لم تكن يومًا مدينة عادية في سجل التاريخ، ولم يكن سقوطها نهاية حكايتها، فمنذ أن كانت عاصمةً لأقوى إمبراطورية عرفها العالم القديم، وحتى تحوّلها في العصر الحديث إلى ساحة صراع وبقاء، ظل عنصر واحد ثابتًا: العقل النينوي. نينوى التي أنجبت مكتبة آشور بانيبال، أول أرشيف معرفي منظم في التاريخ، لم تفقد شغفها بالعلم رغم الخراب، فبين أزقة الموصل القديمة، وبعد سنوات من الدمار، ظهرت مشاهد غير متوقعة، بسطات كتب تحت أنقاض المنازل، طلاب يدرسون على ضوء المولدات، وشباب يحوّلون المقاهي الشعبية إلى قاعات تعليم رقمية. ومن الذئاب إلى الفساد.. العدو يتغيّر تاريخ نينوى القديم حافل بالتعامل مع بيئة قاسية، حيث الذئاب والضباع والثعابين جزء من المشهد الطبيعي، تلك البيئة لم تصنع الخوف، بل علمت الإنسان المراقبة والحذر وحسن التقدير واليوم تغيّرت الضواري، لكن المنطق بقي نفسه، فالذئاب الحديثة لم تعد تسكن البراري، بل تتخفى في الفساد، وسوء الإدارة، والتطرف الفكري. ومع ذلك، لا يواجه أهل نينوى هذه التحديات بالصدام المباشر، بل بالصبر والعمل الصامت، فمن بين الركام، خرجت مبادرات تعليمية، ومشروعات صغيرة، وشبكات تضامن اجتماعي تعيد للمدينة توازنها المفقود. توبة نينوى.. وعي يتجدد قصة النبي يونس -عليه السلام- مع قوم نينوى تمثل حالة فريدة في التاريخ الديني؛ أمة أدركت خطأها قبل فوات الأوان.. أمة تابت توبة جماعية قبل وقوع العذاب.. واليوم، يعود هذا المعنى بشكل مختلف، حيث يشهد المجتمع النينوي مراجعات عميقة لتجربة العنف والدمار، والعودة إلى قيم العمل، والعلم، والتعايش.. يقول أحد وجهاء الموصل: «نحن لا نبحث عن معجزة، نحن نعيد ترتيب أنفسنا فقط». نينوى مرآة العراق ما تمرّ به نينوى اليوم هو صورة مكثفة لواقع العراق بأكمله.. دولة أنهكتها الأزمات، لكنها لم تفقد ذكاءها الجمعي، ولا قدرتها على النهوض، فكما بنت نينوى القديمة حضارتها وسط الرمال المتحركة، يحاول العراق اليوم بناء مستقبله وسط رمال سياسية واقتصادية لا تقل اضطرابًا.. نينوى لم تمت، لأنها ببساطة لم تكن حجرًا ولا سورًا، بل فكرة، وفكرة نينوى، كلما سقطت.. عادت أكثر وعيًا.