في ستينات القرن الماضي كانت المرأة السعودية تنجب ما معدله سبعة أطفال خلال حياتها، وكان من الطبيعي أن تضم الأسرة عشرة أفراد أو أكثر تحت سقف واحد. كانت الخصوبة العالية جزءًا أصيلًا من النمط المعيشي والاجتماعي لا أحد يراه غريبًا أو مقلقًا. لكن اليوم وبعد بضعة عقود تغير المشهد جذريًا فقد أظهرت الإحصاءات الأخيرة أن معدل الخصوبة في السعودية انخفض إلى 2.8 لكل امرأة مع مؤشرات مستمرة لمزيد من التراجع ليقترب من الحد الحرج المعروف ب«مستوى الإحلال» وهو 2.2 طفل فقط. ولفهم أبعاد هذا الرقم لا بد من معرفة أن معدل الخصوبة هو المؤشر الذي يقيس متوسط عدد الأطفال المتوقع أن تنجبهم المرأة خلال فترة حياتها الإنجابية (من سن 15 إلى 49 عامًا) هذا المؤشر ليس مجرد رقم لإحصائية سكانية. بل أداة أساسية للتنبؤ بمستقبل المجتمع فهو يكشف ما إذا كان عدد المواليد يكفي لتعويض الوفيات والحفاظ على حجم السكان أو أن المجتمع يتجه نحو شيخوخة سكانية وانكماش في القوى العاملة. البلدان التي ينخفض معدل الخصوبة فيها عن مستوى الإحلال غالبًا ما تواجه تحديات اقتصادية واجتماعية مختلفة. قد يبدو هذا التغير للبعض مجرد رقم في سجل التطور الاجتماعي، لكنه في الواقع يعكس تحولات عميقة في بنية المجتمع، والتي تؤثر بشكل مباشر في ديموغرافية المجتمع على المدى المتوسط والبعيد، فضلًا عن انعكاسها على المؤشرات الاقتصادية واستقرارها. فحين تتراجع الخصوبة لا يعني الأمر قلة عدد الأطفال فحسب، بل يتبعه تقلص في حجم القوى العاملة وارتفاع في نسبة كبار السن وزيادة في الأعباء المالية على أنظمة التقاعد والرعاية الصحية. وفي الوقت الذي تمضي فيه السعودية بخطى واثقة نحو تحقيق رؤيتها الطموحة 2030 لبناء اقتصاد متنوع قائم على الابتكار والإنتاجية ومجتمع حيوي يجعل الإنسان محوره الأول؛ يصبح الحفاظ على توازن سكاني مستدام أمرًا جوهريًا يدعم مسيرة التنمية بطاقات شابة وتعزز قدرة المجتمع على مواكبة المستقبل. لكن وبكل تأكيد الواقع لا يخلو من التحديات، فالمرأة السعودية اليوم أصبحت أكثر تعليمًا ومشاركة في سوق العمل، ما أدى في المقابل إلى تأخر سن الزواج وتراجع الأولوية لفكرة الإنجاب لدى كثير من الأسر. كما أن ارتفاع تكاليف المعيشة وتربية الأطفال وتزايد متطلبات الحياة المعاصرة، كلها عوامل ضاغطة تجعل قرار الإنجاب أصعب حتى لدى من لديهم رغبة في تكوين أسرة أكبر. ومع ذلك فإن هذه التحديات لا تتعارض مع طموحات الرؤية، بل يمكن أن تكون دافعًا لتطوير حلول مبتكرة، فالرؤية لا ترى الإنسان كمستهلك أو عامل فقط بل تعتبره محور كل تطوير، وإذا أردنا لمجتمعنا أن ينمو بشكل صحي فعلينا أن نولي اهتمامًا خاصًا ببذرته الأولى. ورغم كل ما سبق لا تزال الفرصة قائمة، بل وربما واعدة جدًا خاصة مع المبادرات الوطنية التي أطلقتها المملكة. مثل جودة الحياة وبرنامج سكني وبرامج دعم المرأة العاملة المقدمة من وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية. ومع ذلك يبقى المجال مفتوحًا لمزيد من السياسات المستدامة التي تخلق بيئة مشجعة على الإنجاب دون المساس بحرية الاختيار مثل تقديم دعم مالي عند كل ولادة وتوفير حضانات بأسعار رمزية في أماكن العمل، وتمديد إجازات الأمومة والأبوة، وتبني أنماط عمل مرنة تشمل العمل عن بعد أو خفض ساعات العمل للأمهات العامين الأولين بعد الولادة. وتشجيع نمط حياة يوازن بين العمل والأسرة. في النهاية ليست المسألة مجرد أرقام في جداول إحصائية، بل مؤشرات حيوية تروي قصة مجتمع يعيد تشكيل نفسه، ومسؤولية وطنية تفرض علينا أن نقرأ المؤشرات بعين البصيرة ونبادر إلى حلول تليق بطموحنا. ففي الوقت الذي نبني فيه مشاريع تنموية ضخمة ونطور قطاعات ونستحدث قطاعات جديدة، علينا أيضًا أن نعزز استثمارنا في الإنسان من لحظة ولادته أو ربما قبلها لأنه ببساطة هو المستقبل!