قد يكون الإنسانُ قويَّ الجسد، عاقلَ المنطق، فصيحَ اللسان، لكنه إذا لم يعرف الرفقَ خَسِرَ سرَّ الإنسانية الذي به تُصان العلاقات وتُعاش الحياة، إن بين الزوجين مسافةً خفية لا تُقاس بخطى الجسد، بل بخطى القلب، فإذا عبَراها بالرفق، انمحى بينهما البُعدُ حتى ليصيرا كروحٍ واحدةٍ في جسدين. إن الرفقَ هو الفهم العميقُ للطبيعة البشرية حين تضعف وتغضب وتخاف وتحتاج أن تُحتَضن لا أن تُدان، وهو القانون غير المكتوب الذي تُدار به المودة دون أن يرفع أحدهما راية السيادة على الآخر، فما أثقلَ الحياة حين تُدار بمنطق الحقوق، وما أيسرها حين تُساق بعبق الرحمة!. إن التعامل الحسن بين الزوجين ليس سلوكًا اجتماعيًّا فحسب، بل هو ضربٌ من الحكمة، يُوازن بين العقل والعاطفة، بين الهيبة واللين، بين أن تقول وأن تصمت، بين أن تنتصر وأن تسامح، الزوج الذي يُحسن معاملة زوجته لا يقدم خدمة، بل يُكرم قلبه، لأن العطف لا يُهين الكريم، بل يعلو به، والزوجة التي تُقابل خطأ زوجها بالصبر والحنان لا تُظهر ضعفًا، بل تُثبت أن الرقي لا يُقاس بالصوت المرتفع، بل بقدرة الروح على الاحتواء، فالعلاقات تُبنى بالكلمات الصغيرة لا بالعهود الكبرى، كلمة «لا بأس» بعد غضب، أو «أنا أفهمك» في لحظة سوء، قادرةٌ أن تُنقذ سفينة عمرٍ من الغرق، ولحظة حنانٍ تُبدّد فيها قسوة اليوم تُعيد للحبّ أنفاسه وتُذكّر القلب بسبب وجوده. التعامل الحسن لا يَعِد بالخلود، لكنه يُعطي العلاقةَ قابليةً للدوام، ويجعل الأيام مهما طالَت تبدو كأنها لحظة واحدة من صفاءٍ مستمر، إن الرفق لا يعني الضعف، بل الوعي، هو اختيار الإنسان أن يكون رحيمًا وهو قادرٌ على أن يكون قاسيًا، وأن يُمسك الكلمة وهو قادرٌ على أن يُطلقها، وأن يرى في ضعف الآخر مرآةً لضعفه هو. بهذا المعنى، الرفق ليس تربية سلوك، بل تهذيب وجدان، هو تمرينٌ على التواضع أمام إنسانية الآخر، وإقرارٌ بأن الغضب لحظة، أما أثره فعمر، وليس الرفق مجرد تصرف جميل، بل فلسفةُ عيشٍ كاملة، إدراكٌ أن القسوة لا تُغير السلوك بل تكسِر الروح، وأن الصمت الحاني أبلغُ من ألف احتجاج، وهو أيضًا وعيٌ بأن كل نفسٍ تحمل جرحًا قديمًا، وأن الرفق هو البلسم الذي لا يُظهر فخر الطبيب، بل شكر المريض؛ ولهذا كان الرفقُ بين الزوجين ذروة النضج الإنساني، إذ فيه يختار المرء أن يكون سببَ راحة لا مصدرَ ألم، وأن يُعين على الضعف لا أن يستغله. ومن أقبح ما يُناقض هذا الرفقَ ويفسد نوره أن يمد الرجل يده على زوجته، تلك اليد التي خُلقت لتُمسك، لا لتؤذي، لتواسي، لا لتُهين، لتُربت على التعب لا لتُحدث وجعًا، إن الضربَ ليس حزمًا بل عجز، وليس رجولةً بل سقوطٌ في درك الحيوانية، فالمرأة التي أكرمها الله بأن تكون سكنًا، لا تُهان في بيتٍ يُفترض أن يكون مأمنها. لقد أنكر النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك إنكارًا شديدًا، فقال في الصحيح: «أيضرب أحدُكم امرأتَه كما يُضرَب العبد، ثم يُجامعها في آخر اليوم!»؛ عجبًا من جمع الأذى والوصال في يومٍ واحد!، وقال أيضًا (صلى الله عليه وسلم): «لا يضرب خيارُكم»، فقرن الخيرية بسلامة اليد من الأذى، وجعل الكفَّ التي تضرِب كفًّا لا تعرف الكرامة، وما أبلغ قوله الآخر حين قال في خطبة الوداع وهو يودّع الدنيا ويُودعها قِيَمَها: «استوصوا بالنساء خيرًا»؛ إذ لم يقل «عاملوا»، بل قال «استوصوا»، أي ليكن الخير فيكم لهنّ وصيةً دائمة لا طارئة، الضرب لا يُقيم بيتًا بل يهدمه في السر، وإن ظل قائمًا في العلن، إنّه يُطفئ الاحترام في عين المرأة، ويزرع الخوف مكان المودة، ويحول المساكنة إلى إقامةٍ قسريةٍ بلا دفء. ما أعجز الرجلَ الذي يظن أن هيبته لا تقوم إلا على الألم، فإن الهيبة الحقة في القدرة على الرحمة، لا في القدرة على الإيلام، ولو كان في الضرب خيرٌ لفعله أرحمُ الخلق (صلى الله عليه وسلم)، وقد عاش مع أزواجه ما عاش، فما رفع عليهن يدًا قط، بل كان يرفق، ويصبر، ويبتسم، ويقول: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي».. فهل من رجولةٍ أعظم من رجولةٍ تشبه نبيًّا؟، وللرفق قدرةٌ عجيبة على تحويل الصراع إلى حوار، والغضب إلى تواصل، والحياة المشتركة من عادةٍ إلى عبادةٍ سرية. حين تُصبح الكلمة الحانية عادة، والنظرةُ الطيبة طبعًا، يتحول البيت إلى مكانٍ تُشفى فيه النفوس بدل أن تُستنزف، وحين يُصبح الرفق جزءًا من النَفَس اليومي، يزول الخوفُ من الخطأ لأن كلّ خطأٍ يجد غفرانه قبل أن يُحاسَب عليه، والرفقُ في جوهره موقفٌ فلسفيٌّ عميق، لا يُجسّد التنازل بل يعبّر عن السيادة على الذات، فمن ملك نفسه عند الغضب فقد بلغ ذروة القوة، ومن ملك لسانه ويده فقد عرف الطريق إلى السلام. ولذلك قال النبي (صلى الله عليه وسلم): «ما كان الرفقُ في شيءٍ إلا زانه، ولا نُزع من شيءٍ إلا شانه»، كأنه يقول: الرفق ليس خيارًا تجميليًّا بل قانون الجمال نفسه، الزينة التي تُنقذ كلّ موقفٍ من القُبح وتعيد لكل علاقةٍ وجهها المشرق، ومن تأمل هذا المعنى أدرك أن الرفق ليس بين الزوجين وحدهما، بل بين كل قلبين تَماسا يومًا بالمودة، فهو شرطُ البقاء الإنساني قبل أن يكون شرطَ الزواج. وحين تنطفئ السنوات في جسد العلاقة، يبقى الرفق وحده يُنعشها من رمادها، هو الذي يُعيد الابتسامة بعد طول صمت، ويجعل من الغفران عادةً لا تنازلاً، ومن العتاب طريقًا إلى مزيدٍ من القرب، إن الرفق هو الحب وقد بلغ رشده، وهو الحنان وقد تخلى عن الطيش، وهو العقل حين يتوضأ بالعاطفة، الذين يعيشون بالرفق لا يربحون كل نقاش، لكنهم يربحون دوام السكينة، ولا ينتصرون في كل جدال، لكنهم يربحون قلوبًا تبقى، وما قيمة النصر إذا خسر الإنسان قلب من يُحب؟!. الرفق هو الحكمة التي تُبقي النصرَ الحقيقي في جهة السلام، لا في جهة الجدل، وهكذا يبقى الرفق بين الزوجين فلسفةَ حياةٍ قبل أن يكون خُلقًا، ووعيًا قبل أن يكون عادة، ومفتاحًا للمحبة التي لا تذبل، هو الصمت الذي يفهم، والنظرة التي تعتذر، والابتسامة التي تقول دون كلام: «ما زلتُ أختارك، رغم كل شيء».