في كل عام يعود «أسبوع الفضاء العالمي» ليذكر الإنسان بأنه لم يُخلق ليكتفي بالنظر إلى السماء، وإنما ليمد إليها فكره وخياله، وهذا العام كان للمملكة موعد مختلف مع الفضاء، ليس عبر التلسكوبات أو المختبرات فحسب، وإنما عبر الوعي الذي تصنعه وكالة الفضاء السعودية في عقول الجيل الجديد، وطمأنينة الثقة التي تبثها في أن المستقبل ليس غامضًا، وإنما قابل للفهم والاكتشاف. الذين يظنون أن الفضاء بعيد، لم يزوروا المدارس السعودية هذا الأسبوع؛ فهناك حيث الأطفال يرسمون الكواكب، والطالبات يتحدثن عن الجاذبية كأنها سر من أسرار الحياة اليومية، يكتشف المرء أن الفضاء لم يعد حلمًا فوق الغيوم، وإنما مادة حاضرة في المنهج وفي الخيال معًا، وفي الجامعات أيضًا تتشكل حلقات نقاش حول استدامة الحياة خارج الأرض، وتجد الأساتذة والطلاب منشغلين بالأسئلة نفسها التي تشغل العقول في ناسا أو وكالة الفضاء الأوروبية. وكل هذا لم يأتِ مصادفة فمنذ تأسيسها عملت وكالة الفضاء السعودية بهدوءٍ منظم على بناء قاعدة معرفية تُقرب العلم من الناس، والشاهد في ذلك أحدث مبادراتها بوابة «فضاء المعرفة» التي أطلقتها مؤخرًا على موقعها الرسمي كمنصة رقمية جديدة جرى تصميمها لتكون مكتبة مفتوحة لعشاق الفضاء، ومرجعًا للباحثين والطلاب، ومتنفسًا لأولئك الذين يجدون في الأسئلة متعة لا تقل عن الإجابات، إذ تتيح محتوى علميًا مبسطًا ومجانياً، وتجمع بين المقالات والفيديوهات والأنشطة التعليمية في تجربة تفاعلية شيقة، تجعل من يدخلها لا يبحث عن المعلومة فحسب وإنما يعيشها، فيكتشف أن التعلم يمكن أن يكون رحلة تحاكي روح الاستكشاف، وهكذا تُقدّم الوكالة نموذجًا لما يمكن أن تفعله التقنية حين تتلاقى مع الرؤية. ولأن الوعي لا يُبنى بالتثقيف وحده بل بالمشاركة أيضًا؛ جاءت النسخة الثانية من مسابقة «الفضاء مداك» عبر أكاديمية الفضاء التابعة للوكالة لتُعيد المعادلة إلى صوابها: لا علم دون تجربة، ولا اكتشاف دون فضول، فالمسابقة التي تستهدف الطلبة في الوطن العربي ليست مجرد تنافس على الإجابات الصحيحة، بقدر ما هي دعوة للخيال العلمي في أبهى صوره، واللافت في الحراك الذي تحدثه الوكالة أن التفاعل لم يقتصر على الجهات التعليمية، ولكن امتد إلى المجتمع بأسره، فحسابات المدارس، وإدارات التعليم، والجامعات السعودية وحتى حسابات شركات توصيل الطلبات مثل جاهز امتلأت بصور ومقاطع من فعاليات أسبوع الفضاء، في مشهد يعكس تعطّش الأجيال الجديدة إلى العلم والمعرفة، وإدراكها أن استكشاف الفضاء ليس حكرًا على الدول الكبرى، ولكنه أفق مفتوح أمام كل أمة تعرف طريقها نحو المستقبل. وبرأيي أن ما تفعله وكالة الفضاء السعودية في هذا السياق يتجاوز النشاط الموسمي، حيث إنها تُعيد تعريف علاقة المجتمع بالعلم، وتقدّم نموذجًا للمؤسسات التي تبني حضورها بالمعرفة لا بالصدى، فحين أطلقت الوكالة برامجها لم يكن الهدف أن تتحدث عن الفضاء من بعيد، ولكنه كان زرع جذوره في وعي الناس، وهكذا أصبحت المبادرات التعليمية جزءًا من حركة وطنية أوسع، تُمهّد الطريق لمستقبلٍ علميٍّ واعد تقوده العقول السعودية الشابة. ومن ينظر إلى خريطة المملكة اليوم؛ يرى في كل جامعة مدرسة أو نادٍ للفضاء نواة جديدة لفهمٍ مختلف للعالم، وحين يرفع الطالب رأسه إلى السماء بعد محاضرة أو ورشة عمل، يدرك أن ما يتعلمه ليس مادة نظرية، ولكنها بداية طريقٍ حقيقي نحو المساهمة في حضارةٍ كونيةٍ تتشكل من جديد، فأسبوع الفضاء في المملكة ليس احتفالًا بقدر ما كان مرآةً لطموحٍ يتسع مع كل مبادرة، ويكبر مع كل جيلٍ يتعلّم أن الفضاء ليس بعيدًا عن حياته، وأن الأمم حين تتقدّم بالمعرفة يكون طريقها إلى السماء أقصر مما نتصور.