حين دخل الإنترنت قاعاتنا الجامعية كنّا نريد حماية «الأصالة»، فتركنا الباب مواربًا للخوف، ثم ما لبثنا أن فتحناه على مصراعيه بلا قواعد. تعلّمنا متأخرين أنّ المشكلة لم تكن في الأداة، بل في طريقتنا في استخدامها. اليوم يعيد الذكاء الاصطناعي المشهد نفسه بوتيرةٍ أسرع وأعمق؛ لم يعد مجرّد مُصحّحٍ لغوي، بل صار جزءًا من ماكينة إنتاج المعرفة: من قراءة الأدبيات وصياغة الأسئلة، إلى تصميم التجارب وتحليل البيانات وكتابة النتائج. والسؤال لم يعد «هل نسمح أم نمنع؟» بل «كيف نستثمر هذه القوة في الرقيّ بالبحث العلمي، ونغلق فجوات سوء الاستخدام بقوانين واضحة، ونرفع الجودة ونسرّع الإيقاع من دون خوفٍ أو إقصاء؟». أوّل ما نحتاجه هو قلب زاوية النظر؛ الذكاء الاصطناعي ليس بديلًا عن الإنسان، بل مُضاعِفٌ لفاعليته عندما يُحسَن توجيهه، حين يختصر ساعات المسح الببليوغرافي، ويقترح مسارات تحليل، ويصقل العبارة، فإنّ ما يمنحه لنا ليس طريقًا مختصرًا إلى الشهادة، بل وقتًا مستعادًا للفكرة والحجّة والتجربة. المشكلة تبدأ حين نترك الأداة تملي علينا ما ينبغي أن نفكّر فيه، أو نعامل نصًّا مُنمّقًا بوصفه نتيجةً مكتملة. هنا تتدخّل القاعدة الذهبية: كلّ ما ينتجه الذكاء الاصطناعي يظلّ مسودةً حتى يُراجَع بعينٍ بشرية، ويُسنَد إلى مصدرٍ أولي، ويُختبَر في تجربةٍ قابلةٍ للإعادة. ولكي يتحوّل هذا المبدأ الأخلاقي إلى ممارسةٍ يومية، نحتاج سياجًا قانونيًا واضحًا لا يتركنا بين فزّاعة المنع وفوضى الإطلاق. قوانين حماية البيانات يجب أن تكون خطًّا أحمر لا يختلف عليه اثنان؛ بيانات البشر لا ينبغي أن تعبر إلى منصّاتٍ عامة من دون إذنٍ صريحٍ وحوكمةٍ واضحة، والجامعة مسؤولة عن تشغيل أدواتها عبر بوّاباتٍ مؤسسيةٍ آمنةٍ بسجلات تدقيقٍ وضوابط وصول. ومع القانون تأتي الشفافية؛ فمن حقّ القارئ والمحرّر والمموّل أن يعرف أين استخدم الباحث الأداة، وبأي إصدار، وماذا أضافت، وكيف تحقّق منها. الإفصاح هنا ليس إجراءً تجميليًا، بل جزءًا من أخلاقيات البحث مثل الإفصاح عن المنهج الإحصائي تمامًا. على المستوى العملي يمكن تحويل الذكاء الاصطناعي إلى «رافعةٍ» للجودة لا إلى عبءٍ أخلاقي؛ في قراءة الأدبيات يساعد على بناء خرائط مصغّرةٍ للمجال، لكنّ القرار حول ما يدخل إلى مراجعتك المنهجية يظلّ قرارًا بشريًا يستحضر معيار الشمول والدقّة؛ وفي التحليل يمكن أن يقترح نماذج بديلة ويكتشف أنماطًا أولية، لكنّ صلاحية النموذج تُحسم في اختبارٍ يوضّح الفرضيات وحدود التعميم؛ وفي الكتابة يلمّع الأسلوب ويعالج التباين بين لغتين أو أسلوبين، لكنّ قوّة النص تُقاس بسلامة الاستدلال والرجوع إلى مصادر موثوقة، لا بسلاسة العبارة وحدها؛ بهذه الروح يصبح الذكاء الاصطناعي خادمًا للطريقة العلمية، لا سيّدًا عليها. جامعاتنا قادرة على أن تقود هذا التحوّل إذا نقلت السياسات من الورق إلى المختبر والمدرّج؛ قاعدةٌ صريحةٌ تعلن أنّ الأداة لا تُنسب مؤلِّفًا، وأنّ الإفصاح عن مواضع استخدامها إلزامي، وأنّ أي نصٍّ أو كودٍ أو نتيجةٍ توليديةٍ لا تُعتمد من دون تحقّقٍ بشريٍّ قابلٍ للإعادة؛ بنيةٌ تقنيةٌ آمنة تُشغَّل عبرها النماذج داخل المؤسسة بدل الاتّكال على منصّاتٍ لا نملك حوكمتها؛ دفاترُ عملٍ تحفظ الأوامر والإعدادات ومسارات البيانات، بحيث يستطيع باحثٌ ثانٍ أن يعيد الطريق خطوةً خطوة؛ واختباراتٌ دوريةٌ لانحياز الأدوات وأدائها على مهمّاتٍ تخصّصيةٍ في الطب والهندسة والعلوم الإنسانية، تُعلَن نتائجها لكي نعرف أين تنفع الأداة وأين تُقيَّد؛ عند هذه النقطة تتبدّل الثقة من شعارٍ جميلٍ إلى نظام تشغيلٍ يُحاسِب ويُطوّر. ولأنّ البحث لا يزدهر بلا معلّمٍ حيّ، يبقى الأستاذ الجامعي حجر الزاوية. دوره ليس أن يحرس الباب ولا أن يروّج لكلّ جديد، بل أن يصنع ثقافة الاستخدام داخل القسم. الأستاذ الذي نحتاجه يُري طلابه علنًا كيف تنتقل مسوّدةٌ مُنمّقة إلى نصٍّ مُسنَد: يعود إلى المصادر الأولى، يضع ادّعاءه تحت ضوء الأساليب الإحصائية، يختبر بدائل التفسير، ويكتب «ملف إفصاح» واضحًا كما يكتب منهج البحث. في الإشراف يفرض دفاتر عملٍ تُسجّل الأوامر وإصدارات النماذج وخطوات المراجعة، ويحمي خصوصية المشاركين بمنع عبور أي بياناتٍ حسّاسةٍ إلى منصّاتٍ عامة، ويغرس عادة «التثبّت مرّتَين» قبل كلّ استنتاج. وهو شريكٌ في الحوكمة؛ يصوغ صيغ الإفصاح الموحّدة، ويقود مبادرات بناء مجموعات بياناتٍ عربيةٍ متوازنة، أو تطوير نماذج متخصّصة في مجاله، حتى لا تبقى الجامعة مستهلكًا سلبيًا لأدواتٍ لا تعرف حدودها. ولطلبة الدراسات العليا الذين يقرؤون هذه السطور، الرسالة واضحة: الذكاء الاصطناعي ليس اختصارًا للمنهج ولا التفافًا على الجهد؛ هو إعادة توزيعٍ للوقت على ما يهمّ حقًا. الساعات التي يوفّرها في المسح الببليوغرافي وإدارة المراجع وصقل اللغة ينبغي أن تعود إلى صياغة السؤال، وبناء الحجّة، وخطة تحليلٍ قابلةٍ للإعادة، وتوثيقٍ دقيقٍ يشرح أين دخلت الأداة وماذا أضافت وكيف تحقّقتَ منها. معيار الجودة في زمن ما بعد الفصاحة لم يعد حسن العبارة، بل وضوح الخطوات، ونظافة البيانات، وقابلية أن يعيد باحثٌ آخر الطريق نفسه ويحصل على النتيجة ذاتها. بهذه المعايير تُختصر الطريق إلى النشر، لا المنهج. لسنا بصدد حربٍ جديدةٍ مع أداةٍ جديدة؛ نحن أمام فرصةٍ ناضجةٍ لنكتب قواعد زمننا بضميرٍ يقظ. نستثمر الذكاء الاصطناعي فيما يُحسن القيام به لخدمة البحث العلمي، نسدّ الفجوات بقوانين واضحةٍ تُلزم بالإفصاح وتحمي البيانات وتُبقي المسؤولية على الإنسان، نرفع جودة البحوث وقابليتها للإعادة والنشر، ونسرّع إيقاع الاكتشاف من غير أن نخسر المنهج أو نُقصي الأداة خوفًا منها. المعرفة لا تنتظر من يُنكرها؛ تمضي مع من يعقلها ويجعلها سبيلًا للنفع.