتبيّن خسارتها لجزء كبير من رأس مالها، ومثاله مؤسسة فردية تحولت إلى شركة ذات مسؤولية محدودة في عام 2007م، ثم بسرعة صاروخية تحولت في نفس العام إلى شركة مساهمة وبرأس مال بلغ مليار ريال ثم في عام 2008م تم طرح أسهم الشركة للاكتتاب العام للمواطنين بسبعة أضعاف قيمتها الاسمية (أي أنه تم تحويلها من مؤسسة فردية يملكها شخص واحد إلى شركة مساهمة مطروحة في سوق المال بعلاوة إصدار عالية جداً في فترة وجيزة وهي أقل من عامين) ونتيجة لذلك حصل المؤسسون الملّاك على مبلغ خيالي مقابل علاوة الإصدار في جزء من رأس المال وصل إلى 1,8 مليار ريال، ثم لم ينته الأمر عند ذلك فبعد مرور فترة قصيرة من طرحها أسهمها للاكتتاب تم اكتشاف خسائر متراكمة في الشركة وصلت إلى أكثر من 75 بالمائة من رأس المال، وإجمالي التزامات الشركة يزيد على إجمالي الأصول بقيمة 300 مليون ريال، وبالتالي وصلت الشركة إلى حافة الهاوية وأصبحت شبه مفلسة وعلى وشك التصفية.