من المنطقي مصادفة أحد الموتورين الطائفيين في مواقع التواصل الاجتماعي كما يحدث في الواقع. فالتربة الاجتماعية باتت محروثة ومغروسة عمودياً وأفقياً ببذوره. إلا أن المفجع والمربك أن يكون ذلك الطائفي أحد أولئك الذين يوصفون بالنخبة المثقفة، وكأن الطائفية لم تعد الجدار الأخير للدهماء والغوغاء الذين يجدون فيها صمام أمان لأوهامهم وذخيرة قوة في مواجهة خصومهم المفترضين، بل صارت وسيلة من وسائل النخبة لتعويم أنفسهم، وإراحة عقولهم من أي تفسير للأحداث، أو مقاربة للواقع خارج شروط الطائفية. حتى التاريخ بالنسبة لهم لا يفسر ولا يُقارب إلا من هذا المنظور. بمعنى أن طابوراً من المثقفين قد تخلوا عن عقولهم وضمائرهم ليقيموا داخل غرائزهم. الإقامة داخل الغرائز ليست بالضرورة أن تتبدى على شكل هيجانات ونعرات صارخة، بل قد تتخذ تلك الأعراض صور العقلانية، أو الوطنية، أو الأخلاقية، أو حتى الدفاع عن الدين والذود عن اللحمة المجتمعية. حيث يستظهر النخبوي كل ذخيرته الكلامية باتجاه واحد. أي تضئيل الطوائف الأخرى والتشكيك في مواقفها أو الحط من قدرها الفكري، وذلك المنطق الاقصائي الاستحواذي إنما يُطرح تحت عناوين الحوار والتسالم الاجتماعي وتفعيل الرؤى العقلانية، ولكن الواقع أن النخبوي بهذه الرؤية العمياء إنما يشد من عصب الطائفة، ويعزز في أفرادها عقد التفوق والكفاءة والفرادة، كما يؤكد على بيان قوة فئته بكل الوسائل وعلى كل المستويات. وهذا هو ما يفسر وجود منظومة من الرموز الطائفية النخبوية لكل طائفة. النخبوي الطائفي لا يُنظر إليه ضمن طائفته كرمز وطني، ولا كمثقف محلّق فوق الطوائف، بل يتم التعامل معه كبطل طائفي. أي كجلاد للطوائف الأخرى حسب متطلبات الجمهور الطائفي، وعلى هذا الأساس يتم تصعيده طائفياً، حيث تحقنه الجماهير بأوهام البطولة الوقتية الزائفة، وتدفعه لأداء دور الحامي لفكر ومعتقدات ومكتسبات قبيلته الطائفية، وبالتالي ينخفض في خطابه منسوب الوعي بالمواطنة، وتختفي من أدبياته فكرة المناقدة بمعانيها الشمولية والمنهجية وحتى الأخلاقية، وتنعدم اهتماماته بالأبعاد الروحية والجمالية، فهو داخل معركة تستوجب منه استدعاء كل طاقته الحجاجية، وفتح حواسه على أخطاء وعثرات غريمه الطائفي. مع الحفاظ على خطوط واهية للتواصل مع عناوين اللحظة الرنّانة كالتعايش والتسالم الاجتماعي. لا يتطلب الأمر مضاعفة التفكير لتحليل خطاب النخبوي الطائفي، فهو من خلال ما يبثه من رسائل يدّعي انتماءه إلى حركة تاريخية اجتماعية مطالبة بتشييد أركان المجتمع المدني، إلا أنه يعمل في الجانب الآخر على هدم أي إمكانية لذلك، فهو لا يؤمن لا بالتعددية ولا بالاختلاف ولا بالتجاور. لأنه أسير معادلة الأقلية والأكثرية. أي التفكير من خلال النسق الغالب والمغلوب، وهذا هو ما يجعل البعض يعيش لحظة من لحظات التعالي والإحساس بالأمان ضمن حواضنه الكبرى، مقابل نخبوي الأقلية الذي يؤسس خطابه على التودد والمشاكسة والتظلم، أي كجدار صد لطائفته، في الوقت الذي يعجز فيه كلاهما عن إنتاج جماليات النقد الكفيلة باستيلاد الأفكار الخلاقة للنهوض بالمجتمع والفرد والوطن. هكذا صارت النخبة الطائفية حالة عضوية من المشكلة بكل مستوياتها الوطنية والفكرية والأخلاقية والروحية في الوقت الذي كان يُتوقع ممن يوصفون بالنخبويين أن يكونوا جزءاً من الحل. ومعظم حواراتهم الموزعة في الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي تؤكد أنهم لا يرغبون في مغادرة مواقعهم الطائفية. وأن خطاباتهم الإنشائية ما هي إلا حالة من التباري الصوري لتأكيد منزلتهم الفكرية. بدون أي إسهام حقيقي في نزع فتيل الطائفية. خصوصاً أولئك الذين يجنحون لتسييس كل الطروحات مهما بدت عارضة وهامشية، لأن ذهنية التآمر تستوطن النخبوي أكثر مما تلامس وعي الجماهير. حيث تتحول في جهاز مفاهيمه إلى خطاب متكامل الأركان ويقلل فرص التفاوض مع الآخر والتعايش معه والتعاقد معه على قيمة وطنية شاملة.