في ظل التنوع والتباين في أنماط تفكير الجيل الحالي من الدارسين والمشتغلين في مجال القانون، تبرز الحاجة الملحة لقواعد المنطق التي تعين عقولهم على التفكير القانوني السليم، وتجنبهم الخطأ في التحليل والاستنباط، وكما أن العلوم تتكامل في مباحثها وتتقاطع في غاياتها، فإن الباحثين يكادون يتفقون على استحالة دراسة علمٍ ما بمعزلٍ تام عن غيره، خصوصًا إذا كان أحد هذه العلوم ضابطًا لمنهج للآخر. ومن بين العلوم المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بعلم القانون، يبرز علم المنطق الأرسطي، الذي يعرفه العلماء بأنه «مجموعة من القوانين تُستخدم لقياس المعقولات، كما تُستخدم الموازين والمكاييل في قياس الأجسام». ويظهر التكامل جليًا بين القانون والمنطق في مواضع عدة على سبيل المثال: دلالات النصوص وتقسيم المواضيع والقواعد القانونية والأدلة القضائية، وتبرز مسألة تفسير المصطلحات القانونية لتجسد هذا التداخل؛ فعملية التفكير لفهم مصطلح قانوني قد تفضي- عند الوقوع في الخطأ - إلى الانحراف عن مسار التفكير الصحيح الموصل إلى تحقيق العدالة، مما ينعكس سلبًا على استيعاب الموضوع القانوني برمّته. ومن هنا، تبرز أهمية أحد أهم قواعد المنطق، وهي المبادئ التصورية، التي تسهم في تقويم وضبط عملية التفكير القانوني. تُعد المبادئ التصورية من المرتكزات الأساسية في تفسير المفاهيم وتوظيفها، وهي عبارة عن خمس كليات: الجنس، النوع، الفصل، العرض الخاص، العرض العام. وتُعد القدرة على التمييز بينها شرطًا أساسيًا لصحة وسلامة التحليل القانوني، وصياغة النصوص النظامية من قِبل ذوي الاختصاص. ولأن «ما لا يُدرَك كلُّه لا يُترَك كلُّه»، سأكتفي بتوضيح أول مبدئين: أولًا: الجنس الجنس هو مفهوم كلي، أي عام، يُمثِّل صفة ذات معنى مشترك يتحقق في أمور متعددة ومتباينة فعلى سبيل المثال، تُعد كلمة «جريمة» جنسًا، يندرج تحتها أنواع مختلفة من الجرائم مثل: «جريمة الزنا»، و«جريمة القتل» و«جريمة السرقة». ثانيًا: النوع النوع هو أيضًا مفهوم كلي، لكنه يشتمل على أصناف تتشارك في جوهرها وتختلف في خصائصها فعلى سبيل المثال، تُعد «السرقة» نوعًا من جنس الجرائم، وتندرج تحتها أصناف عدّة مثل: «السرقة الكبرى» و«السرقة الصغرى». ويشتركان في الجوهر وهو: الاعتداء على مال الغير، إلا أنهما يختلفان في الخصائص والعقوبة؛ فالأولى عقوبتها القتل حدًّا، أما الثانية فعقوبتها قطع اليد. وقد يبدو للقارئ من الوهلة الأولى أن التمييز بين هذه المفاهيم من البديهيات، وهذا صحيح، لكنه ليس دائمًا كذلك؛ ففي كثير من الأحيان تختلط الأمور على الدارس أو الممارس أو حتى المُنظِّم. وهذا ما وقع فعلاً في مشروع القانون المدني لإحدى الدول العربية، إذ نصت إحدى مواده على ما يلي: «الأموال المثلية هي التي لا تُعيَّن إلا بنوعها، ويقوم بعضها مقام بعض». ويبدو الخطأ جليًا للعارف بأسس المنطق القانوني، ويتمثل في استخدام عبارة «بنوعها» عوضًا عن «بصنفها»، ذلك أن النوع - كما أوضحنا آنفًا - أعمّ من الصنف، وفي هذه الحالة، ظهرت ثغرة قانونية في المادة تمكّن المدين من التحايل على النظام فلو كان المدين ملزمًا بتقديم كيلو تمر من نوع «خلاص» وقدم نوعًا أقل سعرًا وجودة، فإنه يُعد قد أوفى بالتزامه وفقًا لنص المادة، في حين أنه خالف الواقع وجانب العدالة؛ فكما هو معلوم أن «التمر» نوع من جنس «ثمار النخل»، ويتفرع إلى أصناف تزيد عن أربعين، تتفاوت في جودتها وسعرها. وقد أحسن المنظم السعودي حينما أغلق باب التلاعب والتحايل، فنصَّ في المادة 21 من نظام المعاملات المدنية على ما يلي: «الأشياء المثلية هي ما تتماثل آحادها أو تتقارب بحيث يمكن أن يقوم بعضها مقام بعض عند الوفاء بلا فرق يُعتد به عرفًا». فجاء النص جامعًا مانعًا، وجعل العرف حاكمًا في تحديد الاعتداد بالفرق. وختامًا، وانطلاقًا من أهمية المنطق في ضبط وتقويم عملية التفكير القانوني، فإنه يُفترض إعادة النظر في إدراج مقرر دراسي مستقل بعنوان «المنطق القانوني» ضمن الخطط الدراسية لكليات القانون في السعودية، لما لهذا العلم من دور حيوي ومحوري، على غرار ما هو معمول به في بعض التخصصات العلمية الأخرى التي تعتمد على المنطق الرياضي. بل إن الحاجة إلى المنطق في المجال القانوني أشد وأولى، كما يشيد بذلك الدكتور مصطفى الزلمي - رحمه الله - في مؤلفه «الصّلة بين علم المنطق والقانون»، لما في المنطق من حماية لعقل المفكر القانوني من الوقوع في الخطأ عند التفكير، والاجتهاد، والاستدلال، وتكييف الوقائع، وكتابة البحوث، وترتيب عرضها.