حديثنا هذا مجاله السياسة، وفي مضمارها ومخاض حروبها، شكل القادة العرب أول مؤسسة جامعة تعبر عن تطلعهم لأن يأخذوا مكانا في عالم أكدت نتائج الحرب العالمية الثانية، أنه ليس فيه مكان إلا للأقوياء. تأسست جامعة الدول العربية بالتوقيع على ميثاقها في 22 مارس 1945، من سبعة أقطار، تمكنت من حيازة استقلالها السياسي، قبل لحظة التأسيس. ولم يكن التأسيس معزولا، عن المتغيرات الدولية، ونتائج الحرب الكونية الثانية. لقد ارتبط ذلك التأسيس بتحول سياسي واقتصادي وعسكري، في موازين القوى الدولية. ووفقا للتجارب التاريخية، توثق طبيعة التحول، بحرب عسكرية، تحدد شكلها وحدودها، ومستوى الخلل في ميزان القوة. فتكون كونية، كما في الحربين العالميتين، أو تتخذ شكل حروب إقليمية، أو بين دولة وأخرى، كما هو مألوف في العصر الحديث. والحروب على هذا الأساس، ليست مقدمة الأزمات، ولكن هي تعبير عن أوج تصاعدها. وهدفها الحسم، بعد أن تفشل الخيارات الأخرى، في تحقيق الأهداف غير المعبر عنها غالبا. وبالنسبة للعرب، ارتبط الطموح في الاستقلال عن العثمانيين، قبل تلك الحرب بعقود طويلة، شكلت فيها جمعيات وأحزاب سياسية، ومنظمات تراوحت مطالبها بين تحقيق الإصلاح والقضاء على العنصرية، التي يمارسها الأتراك، وبين تحقيق الاستقلال الذاتي للبلدان العربية، ضمن إطار السلطنة، وبين مطلب الاستقلال الكامل عن الأتراك. و إعلان العرب الثورة ضد الأتراك، كان نتاج تراكم تاريخي، قدمت قرابين كثيرة، على مذبحه، لعل الأبرز بينها، زعماء اليقظة الذين تم إعدامهم على يد جمال السفاح. وكان اندلاع الحرب العالمية الأولى اللحظة المناسبة لالتحاق العرب، بقافلة الحلفاء، من أجل إنجاز الاستقلال السياسي. و أكدت نتائج الحربين الكونيتين، أن النخب السياسية العربية، لم تكن صانعة لتاريخ. وكان حراكها صدى عاجزا لاستراتيجيات صناع القرار الكبار. ولم يكن فنها الممكن، محكوما بالإبداع والمبادرة، فكانوا أول ضحايا القسمة بين البريطانيين والفرنسيين، والاتفاق بين الصهاينة والخارجية البريطانية. لم تكن اتفاقية سايكس- بيكو ووعد بلفور، سوى وجه آخر، لعجز النخب العربية، وفشلها في اكتساب الاستقلال، وتحقيق حلم النهضة، والولوج في عصر المعرفة... الحلم الذي بشرت به أدبيات عصر التنوير العربي، ولخصته مقولة رفاعة رافع الطهطاوي، في أن يكون الوطن مكان سعادتنا العامة، التي نبنيها من خلال الحرية والفكر والمصنع. مثلت مرحلة ما بين الحربين، لحظة انهيار للنظام العالمي القديم، والفشل في تشكيل نظام بديل. فكانت لحظة انتقال من نظام دولي لآخر، لم يتشكل إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حين تأسس نظام دولي جديد، على قاعدة الثنائية القطبية. وهكذا يمكن القول ان النظام السياسي العربي المعاصر، تأسس في نهايات مرحلة الانتقال، من الفوضى السياسية التي مر بها العالم، فيما بين الحربين، ولم يكن لها أن تنتهي إلا بعد الحرب. فالحرب العالمية الأولى، كانت بالفعل حربا لم تكتمل بنتائج تجعل من السهل، تشكيل نظام دولي متين. ذلك أن أركانها الرئيسة، كانوا في عداد من دخلوا في غياهب الخريف. وكانوا كما العثمانيين من قبل، ينتظرون الحرب الكونية الثانية، لكي تطفئ شمس إمبراطورياتهم العتيدة، الإمبراطوريات التي تكرر القول إن الشمس لا تغيب عنها. لقد تأكد أن ولادة النظام العربي، هو تعبير عن إرادة قوى تتهيأ للرحيل. وكان منطق إزاحتها، عن المشهد السياسي الدولي، قد بدأ يعبر عن نفسه، بشكل واضح خلال سنوات الحرب الأخيرة، حين أعلن الرئيس الأمريكي روزفلت سياسة الباب المفتوح، صادحا بانتهاء عصر الاحتكار، وبأن لبلاده الحق في منافسة المهزومين بممتلكاتهم. وكانت تلك هي المعضلة الأولى التي واجهتها جامعة الدول العربية. ولا شك أن مرحلة الاستقلال الوطني، هي مرحلة مجيدة وناصعة، لكنها لم يكن لها أن تتحقق إلا في ظل شيخوخة ووهن النظام الدولي القديم، والمتغيرات التي شهدها العالم، والتي عبر عنها تربع اليانكي والدب القطبي على عرش الهيمنة الدولية. وقد كان لذلك إسقاطاته السريعة على النظام العربي. فجامعة الدول العربية، التي يفترض فيها أن تمثل مصالح كل العرب انقسمت في ولائها لخندقين، تبعا للتشكل الدولي. وكان لهذا الانقسام، تأثيراته على التوجهات الأيديولوجية، وطبيعة التشكل السياسي والاقتصادي للأقطار العربية. ولذلك كانت قرارات الجامعة قائمة جمع المتناقض في سلة واحدة. والأخطر، هو تأثيرات ذلك الانقسام على الصراع العربي مع الصهاينة. انتهت تلك المرحلة بالتسعينيات، بعد السقوط الدرامي للاتحاد السوفييتي وكتلة وارسو، لتحل بعدها مرحلة أعنف وأخطر، طرحت فيها مشاريع تفكيك المنطقة، على الأسس الطائفية والمذهبية والعرقية. وكانت مرحلة فتح ملفات لأجندات قديمة، تقرر أن يجري تنفيذها بعد الحرب العالمية الثانية، وفقا لترتيبات القسمة في يالطة، لكنها أعيقت بالحرب الباردة. ومع هيمنة المحافظين الجدد سادت القناعة لديهم، بأن أوان حصاد التفكيك قد حل. نحن الآن على أعتاب مرحلة تاريخية جديدة، تقتضي رسم سياسات جديدة من قبلنا، لا تجعلنا صدى واهنا في المعادلة الدولة. سياسات تجعلنا في القلب من حركة التاريخ. فالعالم الآن يتجه نحو مرحلة جديدة، من حيث توازنات القوة وصراع الإرادات، بما ينبئ أن البشرية على أعتاب مرحلة سياسية مغايرة، سوف يتمخض عنها من غير شك، نظام دولي جديد، يتسق مع سمات المرحلة الراهنة. ومع صعوبة تقديم قراءة استشرافية، لملامح النظام الدولي المرتقب، إلا أن سياق التحولات العلمية الهائلة، التي حدثت خلال العقود الأخيرة، يساعد في فهم استشرافي أفضل لهذه الملامح. فهناك تصور جديد لمفهوم العولمة، من اعتبارها حالة اندماج اقتصادي، من قبل الأطراف إلى المركز، كما هو الحال منذ نهاية القرن التاسع عشر، إلى مستوى مختلف عن كل ما شهدته البشرية، منذ بدأ الاجتماع الإنساني. فالثورات العلمية في مجال البيولوجيا والاتصالات، والثورة الرقمية، والحضور القوي لمواقع التواصل الاجتماعي، سيكون له تأثير عالمي مهول، وغير مسبوق، في عالم المال وصناعة الأسلحة. فلم يعد تقييم القوة، مرتبطا بحجم الكتلة وثقلها، بل بقياسات مختلفة، في الكم والنوع، بما يستدعي إعادة النظر في المفاهيم القديمة للقوة. وعلى واقع هذه التحولات ستتشكل تكتلات جديدة، لن تكون محكومة بالصراعات العقائدية، التي سادت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وقد بدأت ملامح ذلك بالظهور. فالصين الشعبية، لم تبرز في هذا المسرح كلاعب اقتصادي رئيس إلا في العقود الأخيرة. والحال هذا ينسحب على الهند، التي بقيت معزولة عن لعب أدوار سياسية هامة في المسرح الدولي، تتقدم بقوة، في تعزيز برامجها التنموية، وتتنافس في الصناعات الالكترونية. وفي آسيا أيضا، تتقدم كوريا الجنوبية، في التصنيع وتلحق بها اندونيسيا. وإذا كانت كلمة السر دائما هي في الاقتصاد، فإن من يملك القوة فيه، سيطلب مقابل ذلك استحقاقات سياسية. وستسهم قوة الاقتصاد في تحفيز شهوة الدخول إلى صناعة السلاح. العالم الجديد، الذي لن يطول انتظارنا كثيرا له. سيحدث تغيرا هائلا في مجال الثقافة والفكر والفنون، بما يتسق مع التحولات العلمية الهائلة. التي يشهدها الكون. وستظل القوتان الاقتصادية والعسكرية، تقرران المواقع الجديدة للدول في عالم القوة. وفي حال تراجع القوة الاقتصادية الأمريكية، كما هو ملحوظ في العقدين المنصرمين، فإن من المتوقع أن تنتهج أوروبا بالتدريج سياسة مستقلة تراعي المصالح الخاصة، للقارة. وسيكون لفرنسا وألمانيا الدور الأساس في قيادة النزعة الاستقلالية الأوروبية عن العم سام. فثقل التاريخ، بالنسبة للبلدين، سيكون له تأثير كبير في صناعة المحور الأوروبي. فألمانيا دخلت حربين مدمرتين، انتهيتا بإذلالها. وسوف تجد في التطورات الأخيرة، فرصتها للفكاك من أسرها الطويل. وبالنسبة لفرنسا، فإن نزعتها الاستقلالية، بدأت مع الرئيس شارل ديغول، بعد نهاية الحرب مباشرة. وبقي إرث الديغولية السياسي، في فرنسا، قويا حتى يومنا هذا، رغم فشل الجبهة الوطنية المعبرة عن هذا التوجه في الانتخابات الأخيرة. ما يلوح في الأفق حتى الآن، أن العالم الجديد، سيكون بثلاثة أضلاع. الضلع الأمريكي، وسوف يضم الولاياتالمتحدة وكندا، والضلع الأوروبي، وستكون فرنسا وألمانيا ركنه الأساس، وستلتحق به معظم الدول الأوربية. وضلع آسيوي، ربما تكون روسيا الاتحادية والصين الشعبية والهند، ركنه الأساس، وتلتحق به بعض الدول الاسيوية وربما الأفريقية. هناك سعي روسي محموم، لتشكيل كتلة أوراسية، تشكل محورا اسيويا أوروبيا، قد تفلح مرحليا، في تشكيل شراكة اقتصادية، إلا أنه من الصعب الآن التنبؤ بمآلات هذه الكتلة، حين يتعلق الأمر بالتحالف السياسي والعسكري. أسئلة ملحة تبقى من غير جواب. أولها هل ستكون ولادة النظام العالمي الجديد عسيرة، بحيث تستدعي اندلاع حروب إقليمية، أم أنها ستأخذ الشكل الأوروبي الشرفي، الذي شهده العالم، في مطالع التسعينيات. كل المؤشرات تؤكد أن الولادة ستكون عسيرة، لأنها مرتبطة بصراع الإرادات، ومثل هذا النوع من الصراع، لا يحسم وديا.؟ السؤال الآخر، هو عن مدى مواءمة تشكيل هيئة الأممالمتحدة الحالي، لهذه التحولات، وبشكل خاص حق النقض في نظام مجلس الأمن الدولي. هناك دول صاعدة كاليابان وألمانيا والهند، بدأت تطالب بعضوية دائمة في مجلس الأمن. وهناك رغبة لدول أمريكا اللاتينية، في أن يكون لها مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي. وقد أعاقت تركة النظام القديم المحكوم بنتائج الحرب العالمية الثانية، تطور هذه المؤسسة الدولية. هل سيعاد النظر في هذه المؤسسة، فيجري تطويرها على ضوء الحقائق السياسية الجديدة، أم تطوى صفحتها نهائيا، كما طويت من قبل صفحة عصبة الأمم، ويقام على أنقاضها تشكيل جديد، بمسمى آخر. ذلك أمر لا يمكن أن نجزم به. وسيكون علينا أن ننتظر قرابة عقد، حين يكتمل التحول في خريطة موازين القوة وصراع الإرادات. أين موقعنا نحن العرب في هذه التحولات الكونية الهائلة؟ هل سنقتنص لحظة الانفلات الدولي هذه، لنبني شيئا إيجابيا مغايرا، شيئا بناء ومثمرا يجعلنا نطرق التاريخ، من أوسع بواباته.؟ سؤال تستحيل الإجابة عنه من غير قياس واقعي للوعي والقدرة والإرادة.