أثناء زيارتي لمدينة الأحساء، تلك الجوهرة المتربّعة على صدر الشرق العربي، شدّني عبق التاريخ الذي يتسرّب من بين جدرانها الطينية، ودفءُ النخيل الذي يروي حكاياتٍ لا تنتهي عن الإنسان والماء والأرض الخصبة. لم تكن زيارتي مجرّد جولة سياحية، بل كانت رحلة في أعماق الزمن، حيث تتحدّث الأرض عن ماضٍ عريقٍ سكنته حضاراتٌ تركت بصمتها على وجه التاريخ العربي والإسلامي. مسميات الأحساء عبر العصور عرفت الأحساء منذ أقدم العصور باسم «هَجَر»، وهو الاسم الذي ورد في النقوش القديمة ودوّنه المؤرخون العرب والرحالة المسلمون. كانت هَجَر من أبرز حواضر مملكة دلمون، مثل جزيرة البحرين وجزيرة تاروت وجزيرة فيلكا وغيرها. وهي المراكز التي شكّلت معًا شبكةً حضاريةً مزدهرة على امتداد الخليج العربي، حيث ازدهرت فيها التجارة والملاحة والصناعات الفخارية والنحاسية منذ الألف الثالث قبل الميلاد. ومع تطوّر الزمن واتساع واحتها الخضراء، غلب على المنطقة اسم الأحساء، نسبةً إلى كثرة عيونها المائية وخصوبة أراضيها، حتى أصبحت تُعرف بواحة النخيل والماء والعمران. حضارات الأحساء القديمة من حضارة الجرهاء التي اشتهرت بالتجارة والعطور واللبان، إلى مملكة دلمون التي كانت حلقة الوصل بين حضارات وادي الرافدين ووادي السند، مرورًا بالدولة القرمطية التي اتخذت من الأحساء مركزًا لحكمها في القرن الثالث الهجري، والتي اشتهرت بانحرافها الفكري وخروجها عن منهج الإسلام، ثم الدولة الجبرية التي ورثت نفوذ القرامطة في القرن التاسع الهجري، ظلّت الأحساء منارةً حضارية وموطنًا للدول التي امتلكت الثراء والسلطة والمعرفة. وقد ساهم موقعها الجغرافي في جعلها منطقة جذبٍ لكافة الحضارات، فهي تقع على ملتقى طرق التجارة القديمة، وتتميّز بتربتها الخصبة ووفرة مياهها التي جعلت منها أكبر واحةٍ نخيلية في العالم. جبل القارة المعجزة الصخرية ومهد الشعر الجاهلي قبل بزوغ الإسلام، كانت منطقة القارة أو حجر الأحساء أحد أبرز المواطن التي نشأ فيها الأدب والشعر الجاهلي، وفيها وُلد الشاعر طَرَفة بن العبد البكري، أحد أصحاب المعلقات السبع، صاحب المعلقة التي يقول في مطلعها: لِخَولَةَ أَطلالٌ بِبُرقَةِ ثَهمَدِ تَلوحُ كَباقي الوَشمِ في ظاهِرِ اليَدِ ولجبل القارة حضورٌ فريد في الذاكرة الطبيعية والثقافية للأحساء، إذ يمتد عمره الجيولوجي إلى أكثر من 25 مليون سنة. يقع في وسط الواحة تقريبًا، ويتميّز بتكوينه الصخري ذي الممرات والكهوف الباردة صيفًا والدافئة شتاءً، مما جعله ملاذًا طبيعيًا للسكان ومقصدًا للرحالة منذ العصور القديمة. وقد ورد ذكره في بعض كتب الجغرافيين كأحد معالم هَجَر البارزة، وهو اليوم أحد أهم المواقع المسجّلة في قائمة التراث العالمي لليونسكو، بما يمثله من جمال طبيعي وعمق تاريخي يشهد على عراقة الأحساء وعبقرية تكوينها. مسجد جواثا ثاني جمعة في الإسلام مع بزوغ فجر الإسلام، كانت الأحساء سبّاقةً إلى الإيمان، إذ دخل أهلها من قبائل عبد القيس في الإسلام طواعيةً ومحبةً من غير قتال، حين وفد وفدُهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنوّرة، فبايعوه على الإسلام والسمع والطاعة، وأكرمهم النبي صلى الله عليه وسلم وبعث معهم من يعلّمهم أمور دينهم. وقد كان ذلك الحدث اختبارًا للإيمان واليقين؛ إذ أظهر أهل الأحساء صدق بيعتهم وثباتهم على الدين الجديد، فكانوا نموذجًا للمؤمنين الأوائل الذين استجابوا لله ولرسوله حبًا في الحقّ واتباعًا للنور. وبناءً على تلك البيعة المباركة، بنى بنو عبد القيس مسجد جواثا في صدر الإسلام، ليكون ثاني مسجدٍ تُقام فيه صلاة الجمعة في الإسلام بعد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنوّرة. وقد ذكره الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بقوله: «أوّل جمعةٍ جُمعت بعد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجواثا». فكان مسجد جواثا شاهدًا خالدًا على صدق الإيمان وثبات العقيدة في أرض الأحساء، ودليلًا على أن هذه الواحة لم تكن فقط مهد حضاراتٍ مادية، بل منارةً روحيةً للإسلام منذ فجره الأول. قصر إبراهيم شاهد الطين والحجر من أبرز المعالم التاريخية في الأحساء قصر إبراهيم، الذي يُعدّ من أهم الحصون العثمانية في شرق الجزيرة العربية. شُيّد في أواخر القرن العاشر الهجري (حوالي عام 1556م)، وجُدّد لاحقًا في عهد الدولة السعودية الأولى. وقد خضعت الأحساء لحكم الدولة السعودية الأولى في عهد الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، وعيّن الإمام القائد إبراهيم بن عفيصان حاكمًا على الأحساء، فنُسب القصر إليه وسُمّي منذ ذلك الحين قصر إبراهيم. ويُظهر القصر عمارةً تجمع بين الطراز العسكري الإسلامي والعناصر المحلية، ففيه الأبراج والأسوار العالية والبوابات المقوسة والمسجد ذو القبة الضخمة والمئذنة الأسطوانية الفريدة. وكان القصر مقرًا للحامية العثمانية، ثم أصبح بعد دخول الملك عبد العزيز مركزًا للإدارة والقيادة، وشاهدًا على انتقال الأحساء من العهد العثماني إلى العهد السعودي الموحّد. معركة ضمّ الأحساء وقصر البيعة في عام 1331ه / 1913م دخل الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود الأحساء بعد معركةٍ حاسمة، فأنهى حكم العثمانيين في المنطقة، وأعادها إلى كنف الدولة السعودية. وفي قصر البيعة، بايع وجهاء الأحساء وقادتها الملك عبد العزيز على السمع والطاعة، فكان ذلك الحدث مفصلًا في تاريخ توحيد المملكة، وبداية عهد جديد من الأمن والوحدة والبناء. وبعد دخول الملك عبد العزيز إلى الأحساء وتوحيدها تحت راية الدولة السعودية الحديثة، عيّن سموه الأمير عبد الله بن جلوي بن تركي آل سعود أميرًا على الأحساء، فكان أول أميرٍ لها في العهد السعودي الحديث. وقد عُرف الأمير عبد الله بحكمته وعدله وشجاعته، فاستتب الأمن في أرجاء الواحة، وانتظمت إدارتها، وأصبحت الأحساء إحدى الركائز المهمة في بناء الدولة السعودية الحديثة. القنوات المائية الحديثة في عهد الملك فيصل (1968 – 1971) في عهد الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود – رحمه الله –، شهدت الأحساء مشروعًا رائدًا لتحديث شبكة الريّ والصرف. ففي عام 1968م وُقّع عقد التنفيذ مع شركة فيليب هولزمن الألمانية (Philipp Holzmann AG) لإنشاء نحو 900 ميلٍ من قنوات الريّ الخرسانية و900 ميلٍ من مصارف الصرف، إضافةً إلى محطات ضخّ ومصنع لإنتاج القطع الخرسانية المسبقة، وذلك بتكلفةٍ تقارب 51 مليون دولار أمريكي. اكتمل المشروع عام 1971م، وأُنشئت بعده هيئة الريّ والصرف بالأحساء (المؤسسة العامة للريّ حاليًا) لتشغيله وإدارته. وقد شارك أبناء الأحساء في تنفيذ المشروع تحت إشراف المهندسين الألمان، فكان ذلك نقلةً زراعيةً كبرى حافظت على استدامة خضرة الواحة ورفعت إنتاجها الزراعي، مجسّدًا رؤية الملك فيصل في تحديث الزراعة واستثمار الماء كعنصر حياةٍ وتنمية، وبذلك أصبحت واحة الأحساء نموذجًا للتكامل بين عراقة التاريخ وازدهار التنمية الحديثة. الأحساء اليوم امتداد التاريخ وموئل الثقافة تُعدّ الأحساء اليوم واحدة من أهم مناطق التراث العالمي المسجّلة في اليونسكو، بما تمتلكه من مواقع أثرية وتاريخية فريدة مثل قصر إبراهيم، وجبل القارة، ومسجد جواثا، وقنوات الريّ الحديثة، وقرى الزراعة الطينية التي تحتفظ بهوية العمارة العربية الأصيلة. كما أن أبناءها يواصلون مسيرة العطاء في مختلف المجالات، ليؤكدوا أن واحة الأحساء ليست مجرد أرضٍ خضراء، بل حضارةٌ نابضة بالحياة، ومهدٌ للتاريخ والثقافة والإنسان. خاتمة الأحساء أرض الماء والنخيل، وموطن النور والعلم، شهدت قيام حضاراتٍ سادت ثم مضت، وبقيت هي واحة العراقة والخلود، تحكي للأجيال قصة الإنسان العربي الذي صنع من الرمل خضرة، ومن الطين حضارة، ومن الإيمان مجدًا خالدًا على صفحات التاريخ.