لن نغمض أعيننا عن متغيرات جذرية هائلة، تطول السياسي واليومي والثقافي، ويتم توصيفها والجدل حولها في أفقنا الثقافي المحلي والعربي، كما في العالم أيضًا، مثل العولمة والإبداع والعولمة كمفهوم، التي تأتي في سياق المتغيرات الكبرى التي يشهدها العالم كردة فعل أو استجابة من قِبل المثقفين، لتحديد سماتها وآليات عملها، ومن ثم صياغة موقف منها مثلما حدث مع مفاهيم سابقة كالحداثة، وما بعد الحداثة، والنظام العالمي الجديد، ونهاية التاريخ، وصراع الحضارات.. إلخ. وإذا جاز لنا التعبير، فإن العولمة في معناها لا تحيل إلى متخيل إبداعي أو مصطلح نقدي أو شك واهم بقدر ما تحيل إلى آليات تعمل بقوى التطور التقني والاقتصادي، لتطول مختلف نواحي الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية في مختلف أرجاء العالم. ويتم تسيير هذه الآليات وفق مصالح «المرسل» القوي اقتصاديا وعسكريا، لتخترق وتهيمن على الفضاء الذي يقع فيه «المستقبل» الأقل قوةً وثقلا. ولعل من الصواب القول بأن العولمة كتجلٍ للصراع والمنافسة والسيطرة، بهدف «الربح» أو تسييد المبادئ، محايثة لطبيعة الوجود البشري، وأنها ليست ظاهرة معاصرة في جوهرها، حيث كان الطموح لمخاطبة العالم والتأثير فيه وعليه «روحيا» هو جوهر الرسالات السماوية، وكان أيضا هو المحرك لمنظومة الأفكار الإصلاحية والأخلاقية والديمقراطية التي تلتها حتى اليوم، ولكن جوهر ما يتخلق اليوم في مسار ظاهرة العولمة -المدججة بمنجزات البشرية التقنية في كل الحقول- تسعى بكل وضوح إلى تعظيم الربح دون سواه من قيم أو مبادئ مصاحبة لها، علنية كانت أو سرية، وتسعى من خلاله الدولة العظمى «أمريكا» منفردة لتعزيز مواقع سيطرتها على العالم، واستتباعه بهدف تعظيم أرباح شركاتها الكبرى فقط! وبعيدًا عن عدوى «الموضة» أو «التقليعة»، فإن اهتمامنا وغيرنا من قبل ومن بعد ب«العولمة» يدلل بعمق على أهمية وخطورة العولمة وممارسة سياسة الاستتباع الراهنة. وإذا كان بعض المفكرين لا يرون إمكانية تشكلها كعولمة أمريكية، لأن العالم ما زال يزخر بإمكانات وقوى منافسة لأمريكا، وإذا بنى هذا الرأي صحته النظرية على المستوى الإستراتيجي، فإنه في واقع الأمر الراهن ليس كذلك، حيث تحولت العولمة من ظاهرة كونية متعددة الأقطاب، وبؤر التأثر والتأثير، إلى تفرد تسعى أمريكا من خلاله إلى السيطرة على العالم، ولا أدل على ذلك من الضربات العسكرية المنفردة الأخيرة - خارج إطار الشرعية الدولية الخجول - لبعض دول المنطقة العربية، والإسلامية تحديدًا. هل أصبحت العولمة ظاهرة مكتملة المعالم؟ وهل هي أيديولوجيا أم مصالح؟ هل العولمة هي التقنية وشفافية المعلومة والديمقراطية وحقوق الإنسان أم إنها صراع المصالح والشركات العابرة للقومية والخصخصة والاستتباع؟ هل العولمة خير كلها أم شر كلها؟ ثم لو أمكن لنا أن ننظر إلى المسألة من الجهة الأخرى المناقضة، لنتساءل: أكان للبشرية أن تبلغ هذا التطور التقني المذهل لو أننا قسرنا آليات المنافسة والصراع على التكيّف مع النيات الإنسانية والأخلاقية؟ أسئلة كثيرة تثار ولن نجد إجابتها، لكنني سأختتم كلمتي بالسؤال التالي: حين تصبح العولمة قدرا لا مفرّ منه، فهل لنا خيار في بلورة موقف عملي واضح منها؟ وهل يمكننا أن نختار من مفاعيلها ما يناسبنا أم أنه لم يعد لنا إلا القبول بما يجري والتشبّث بالكرسي الأخير لمسيرة القاطرة الذي نحتله الآن بامتياز؟! 1997* * شاعر وكاتب سعودي «1948 - 2022»