في زمنٍ كانت فيه الكلمة الشعرية عنوانًا للحكمة والتلاحم الاجتماعي، تحوّل مشهد المحاورة اليوم إلى خليطٍ من الفن والفتنة. فهذا الفن الشعبي العريق، الذي مثّل يومًا ساحةً راقيةً للتعبير عن الكرم والشجاعة والاعتدال، انزلق في بعض ميادينه إلى التراشق والتجريح وإثارة النعرات، حتى بات يُستخدم أحيانًا لتصفية الحسابات بدل أن يكون منبرًا للجمال والوعي. وفي ظل تضخيم وسائل التواصل الاجتماعي هذه المحاورات، وتحويلها إلى «ترند»، اندفع بعض الشعراء نحو الاستفزاز طلبًا للشهرة، ولو كان الثمن تمزيق النسيج الاجتماعي. لقد حذّر خبراء الأدب الشعبي من هذا الانحراف، مؤكدين أن المحاورة حين تنفصل عن قيمها الأخلاقية تتحوّل من فنٍّ رفيع إلى أداة هدم، تُزكي العصبية وتزرع الانقسام. خطورة ما يحدث لا تتعلق بالذوق أو التسلية فحسب، بل تمسّ جوهر الوحدة الوطنية. فحين يُستخدم الشعر لتعميم الأخطاء الفردية أو إطلاق الألقاب الجارحة أو كشف الخصوصيات، تتحول الكلمة إلى شرارة تثير الكراهية وتفسد الذوق العام. ومن هذا المنطلق تبرز الحاجة إلى وقفة مسؤولة تعيد المحاورة إلى مكانتها الأصيلة، فالكلمة ليست وسيلة للفتنة، بل جسر للتقريب وبناء القيم. وعلى الجهات المعنية كوزارة الثقافة والهيئة العامة لتنظيم الإعلام تفعيل الأنظمة التي تجرّم الطعن في الأنساب، وإثارة النعرات القبلية والعنصرية، وتنظيم ساحة المحاورة بحيث لا يمارس هذا الفن إلا من يحمل رخصة مهنية، تضمن النضج والالتزام الأدبي. يبقى شعر المحاورة إرثًا جميلًا متجذرًا في وجدان المجتمع. غير أن صونه لا يتحقق إلا بإعادة الاعتبار لجوهره الأخلاقي والإنساني، فالمجتمع لا يحتاج إلى قصائد تُحوِّل الميادين إلى ساحات نزاع، ولا إلى شعرٍ يُؤجِّج الفتن ويزرع الشقاق، بل إلى كلماتٍ تُنعش روح الساحة الشعرية، وتُعيد إنتاج قيم الاحترام والتآخي، وتُرسِّخ الذائقة الرفيعة التي تليق بتاريخنا وتراثنا العريق.