هل تشتعل جبهة جنوب لبنان ؟    روسيا: زيارة بلينكن للصين تهدف لتمزيق العلاقات بين موسكو وبكين    الأخضر السعودي 18 عاماً يخسر من مالي    الإبراهيم: تشجيع الابتكار وتطوير رأس المال البشري يسرعان النمو الاقتصادي    النفط يستقر فوق 88 دولاراً.. وأسهم أمريكا تتراجع    «الرابطة» تُدين استمرار الاحتلال ارتكاب جرائم الحرب في غزة    الإبراهيم: إستراتيجياتنا تحدث نقلة اقتصادية هيكلية    الراقي في اختبار مدرسة الوسطى.. الوحدة والفيحاء يواجهان الحزم والطائي    ميندي وهندي والنابت مهددون بالغياب عن الأهلي    إنشاء مركز لحماية المبلغين والشهود والخبراء والضحايا    أدوات الفكر في القرآن    4 نصائح طبية عند استعمال كريم الوقاية من الشمس    الملك يغادر المستشفى بعد استكمال فحوصات روتينية    بيع "لوحة الآنسة ليسر" للرسام كليمت بمبلغ 32 مليون يورو    الأوبرا قنطرة إبداع    في ذكرى انطلاقة الرؤية.. مسيرة طموحة لوطن عظيم    الأمير عبدالإله بن عبدالعزيز يرعى حفل تخريج طلبة «كلية الأعمال» في جامعة الفيصل    اللهيبي تُطلق ملتقى «نافس وشركاء النجاح»    اللي فاهمين الشُّهرة غلط !    لا تستعجلوا على الأول الابتدائي    مساعد رئيس مجلس الشورى تلتقي بوفد من كبار مساعدي ومستشاري أعضاء الكونغرس الأمريكي    هلاليون هزموا الزعيم    مين السبب في الحب ؟!    مشاهدات مليارية !    أهلاً بالأربعين..    "5 ضوابط" جديدة بمحمية "الإمام تركي"    النفع الصوري    حياكة الذهب    سوناك وشولتس يتعهّدان دعم أوكرانيا "طالما استغرق الأمر" (تحديث)    إجراء أول عملية استبدال ركبة عبر «اليوم الواحد»    زراعة 2130 شجرةً في طريق الملك فهد بالخبراء    166 مليار ريال سوق الاتصالات والتقنية بالسعودية    مسبح يبتلع عروساً ليلة زفافها    "إكس" تطلق تطبيقاً للتلفاز الذكي    أسرة البخيتان تحتفل بزواج مهدي    انطلاق "التوجيه المهني" للخريجين والخريجات بالطائف    "أم التنانين" يزور نظامنا الشمسي    اكتشاف بكتيريا قاتلة بمحطة الفضاء الدولية    «سدايا» تطور مهارات قيادات 8 جهات حكومية    961 مليونا ً لمستفيدي «سكني»    أمير الشرقية: القيادة تولي العلم والتنمية البشرية رعاية خاصة    تحت رعاية وزير الداخلية.. "أمن المنشآت" تحتفي بتخريج 1370 مجنداً    دورة تأهيلية ل138 مستفيداً ومستفيدةً من برنامج الإعداد للابتعاث    مقصد للرحالة والمؤرخين على مرِّ العصور.. سدوس.. علامة تاريخية في جزيرة العرب    رسالة فنية    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    الإسباني "خوسيلو" على رادار أندية الدوري السعودي    عيدية كرة القدم    تجهيز السعوديين للجنائز «مجاناً» يعجب معتمري دول العالم    جاسم أحمد الجاسم عضو اتحاد القدم السابق ل"البلاد": الهلال يغرد خارج السرب.. وحديث المجالس وضع" هجر" في مهب الريح    تحت رعاية الأمير عبد العزيز بن سعود.. قوات أمن المنشآت تحتفي بتخريج 1370 مجنداً    بعضها يربك نتائج تحاليل الدم.. مختصون يحذرون من التناول العشوائي للمكملات والفيتامينات    تجاهلت عضة كلب فماتت بعد شهرين    قطاع القحمة الصحي يُنظّم فعالية "الأسبوع العالمي للتحصينات"    أمير عسير يواسي أسرة آل جفشر    أمير حائل يرفع الشكر والامتنان للقيادة على منح متضرري «طابة» تعويضات السكن    المجمع الفقهي الإسلامي يصدر قرارات وبيانات في عددٍ من القضايا والمستجدات في ختام دورته ال 23 clock-icon الثلاثاء 1445/10/14    أمير تبوك: عهد الملك سلمان زاهر بالنهضة الشاملة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قوة الموروث الثقافي تزيد الاحتقان وتطغى في تحديد الهويات
نشر في الوطن يوم 22 - 06 - 2016

كتاب "الهوية والذاكرة" لمؤلفه محمد الحرز هو مجموعة دراسات ومقالات يشدها إلى بعضها هاجسان، أولهما هاجس الهوية وما يتعلق بها من ظواهر إشكالية تتصل بالفرد والمجتمع والثقافة والمعرفة، وثانيهما الذاكرة، خصوصا أنه حديثا يرتبط بالهوية أو التاريخ أو الماضي ولا بد أن يستدعي الذاكرة.
ويتناول الكتاب قضايا تتناول المجتمع السعودي، وأخرى العربي، وثالثة مجتمع الطوائف.
الهويات الطائفية
أعلم تماما خطورة المنعطف التاريخي الذي تعيشه حاليا الحياة العربية كأفراد ومجتمعات ودول. هذا المنعطف التاريخي الذي تتسم أحداثه ووقائعه بوتيرة متسارعة لا يمكن معها أن يلتقط الباحثُ أو المفكر أنفاسه كي يفهم - على سبيل المثال - هذا الحدث ويحلل تداعياته، إلا ويأتي حدث آخر، يدخل على خط المنعطف، ليفرض تداعيات جديدة، ويفرض أيضا قراءة جديدة للحدث القائم.
هذا المنعطف الذي بدأ - من وجهة نظري - بقيام الثورة الإيرانية عام 79 مرورا بالعديد من الأحداث الكبرى، كتفكك الاتحاد السوفيتي، وانتشار الديمقراطيات في أوروبا الشرقية، وكذلك أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما صاحبها من تداعيات، إلى اندلاع الثورات العربية عام 2011، حيث لا زال الحبل على الجرار، والأحداث تجر أحداثا أخرى.
إن كل هذه الأحداث جرت في غضون ثلاثة عقود أو أكثر قليلا، حيث نتائجها الكارثية على شعوب المنطقة كشفت عن أزمات عديدة. لكنني هنا سأحصرها في اثنتين:
1 - أزمة علاقة بالماضي بوصفه قيمة ثابتة لا تتحول.
2 - أزمة علاقة بالدولة وأثرها الواضح ليس على الصعيد المادي وإنما أيضا أثرها على صعيد اشتغالات الفكر وإنتاج خطاباته.
وسوف أتناول كلتا الأزمتين في حدود ما يتعلق بأثر كل منهما على موقع الهويات في سياقها الاجتماعي والثقافي والسياسي. لكن قبل ذلك أريد التوقف قليلا عند جملة من الملاحظات التي تتصل بالأفكار الواردة عندي.
أولا- سبق أن تناولت بعض هذه الأفكار فيما كتبته من مقالات متفرقة تصب في ذات التوجه والمنحى للموضوع.
ثانيا- لا تطرح هذه الأفكار حلولا حول القضايا التي تتناولها، ولا رؤية متكاملة، ولا تترصد منهجا معينا في التحليل، جُل ما تسعى إليه هو فهم الظواهر التي تتناولها فهما يوسع من نطاق الحوار حولها، ويجدد الأسئلة التي تتعلق بها.
ثالثا- استمرارية التاريخ، وانتفاء الدولة الواردان في العنوان لا يشكلان مصطلحين منتزعين من أحد حقول العلوم الإنسانية، بل هما أقرب إلى أن يكونا تعبيرين مجازيين يشيران إلى توصيف عن الحضور الطاغي لأحداث الماضي كمعيار يقاس عليه الحاضر بالنسبة للأول، وبالفراغ السياسي الذي تسببه ضياع البوصلة في طريق الدولة الحديثة بالنسبة للثاني.
رابعا- حول مفهوم الهوية دعا كثير من الباحثين في العلوم الإنسانية إلى التخلي عنه بسبب الالتباس والغموض والتعقيد الذي طاله، وكثرة استخدامه بدلالات متناقضة في أغلب الأحيان، وقد اقترحت الباحثة مرجريت سامرز مفهوم السرد بدل الهوية، لأنه الأكثر تحديدا للكينونة الثقافية للجماعة بينما الهوية بشكل عام هي حركة منفتحة على التحول والتبدل قائمة على إستراتيجيات ينفذها فاعلون اجتماعيون واقتصاديون وسياسيون، وذلك في ظرف زمني محدد. لقد حصر روجرز بروبكر وفريدريك كوبر في كتابهما "ما وراء الهوية" خمسة أوجه دلالية لاستعمال مفهوم الهوية في العلوم الإنسانية، وسأذكر واحدا منها لأنها ترتبط بالافتراض الذي أتبناه هناه عن مفهوم الهوية وهو "الهوية بوصفها ظاهرة جمعية دالة على وجود تشابه بين أعضاء جماعة ما، حيث يتيح هذا المعنى في المفهوم للباحث توقع وجود تشابه سيتمظهر في تضامن أعضاء الجماعة، وفي طرق تصرفهم وملامح وعيهم المشترك".

الأخلاق والعلم
المكانة التي حظيت بها المسألة الأخلاقية في علاقتها بالعلم عند المسلمين منذ القرون الأولى لنشوء الإسلام تُشكل سمة مميزة قلّ نظيرها في الحضارات الأخرى. العلم مقرونا بالأخلاق وردت فيه آيات عديدة في القرآن الكريم، وفي مواضع مختلفة. نكتفي بالآية رقم (282) من سورة البقرة: (... واتقوا الله ويعلمكم الله...) يقول القرطبي عن هذه الآية في تفسيره: (إنه وعدٌ من الله تعالى بأن من اتقاه علّمه، أي يجعل في قلبه نورا يُفهم به ما يُلقى إليه). والتقوى هنا لا تتوقف على تهذيب النفس فقط، ولكن كما يرى أغلب المفسرين هي بمثابة الجسر الذي يوصل الإنسان إلى العلم والمعرفة، ومن دونه لن يبصر طريقه المستقيم. وهناك آيات أخرى ربطت الجهل بالفساد والانحراف، وأيضا بوصفه أحد عوامل الحسد والحقد والتعصب. هنا قد يتبادر إلى أذهان البعض اعتراضان الأول هو أن المسألة الأخلاقية لا تختزل في مفهوم التقوى، وأن العلم في نظر الإسلام هو الذي يقتصر على المعرفة الإلهية فقط. والآخر يتعلق بالاستدلال على الآيات القرآنية في دعم موقف أو رأي، وهو استدلال يوقع صاحبه - كما يقال - في أغلب الأحيان في فخ التأويل والتأويل المضاد. الجدل حول الاعتراضين لم يخمد أواره، لا في الدراسات القرآنية والتاريخية ولا في الدراسات الفكرية الإسلامية، لكن نرى أن الإسلام نشأ على أرضية ثقافية ضاربة جذورها من العصر الهلينستي صعودا حتى نشوء الإسلام، وهي ثقافة تتسم بالشفاهية، وليس السماع والحفظ والإسناد وتقديس اللغة والراوي سوى إحدى أهم آليات هذه الثقافة، وحتى تكون هذه الآليات فاعلة عند الإنسان عليه أن يروض نفسه بالرياضة الروحية حتى يكون مهيأ لاستقبال المعارف الإلهية والدنيوية. وهكذا نرى في القرآن كان مصطلح العلم إزاء التقوى.

تحرير أخلاق المعرفة
لم تعد الأفكار الكبرى التي راجت في القرنين التاسع عشر والعشرين في أوروبا تحتل الآن موقعا متميزا في الخطاب الفكري، وتلاشت تلك الفكرة التي تدعو إلى الإيمان بالبروليتاريا كطبقة اجتماعية فاعلة تحرر العالم من الاحتكار الرأسمالي للاقتصاد، وكذلك الفكرة التي ترى إلى التاريخ على أنه يسير إلى غاية محددة عند هيغل نجدها تنتهي إلى العقل عند ماركس تنتهي إلى الطبقة، وفي نظرية فوكوياما نهاية القرن الماضي ينتهي التاريخ عند الليبرالية والديمقراطية والنظام الحر للاقتصاد وذلك حينما ولت المذاهب الشمولية في الحكم والسياسة والاجتماع والفكر مع نهاية الحرب الباردة بعدما تفتت الاتحاد السوفيتي وسقط جدار برلين. أيضا هناك أفكار جرى اعتبارها مسلمات لم يتم زعزعة القناعة منها إلا بعد أن مرت أوروبا في حربين عالميتين جعلت من ثقافتها مختبرا للنقد والمراجعة ومنطلقا للتفكير والمساءلة، فمن أهم هذه الأفكار هي ما يسمى "بالمركزية الغربية" وهو مصطلح يشير إلى تلك النظرة الاستعلائية الكامنة في الثقافة الغربية إلى الآخر غير الأوروبي من شعوب العالم، وأكثر ما تتضح هذه النظرة في المشاريع الثقافية التي ارتبطت بالاستعمار من نظريات في السسيولوجيا والأنثروبولوجيا والفلسفة والتاريخ. صحيح أن هناك مشاريع متميزة أفادت المعرفة وأفادت تطورها على صعيد عالمي، وكانت أهدافها ترتبط بالحقيقة العلمية إلا أنها على العموم جرى استثمارها لاحقا من طرف خطابات سياسية عدائية ضد الآخر وخصوصا الإسلامي الشرقي.
ولا أريد هنا أن أفتح هذا الملف الذي يفكك العلاقة المشبوهة القائمة على القوة بين الاستعمار والمعرفة، فقد جاءت نظرية ما بعد الاستعمار لتقوم بهذه المهمة، وكتابها الآن معروفون على مستوى العالم ونظرياتهم مؤثرة وتناقش أفكارهم في جميع الحوارات التي تقام في شتى عواصم العالم.

مفردة التأمل
إعادة تأمل الحياة من العمق هي فلسفة لا غنى لمجتمعاتنا العربية في بحثها الراهن عن هوية ثقافية متصالحة مع نفسها ومع الآخر من الانحياز إليها أو تبنيها أو على الأقل معرفة وجهة النظر التي يتم من خلالها إدخال كل الخطابات الفكرية والدينية والسياسية، وكل ما ترسب في قاع المجتمع من عادات وتقاليد، تحت محك التأمل والاستغراق فيه، وكأن الحياة تحت هذا المنظور يعاد تفكيكها من جديد، وكأن الناظر إليها هو مولود جديد أيضا، يولد في أحضان ثقافة،هي وليدة مثل هذا التأمل.
هنا يبدو لي، من المهم توضيح جملة من الأفكار للقارئ حتى نرفع بعض نقاط الالتباس أو الغموض الذي يطال الفقرة السابقة.
أولا- ما معنى تأمل الحياة من العمق؟ وما علاقة هذه العبارة بكونها جزء من الفلسفة؟ والأهم دعوانا على أنها ضرورة ملحة لحياتنا العربية الراهنة؟ مبررات هذه الضرورة، أين تكمن؟ وبأي اتجاه تسير؟
ثانيا- الإجابة عن هذه الأسئلة هو ما سأتناوله في الفقرات القادمة.
ثالثا- حين ننظر إلى مفردة "التأمل" في سياق تحولات دلالاتها التاريخية، فإننا نكتشف المنزع الصوفي الذي ترسخت في تربته، ونشأت وترعرعت فيه، حتى إن كل الخطابات الصوفية من جميع الأديان لا تخلو من الكلمة ذاتها أو من معانيها القريبة والبعيدة. وأهم معنى كان له الحضور الطاغي على ما سواه من المعاني الأخرى التي ارتبطت بها في الخطابات المعرفية المختلفة عبر تداولها التاريخي كالفلسفة أو علم الاجتماع أو التحليل النفسي أو الفكر والسياسة أو الدين، هو المعنى الذي يتصل بفكرة كون التأمل طريقا يوصلنا أو يقربنا إلى الخالق سبحانه وتعالى.
رابعا- في العصر الحديث، من جراء تطور المعرفة والتحولات التي طرأت على مجتمعات وشعوب العالم من جميع النواحي والمجالات، أخذت مفردة التأمل طريقين في الدراسات الفلسفية. الأول منهما يتصل بفلسفة الدين، والآخر هي نظرية التأويل أو بما يسمى "الهرمنيوطيقا". وفي هذه الدراسات استعيض عن مفردة التأمل بمفردة أخرى طغت عليها بل أصبحت هي السائدة، فمفردة الفهم هي التي ارتبطت بفكرة التأويل بجانب كلمات مساعدة كالتفسير والتأمل أيضا، بينما في فلسفة الدين لم تقطع تماما مع المفردة، وإن ظلت مفردة الفهم تنازعها مكانتها التاريخية، لكن المنعطف الذي وسع الفارق في دلالة هذه المفردة (التأمل) بين ما سبق تلك العصور وبين ما جاء بعدها، هو أن التأمل في نظر ما سبق كان يرتبط بحقائق يقينية لا محل للشك فيها، بينما هي عند من جاء لاحقا لا تخرج عن نطاق التفكير العقلي القابل للشك والنقد.

نظرة أخرى للثقافة المحلية
تحليل المصطلحات والمفاهيم الأدبية والثقافية هو المدخل الأكثر أهمية في ترسيخ رؤية منطقية وتاريخية تتغذى على جدل العلاقة القائمة بين المجتمع وتحولاته من جهة، وتحولات الأفكار والقيم والمنظومات التي تتعايش معه من جهة أخرى، وذلك في إطار الخطاب الثقافي أو الأدبي. ما يبرر مثل هذه المقولة هو انحسار المعاجم والقواميس التي تختص بتاريخ الكلمات والمفاهيم والمصطلحات وثيقة الصلة بتاريخنا المحلي أدبيا وثقافيا وسرديا.
وبقدر ما تتعزز قيمة هذا المدخل في الدراسات الأدبية والفكرية فإن ذلك يفضي - حسب قناعتي - إلى حلحلة أمور عدة ابتلى بها خطابنا الثقافي والأدبي وحتى الأخلاقي أهمها العمل على فك الارتباط الوثيق بين الذات واللغة.
هذا الارتباط الذي وسم غالب المظاهر والعادات والاشتغالات التي طاولت خطابنا الثقافي سواء في صوره البسيطة أو المعقدة.
ولتبيان القصد من وراء هذا الكلام نوضح المسألة التالية على صيغة سؤال: لماذا كلما بحثنا في مسائل الآخر ثقافيا وفكريا وأدبيا على افتراض، أن البحث فيها يؤدي كما نتصور - في نهاية المطاف - إلى رفع الاحتقان والتشنج وسوء الفهم، نرى الواقع خلاف ذلك بدليل أن السلوك اليومي لأي فئة من الناس حين تتحاور حول الآخر سواء كانت من طبقة مثقفة أو غيرها، فإن قوة الموروث الشعبي سيغلب عليها في النهاية؟.
وإذا ما أدركنا أن في قلب هذا الموروث جانبا توجسيا من هذا الآخر بجانب تقبله والانفتاح عليه، فإننا سوف ندرك أن قوة هذا الموروث لم يجر إدراكه بالطريقة التي نستطيع من خلالها تعديل صورة الآخر في أذهاننا، وبالتالي تبقى الحال كما هي عليه، وكأننا ندور في حلقة مفرغة.

التنوير الأوروبي والممانعة العربية
أغلب المؤرخين العرب الذين كتبوا عن التنوير الأوروبي، خلصوا إلى أن الممانعة التي وجدوها عند عموم المجتمع العربي ضد قيم هذا التنوير كانت الأسباب ترتكز في معظمها على الأثر الذي تركه تاريخ الاستعمار وخطابه الإمبريالي على الثقافة العربية الإسلامية وصناعها بشكل عام. هناك أسباب أخرى بالتأكيد تتعلق بطبيعة القيم الأخلاقية والفكرية بين حضارتين مختلفتين. لكن دائما ما يكون هذا الأثر حاضرا في كل تحليل.
وقد كانت معظم الدراسات التي تناولت هذه العلاقة لم توسع من نظرتها إلى حال بقية المجتمعات والشعوب الأخرى التي عانت من الاستعمار مثلما عانت الشعوب العربية، كمجتمعات أميركا الجنوبية والهند وأستراليا ونيوزلندا وجنوب أفريقيا على سبيل المثال، ولم تستخدم أدوات المنهج المقارن (كالمقايسة بين الظواهر في مجتمعين مختلفين باكتشاف أوجه الشبه والاختلاف بينهما) في تعزيز فهمها لظاهرة الممانعة تلك، وبالتالي تعميق وعيها الثقافي والفكري بعيدا عن الاستقطاب الثنائي بين ما هو إسلامي من جهة، وما هو غربي من جهة أخرى.
الرؤية الاستشراقية في مثل هذه الدراسات باعتبارها انبنت على الصراع والقوة ومدعومة بمناهج في علم الاجتماع والتاريخ والأنثروبولوجيا، ظلت هي المسيطرة، ويعاد إنتاجها مع كل مواجهة تصادمية بين الطرفين. الحروب العربية الإسرائيلية، التطهير العرقي في البوسنة والهرسك، حدث برجي التجارة العالمية، العدوان الأميركي على العراق وأفغانستان، والإسرائيلي على غزة، الاعتداء على الرموز الإسلامية المقدسة. جميع هذه الأحداث ليست سوى محفزات لجلب هذه الرؤية أو الصورة إلى قلب الصراع وكأنها أيقونة لا يمكن المساس بها على الإطلاق، هذا إذا ما اقتصرنا الحديث عن التاريخ العربي الحديث.
.وثانيا- جاءت هذه الدراسات لتفتح أفقا جديدا من التفكير في مجموع العادات والتقاليد والقيم الثقافية التي اتسم بها هؤلاء ما قبل الاستعمار، حيث استكشاف معالمه وصفاته ومدى الأثر الذي تركته ثقافة الاستعمار على سياقه من العمق، وكذلك إبراز عناصر القوة والمقاومة فيه من خلال تراثه اللغوي والأدبي، وقد افتتح إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق هذا النوع من التفكير بطريقة أكثر منهجية من سابقيه كفرانز فانون على سبيل المثال في كتابه "معذبو الأرض" الصادر في أوائل ستينات القرن المنصرم الذي انتقد فيه الاستعمار الفرنسي للجزائر. وأعلى من شأن الحرية والاستقلال لشعوب العالم الثالث، وكان يؤمن بالقوة في سبيل هذا التحرر.

عقلانية النقد
يبدو لي أن صندوق باندورا قد انفتح على آخره، ولم تعد الأفكار والمعتقدات التي تتصل بهذا المذهب أو ذاك بمنأى عن الفرجة، إذا لم تكن بمنأى عن النقد أيضا. فقد جرى في الآونة الأخيرة ربط ظاهرة نقد تاريخ العقائد والطقوس المذهبية (الشيعية) بفكرة المثقف المستنير بفكره النقدي، وجرى أيضا إظهار هذا النقد بوصفه الطريق الوحيد الذي يضع أبناء الطائفة في سكة المستقبل، ويوجههم صوب العقلانية المنشودة، بعد أن يكونوا قد تحرروا من سلطة العقل الديني الجمعي، ومن تبعاته التي تشد الناس إلى الجمود والسكونية الفكرية. وقد انتظم في هذه الظاهرة بعض الشباب الذين انطلقوا بحماس منقطع النظير، تارة باسم حرية التعبير، وتارة أخرى باسم انفتاح الجيل الحالي على الثقافة المعاصرة وتحولاتها الكبرى، كي يرفعوا أصواتهم متحدين السلطة الاجتماعية والدينية معا.
قد يبدو للبعض أن توصيفي للظاهرة بهذه الكيفية، لا يسمح في المجال لإظهار موقفي بشكل واضح: هل أنا ضد أو مع؟ خصوصا أنا المحسوب على تيار الحداثة والعقلانية. لكن يتناسى مثل هؤلاء - إن وجدوا - أن النقد يبدأ كخيار شخصي مرتبط بالمكون الثقافي والروحي والنفسي والظرفي للشخص ذاته، لكنه عندما يتحول إلى خطاب داخل المجتمع يصبح النقد قيمة مشتركة بين جميع فئات المجتمع، وهذا ما لم يتجسد في مثل هذه الظاهرة. بيد أني مع حرية التعبير المرتبطة بالمسؤولية، وحرية النقد المرتبطة أولا وأخيرا بموضوعها ضمن حدود وسياق الدراسات التي تنتمي إلى حقل الموضوع ذاته، وكمثال على ذلك، عندما نتعرض نقديا للطقوس والعقائد يبرز أمامنا حقلان معرفيان، لا يمكن إغفالهما أو القفز على ما حققاه من نتائج في هذا المضمار حتى وإن كنا لا نتفق بالعموم مع هذه النتائج، الأول علم اجتماع الدين، وحقل الأنثروبولوجيا بجميع فروعه ثانيا. بينما لو كان الموضوع المنقود هو الدين نفسه فلا غنى من حقل فلسفة الدين، أو حقل تاريخ الأديان المقارن.
إذن المسألة بالنسبة لي لا تعني المعادلة التالية: نقد + طقوس وعقائد + مثقف = خطاب تنوير. هذه مغالطة كبرى، ترتكز بالأساس على مقولة أن الأيديولوجيا قادرة على أن تكون بديلا للدين التي راجت مع رواج علمانية عقلانية ملحدة.على العموم رغم كل ذلك فأنا لا أضع هذه المعادلة ضمن التابوهات المحرمة على التفكير النقدي بشكل عام.
المؤلف في سطور
شاعر وناقد سعودي
صدر له:
1 - دواوين "رجل يشبهني" ، "أخف من الريش أعمق من الألم"، "أسمال لا تتذكر دم الفريسة"، ودواوين أخرى.
2 - كتاب نقدي "شعرية الكتابة والجسد"، "القصيدة وتحولات مفهوم الكتابة"، وكتب أخرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.