في زمنٍ صار فيه الطريق إلى الشهرة يأتي مع ومضة عدسةٍ أو فلاش كاميرا، امتلأت منصّات التواصل الاجتماعي بأسماءٍ تعرف كيف تُدير الكاميرا، وتختار الزاوية، وتجمع المتابعين بالمؤثرات والموسيقى والضحكات والمواقف والمقالب والعروض المصطنعة. لكنّ هناك نوعًا آخر من الشهرة لا تُصنع بالإعلانات ولا بالترندات، بل تفرضها الأقدار حين يسكت الجسد ويبقى الأثر حيًّا... تلك هي الشهرة بعد الموت، حين يتحدث الصمت وتصبح الذكرى هي الصوت الأعلى. مغامرون لم تُعرف قصصهم إلا بعد رحيلهم في منطقة عسير بالمملكة العربية السعودية، وبين قممها المهيبة، رحل مغامران أحبّا الطبيعة وفتنتهما الجبال بسحر تكويناتها الجذّابة. أحدهما لقي حتفه في جبال سلطنة عُمان، والآخر في جبال "الحَبْلة" بمحافظة أحد رفيدة. كلاهما خرجا بحثًا عن لحظات المتعة في تسلّق الجبال، واستكشاف التكوينات الصخرية والأشجار الجميلة والمتنوّعة بين الصخور، واستنشاق عبير الطبيعة برائحة الأشجار ذات العبق الزكي، لا بحثاً عن الأضواء والشهرة. كانا يعيشان جمال المغامرة بصفاءٍ نادر، لكنّ القدر شاء أن تُعرف قصتهما بعد الرحيل. وفجأة، امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بصورهما، وتصدّرت مقاطعُهما قوائم الترند، وتحوّل صمتهما إلى ضجيجٍ من المقاطع والشيلات المركّبة على مشاهد مغامراتهما، تلك التي لم تُنشر من قبل إلا على نطاقٍ ضيّق داخل مجتمعهما الخاص. وكأنّ الرحيل كان بوابة الضوء الأخيرة في حياتهما. شهرة لا تُخطّط وذكرى لا تُنسى الشهرة بعد الموت ليست مجدًا دنيويًا، ولا نفعًا ماديًا، لكنها أثر صادق يوقظ في الناس الدعاء بالرحمة لمن توفي. فكم من مقطع قديم محدود المشاهدة صار بعد الوفاة شاهدًا على صدق صاحبه، وكم من صورة ألهبت القلوب حزنًا وترحّمًا. هي شهرة لا تدرّ مالًا، لكنها تثمر دعاءً صادقًا، والدعاء للراحلين هو أفضل مكسبٍ بعد الممات. وربّ مغامرٍ خرج يبحث عن لحظات المتعة في أحضان الجبال، بين الصخور الصمّاء وألوان الطبيعة الفاتنة، فصار بعد رحيله رمزًا للذكرى التي أحيت الدعاء بالرحمة له، وذكَره الناس بدعاءٍ خالصٍ لا رياء فيه ولا مجاملة. ذلك الدعاء الذي لا يحتاج إلى ترند ولا إعلانٍ مدفوع، بل هو المكسب الحقيقي بعد الممات. حين تُصبح المغامرة مسؤولية ومع كل هذا، تبقى الحاجة ماسة إلى تنظيمٍ واضحٍ من وزارة الرياضة والجهات المعنية، بحيث لا تُترك هذه المغامرات دون ضوابط أو مسارات آمنة ومعروفة. نرجو أن تُحدَّد المسارات الجبلية المصرَّح بها، وتُمنع المناطق الوعرة التي قد تُعرّض الأرواح للخطر، كما حدث في الحالتين اللتين شهدناهما في عسير وعُمان. فالمغامرة متعة، نعم، لكنها لا تكتمل إلا حين تكون محكومة بالوعي والسلامة، حتى لا تتحول لحظات الجمال إلى فواجع تملؤها الدموع والندم. هكذا هي الحياة... قد تُخفيك الأضواء وأنت حيّ، وتكشفك السماء بعد موتك. وقد تُغلق الكاميرات، لكنّ الذكرى لا تُغلق قلبها. فمن الناس من عاش مشهورًا ثم نُسي، ومنهم من عاش بسيطًا فصار بعد موته مشهورًا وحديث وطنٍ بأسره. رحم الله من رحلوا وبقيت آثارهم تلهج بها الألسن، وتُزهر بها الدعوات في ظهر الغيب... فلعلّ تلك الشهرة بعد الموت ليست إلا رسالة من الله بأن العمل الصادق لا يموت.