الفلسفة ليست «أم العلوم» وليست مقدمات جريئة للعلم الحديث، والاعتقاد أن أساطير الشعوب الإغريقية امتداد للعلم اعتقاد خاطئ، يكشف تجليات «المركزية الأوروبية» وكيف تحصر العلوم الحديثة في سياقات ثقافية محددة، يصنع لها خطا زمنيا تاريخيا يختزل العلوم ضمن ثقافة موحدة تنتمي لشعوب ذات أعراق «متفوقة وراثيا». في مقرر الكيمياء لطلبة صف «أول ثانوي»، وقع مؤلفو الكتاب في فخ «المركزية العلمية» دون وعي منهم، وكأنهم يرسخون فكرة أن الفلسفة هي أم العلوم فعلا، وأن التراث اليوناني يمثل مشتركا إنسانيا لكل شعوب العالم، فوضع مؤلفو الكتاب خطا زمنيا يبدأ من الإغريق ولا يتجاوزهم. كلنا نعرف أهمية المادة «Matter» بالنسبة لعلم الكيمياء فهي ببساطة الأساس الذي تدور حوله الكيمياء كلها، وبما أن المقرر للصف الأول ثانوي يعد مقررا تأسيسا لعلم الكيمياء، فالطبيعي أن يطرح مقدمات تاريخية لتطور مفهوم «المادة» في الفكر الإنساني القديم، ولكن المقرر لم يخرج قيد أنملة عن التراث اليوناني ووضع خطا زمنيا لتطور مفهوم المادة يبدأ مع «ديموقريطوس» مرورا بأرسطو، ونهاية بجون دالتون. وهنا يرسخ الكتاب في منهجه التأسيسي أن الفلسفة فعلا أم العلوم. الفلسفة تراث يوناني مرتبط تاريخيا بمعتقدات الشعوب اليونانية الدينية، وأي أفكار ذات أصل يوناني تبدو في ظاهرها علمية وعقلانية ومتحررة، بينما هي في جوهرها دينية تعبر عن نظرتها للكون والحياة. ومعتقدات اليونان القديمة ليست علما أو امتدادا للعلم ولا يجب إخراجها عن سياقها، باعتبارها تراثا دينيا ليس إلا. الكتاب يضع عنوانا عريضا في مقدمته التاريخية للمادة: الفلاسفة الإغريق. ويقول مؤلف الكتاب: «وعندما تساءل هؤلاء الفلاسفة عن طبيعة المادة وضع كثير منهم تفسيرات قائمة على خبراتهم الخاصة، واستنتج كثير منهم أن المادة مكونة من أشياء كالتراب والماء والهواء والنار، لقد كان من المتفق عليه أن المادة يمكن تجزئتها إلى أجزاء أصغر فأصغر. ورغم أن هذه الأفكار الأولية كانت إبداعية إلا أنه لم تكن هناك وسيلة متوافرة لاختبار صدقها». يعتقد مؤلف الكتاب أن مفهوم «العناصر الأربعة» النار والهواء والماء والتراب، كان فكرة إبداعية ونتيجة لتفسيرات قائمة على خبرات الفلاسفة الخاصة، وبالتالي هو يخرجها من سياقها التاريخي وخلفيتها الثقافية، ويضعها على هيئة نظرية علمية قائمة على التجربة والملاحظة رغم نقص الوسائل لاختبار صدقها. وهنا يحق لنا أن نتساءل، هل لمفهوم «العناصر الأربعة» المكونة للكون والطبيعة -حسب معتقدات الشعوب الإغريقية- أي علاقة بمفهوم «المادة» كما يعرفه الكيميائيون في العصر الحديث؟ طبعا لا علاقة لفكرة العناصر الأربعة أو «الأسطقسات الأربعة» كما يسميها العلماء العرب كابن رشد وجابر بن حيان، فهي مجرد أسطورة دينية. يجب أن نعرف أن الفلسفة اليونانية فسرت العالم بطريقة متوافقة مع النظرة الدينية للكون، ككائن حي تحكمه قوى عليا. فعند الشعوب اليونانية ينظر للطبيعة والعناصر المكونة لها على أنها تحمل طابعا إلهيا أو تجسدا للآلهة، والعناصر الأربعة لم تكن مجرد مواد بل قوى كونية حية يعتقد أن لكل واحد منها علاقة بآلهة معينة أو قوى روحية خاصة بها. فالنار ترتبط بالإله «هيفايستوس» وهو إله النار والحدادة، والنار هنا تعتبر قوة خلق وتدمير في آن واحد وكانت جزءا من الشعائر الدينية مثل نار المذابح ونار الشعلة الأولمبية. والماء يرتبط بالإله «بوسيدون» إله البحار والأنهار، والماء عند الشعوب اليونانية يستخدم في الطهارة الدينية ويعد عنصرا مقدسا يطهر من الذنوب والآثام، وحتى الأنهار غالبا ما ينظر إليها باعتبارها تجسيدا للآلهة. وكل عنصر من العناصر الأربعة -الماء والتراب والنار والهواء- يرتبط بآلهة، والطبيعة إجمالا لها طابع الألوهية والقداسة في الموروث اليوناني. وإذا نظرنا إلى طقوس تطهير الموتى في الثقافة اليونانية القديمة نجدها غالبا ما تشمل «الماء والهواء والنار والتراب» على هيئة بخور أو شعائر احتراق والتراب في عملية الدفن، ما يبين مكانة هذه العناصر في جانب الروحانيات والطقوس الدينية. الفلاسفة الإغريق لم يبنوا أفكارهم على أساس علمي أو شبه علمي بل على أساس ديني أسطوري مشترك في ثقافتهم، ومن الخطأ الشنيع عد هذه الأساطير امتدادا لعلم الكيمياء الحديثة.