جرب أن تسأل أي أحد إن كان مصاباً بالطائفية، أو إذا كان يعاني من أي عرض من أعراضها وسيجيبك على الفور، وبدون تردد، بأنه ليس طائفياً ولا يقبل أن يوصم بها. وكأنك تسأله إن كان مصاباً بالزكام. حيث تعكس الإجابة الفورية الباترة عن هذا السؤال الحاد جهلاً بحقيقة المرض الطائفي، كما تختزن تلك الإجابة المتسرعة حالة من الدفاع الذاتي المستعجل للتبرؤ من وباء فتاك، حيث يشكل هذا التنصّل العام من الطائفية حالة نفاقية عجيبة، لأن الطائفية موجودة ومستشرية في أدق تفاصيل حياتنا اليومية. وما تلك البراءة المعلنة إلا رداء شفاف نستر به عورة هذا المرض الذي اجتاح كل مظاهر الحياة فأفسدها وأتلف أرواحنا. المصاب بالطائفية لا يمكنه أن يعرف ما يعانيه من أعراضها إلا عندما يخضع إلى فحص شامل وعميق. والفحص هنا يتمثل في منعطفات وتحديات ومواجهات، أشبه ما تكون بقطاع الأشعة الطولي والعرضي في الذات، إذ لا يمكن للإنسان في لحظاته الاعتيادية اكتشاف ما يعانيه ولا ما يمتلكه من قوة أيضاً. ولذلك يبدو المصطف شكلياً خارج الطائفية، ومن خلال شعارات كلامية، أو صور تذكارية حول الموائد مع مختلف الأطياف المذهبية. كمن يمر بالعيادة ولا يتجرأ على إجراء الفحوص اللازمة لتشخيص حالته. حيث لا تكفي لافتات التعايش والتسالم المجانية لاستصدار شهادة التعافي، كما أن مزاملة أبناء الطوائف الأخرى ومصاحبتهم والتحاور معهم لا تعني النجاة من التشوهات الطائفية. الطائفية مرض مراوغ، يصعب تشخيصه بالسهولة التي يتخيلها الرومانسيون، ولا مناعة تكوينية لأحد من آفاتها، فهي تصيب الناس العاديين والأكاديميين والمثقفين والفنانين والشعراء وإن بدت أعراضها واضحة وفاقعة عند المتدينين، فأحياناً قد تقرأ كتاباً لأحد العقلانيين فتكتشف أنه يستبطن إعلاءً من قيمة رموز طائفته وتبخيساً أو تهميشاً لقيم ورموز الطوائف الأخرى، وهذه الأعراض نتيجة طبيعية لتمكن اللاوعي من خطابه، فهو يكتب من منطلق خزينه المفهومي والشعوري إزاء الآخر، ومن منصة وعيه المتوارث من خلال عملية تلقينية مبرمجة عبر مراحل تاريخية، حيث يصعب أن نصادف من يمتلك الفضول والحافز للاطلاع على ثقافة الطوائف الأخرى خارج إطار المحاججة الفقهية والشرعية والخلافات التاريخية. المطبات الصريحة هي التي تكشف زيف وادعاءات المتنصلين من الطائفية، أي عندما يواجه الأب مثلاً برغبة ابنه في الاقتران بامرأة من طائفة مغايرة، حيث تُستنفر كل المضادات الأيدلوجية والنفسية لديه للإجهاز على هذه الفكرة المتطرفة قبل تبرعمها، لئلا تتحول إلى مشروع قابل للتحقّق، حينها يقوم الأب بوأد تلك الأفكار في مهدها، بذرائع ملتوية حول العادات والتقاليد والعرف الاجتماعي، بمعنى أنه يحدد السقف الديني المفتوح على اتساعه ويضغطه على مقاسات اعتقاداته وهواجسه الطائفية، في الوقت الذي يتحدث فيه خارج فضاء بيته عن المساواة والتسامح والتعايش، ويطالب بتوطين ثقافة الحقوق. هناك من يستمرئ فكرة حرمان الآخرين من حقهم بسبب تمكّن المرض الطائفي من روحه، كأن يحرم موظفاً من ترقية لأنه من طائفة مختلفة، أو أن يمنع توظيفه لنفس السبب، وهذه اليوميات معروفة ومستهلكة، فقد أصبحت ثقافة ولها واقعها وأدبياتها في الواقع المريض بالطائفية. فهناك من لا يشتري إلا من أبناء طائفته، ومن لا يتعالج إلا عند طبيب من نفس السياق الطائفي الذي ينتمي إليه وهكذا، ولكن المستتر من الأعراض هو الأخطر، فهناك من لا يقرأ إلا لكاتب ينتمي لطائفته، حيث يمكن ملاحظة لوبيات التشايل لكُتّاب الطوائف، وهكذا يظهر بينالجماهير من يعاند إعجابه بلاعب كرة قدم لأنه ينتمي إلى طائفة يصنفها في خانة الخصوم أو الأعداء وهكذا. أحياناً يتحدث اللاوعي عند المثقف الطائفي فيباهي بأنه يحتفظ بصداقات مع أبناء طائفة أخرى، وكأنه يمنّ عليهم بصداقته، ويقدم نفسه كمنقذ لهم من عزلتهم، وكأنه أيضاً لا يعي فكرة وجودهم ككائنات بشرية متعادلة معه في وجوده الإنساني، ولا يعرف حقيقة حضورهم كمكوّن بنيوي من مكونات المجتمع الأكبر، لأنه محكوم في جوهر تفكيره الطائفي بعقدة التفكير في ضآلة الأقلوي مقابل امتيازات الأكثرية، حيث كشفت مواقع التواصل الاجتماعي عن الترسبات الكثيفة للحسّ الطائفي عند معظم الشريحة المثقفة. وظهرت تلك الأعراض في انفلاتاتهم الكلامية، وفي شكل اصطفافاتهم المذهبية، وفي انخفاض منسوب حساسيتهم الإنسانية. تحليل الخطاب الأدبي يمكن أن يكشف عن أعراض مزمنة للطائفية عند شرائح عريضة، وهذا هو أحد المجسات التي يمكن بها تشخيص الداء الطائفي، من خلال فحص التشكيلة العباراتية في الأعمال الأدبية والمقالات الصحفية، ومن خلال الكشف عن تمثيلات الآخر في تلك الخطابات الموبوءة بالطائفية، كما ينبغي فحص ما بات يُعرف تحت اسم (الميمات) أي الوحدات الثقافية المتوارثة، التي تنتقل من جيل إلى جيل فيما يشبه العدوى. بمعنى أن الطائفية كمرض مزمن يمكن أن تُشخص من هذا المنظور الثقافي الذي يحفر عميقاً في الذات المطأفنة، ويكشفها أمام نفسها، وهذا إجراء لا يمكن حدوثه أو التعامل معه إلا عندما يتعلم المجتمع، وبشكل خاص المستنيرون منه، أن الطائفية مرض تاريخي مزمن وليس مجرد زكام طارئ.