يتبدّى اللّسانيّ الاجتماعيّ كأنّه عالِم آثار يَلتقط همساتِ البشر، ويُنقِّب في الطبقات الخَفيّة حيث تتشابَك اللّغات والسلطات والهويّات. فلا يكتفي «هنري بوييه» في كتابه «مدخل إلى اللّسانيّات الاجتماعيّة» بسرْد النظريّات، بل يَرسم خريطةً حسّاسة للتوتّرات والتناغُمات التي تهزّ المُجتمعات عبر كلماتها. فهذا الكِتاب، الذي تولّى ترجمته الأكاديميّ اللّبنانيّ نادر سراج، وصَدَرَ عن «المنظّمة العربيّة للترجمة» مؤخَّرًا، يُمثّل دعوةً للإبحار في مياهٍ مضْطربة من المعايير والتيّارات الخَفيّة للّهجات المهمَّشة. ومن خلال عدسة فرنكوفونيّة، يَنسج «بوييه» نسيجًا لغويًّا كلّ خَيط فيه لهجة، أو نبرة، أو صراع من أجل الاعتراف. غير أنّ هذا العمل، بالرغم من أنواريّته، لا يخلو من ظلال صمته: كصمْتِ اللّغات البعيدة، والفجوات الرقميّة، أو الأصوات التي أَفرزها القَرن الحادي والعشرون. ولكن لكلّ شيء إذا ما تمّ نقصان. الفصل الأوّل: أناقة تربويّة أو فنّ كشْف اللّامرئيّ يَبرز هنري بوييه كصانعِ ساعاتٍ ماهر، يُركِّب تروسَ اللّسانيّات الاجتماعيّة بدقّةٍ تعليميّة، من دون أن يَقع في شَرَكِ التكلُّف؛ فأَتتْ كتابتُه جامعةً للرصانة العلميّة والطرافة الاجتماعيّة، تُذكِّر بأولئك الأساتذة الذين تتحوّل أفكارهم المجرّدة إلى مناظر حيّة. فمفهوم الازدواجيّة اللّغويّة، مثلاً، من أعْقد المفاهيم: لكنّه يَتحوّل لدى «بوييه» إلى مسرحٍ تتقابَل فيه الفرنسيّة والأوكسيتانيّة، كون الواحدة تُهيْمِن على الفضاء العامّ، والأخرى تُقاوم داخل دفء البيوت. فالمؤلِّف «بوييه» يختارها - مثل الكريول المارتينيكي، أو لهجات الألزاس - ليست باعتبارها توضيحاتٍ فحسب، بل لكونها أفعالَ مُقاوَمة ضدّ النسيان اللّغوي. مع ذلك، فإنّ هذا الوضوح له ثَمن، ففي تجنّبه ممرّات النظريّة النقديّة - تلك الغابات التي خَطَّ فيها بورديو وفوكو مَسالِكَهم - يُقدّم «بوييه» خريطةً مبسّطة، شبه مُريحة، فيَجد القارئ المبتدئ فيها ملاذًا. أمّا القارئ المُتعمّق فقد يتنهّد أمام غياب ظلال السلطة أو الاستعمار. فاللّغة ليست ساحةَ معركة، وإنّما حديقة يتمّ جرْدُها. الفصل الثاني: الفرنكوفونيّة بين النور والسراب يَختار «بوييه» أن يرسو في الفضاء الفرنكوفوني، بأدواتِ رسّامٍ يحدّ ألوانَه بالأزرق لتسليط الضوء على تدرّجاتِه. يتناول بالدَّرس والمُقارَنة بلدانًا كفرنسا وكندا والمغرب العربي، فتتحوّل هذه الأراضي إلى شخصيّاتٍ كاملة، لكلٍّ منها تاريخٌ لغوي مضْطرب. فيُصوِّر «بوييه» كندا كبروميثيوس مكبّل، يُقاوِم الذوبان في اللّغة الإنجليزية، ويتأرجَح بَين «التجوال» والفرنسيّة «النقيّة». أمّا المغرب العربي، فيُجسِّد مُعادلةً لغويّة مستحيلة: فالعربيّة الفصحى، مقدَّسة، لكنّها بعيدة؛ فيما تُشكّل الفرنسيّة إرثًا استعماريًّا مُلتبسًا؛ علاوة على اللّهجات الأمازيغيّة ذات الجذور المخنوقة. لكنّ هذا التركيز، بالرّغم من غناه، يُقيِّد الأُفق. فأين هي الملامح الاجتماعيّة في المحيط الهادئ، أنغام السواحليّة، أو الرقصات النحويّة للهنديّة والأوردو؟ حين يَكتب «بوييه» كراوٍ للأسرة الفرنكوفونيّة، يَشعر القارئ وكأنّه في رواية عائليّة، لا ملحمة كونيّة. القارئ، مثله مِثل أوليس المقيَّد، الذي يَحلم بعبور أعمدة هرقل لاستكشافِ بحارٍ لغويّة مجهولة. الفصل الثالث: الصمت والأشباح كلُّ عملٍ أدبيّ يَحمل في داخله ما يَسكت عنه. وكتاب «مقدّمة في اللّسانيّات الاجتماعيّة» ليس استثناءً. فالعقْد الأوّل من الألفيّة، كفترةٍ مفصليّة غيَّرت فيها التكنولوجيا الرقميّةُ علاقةَ الإنسان بلغتِه، حضرَتْ باستحياء في الكتاب. فكيف لا نتذكّر التغريدات التي تُهشِّم المعايير، أو النكات الكريوليّة الراقصة على تيك توك، أو اللّغة الإنجليزية المدجَّجة بالذكاء الاصطناعي؟ فلم يكُن «بوييه» ليتنبّأ بهذه الانقلابات، لكنّ الطبعة المنقّحة من الكِتاب كانت غنيّة في استدراك النقص في الطبعة الأولى. وثمّة ملحظ في كتاب «بوييه» هو الصمت عن موضوعات ملحّة، مثل: أصوات النساء والأقليّات. صحيح أنّ العمل يتناول الصراعات اللّغويّة، لكنّه يَفعل ذلك من منظورٍ مُحايد، فأين هي الإبادة اللّغويّة التي طالَت الشعوب الأصليّة؟ وأين هي اللّهجات المُستحدَثة بأثرٍ من وسائل التواصُل الاجتماعي والانفتاح الرقمي؟ فاللّسانيّات الاجتماعيّة حتّى تكون نقديّة بحقّ، عليها أن تصغي لهذه الهمسات المتمرّدة. الفصل الرّابع: أوديسة غير مُكتملة يَتميّز «بوييه»، مُقارَنةً بعمالقة العالَم الأنغلوساكسوني على غرار «ترودغيل» أو «ووردو»، بإنسانيّته الفرنكوفونيّة. فكتابه بمثابة منارة للّذين يُبحرون قرب الشواطئ المعروفة. ولكنّه أمام مفكّرين مثل «بلومارت» الذي حلَّل التنوُّع الفائق عالَميًّا، أو «بنيكوك» الذي فكَّك المَشاهد اللّغويّة الحَضَريّة، يبدو وكأنّه مخطوطة أقلّ بزوغًا تحت ضوءٍ نيونيّ قاسٍ. مع ذلك، تبقى هذه «المقدّمة» بمثابة مفتاحٍ ذهبيّ، فهي تَفتح أبوابَ حقلٍ يُعَدّ فيه كلّ لفظ عَهدًا بين الفرد والجماعة؛ ف«بوييه»، كونه مُرشدًا ودودًا، يُذكِّر بأنّ اللّغات ليست أنظمة جامدة، بل هي أجساد حيّة، موسومة بجراح التاريخ وآمال الشعوب. نحو لسانيّاتٍ اجتماعيّة متضامنة تَعني قراءة «بوييه» السَّير على حبلٍ مشدود بين العِلم والتضامُن. فعمله يظلّ مُلهِمًا؛ إذ يدعو إلى لسانيّاتٍ اجتماعيّة تَحتضن اللّغات المهاجِرة، والهجن الرقميّة، والحكايات الحميمة للمتكلّمين المَنسيّين. فدراسة اللّغات تَعني الإصغاء إلى روح المُجتمعات.. وهي روح متعدّدة، متشظّية، لكنّها قادرة دومًا على أن تولد من جديد في لهجةٍ أُعيد إحياؤها أو في نحْتٍ لغويّ جريء. وحين نغلق هذا الكتاب، لا يَسعنا إلّا أن نتخيّل ما كان ليكتبه «بوييه» اليوم: اللّسانيّات الاجتماعيّة أقلّ تحفّظًا، وأكثر شغبًا، إذ تتجاور الفرنسيّة الإقليميّة والإنجليزية العالميّة، فيلتقي نَسَقُ «الفرلان» أو «الكتابة المعكوسة» الذي أنبتته ضواحي باريس بالفَيض الكتابيّ الشبابيّ على الشابكة. ويتمّ جَسْرُ الهوّة بين مرحلة لابوف وبوييه عَبْرَ وسائل التواصُل الاجتماعي. وحتّى ذلك الحين، تظلّ «المقدّمة» حَجَرًا أساسًا جوهريًّا في مَعبد اللّسانيّات. أمّا النسخة العربيّة التي بين أيدينا، والتي تولّى ترجمتَها الباحثُ اللّسانيّ الاجتماعي د. نادر سراج، ففيها جهدٌ لا يُنكَر، فانساب النصّ.. نصّه بسلاسةٍ علميّة واستيعابٍ مُصطلحيّ عميق، وليس غريبًا على المُترجِم اللّبناني، فقد أنفق نصف قَرنٍ في قاعات الدَّرس اللّساني في الجامعات العربيّة والغربيّة، وأَنجز دراساتٍ تُشكّل علامة فارقة في الدرس اللّساني الاجتماعي العربيّ، ولا سيّما تلك التي تتعقّب نبضَ الشارع وتتبصَّر في «نحوه» المُبتدَع على جدران المُدن، وتَكشف النّقابَ عن أشواق المُهمَّشين وبوحِهم المُضمَر. فقد أَخذ على عاتقه منذ عقودٍ طويلة خَوْضَ تجربةٍ بحثيّة تطبيقيّة عنوانها الانشغال اللّساني بدراسة موضوعات مُهمَّشة، ومُغيَّبة، وغير مألوفة من نمط عيشنا المُتغيّر، ونقْلها من مرتبة «اليومي» إلى رواق الأكاديميا. تمثّلت باكورة إصداراته في كتاب «دراسة فونولوجيّة مقارنة لمحكيّة بيروت المعاصرة» (1997)، بالفرنسيّة، و«حوار اللّغات» بالفرنسيّة (2003)، والمُعرّب لاحقًا (2007). على مدى ثمانية عشر عامًا أوضح طبيعةَ اهتمامه بمسائل تحليل الخطابات غير المألوفة: الالتفافيّة والشبابيّة والإدانيّة والاحتجاجيّة الرائجة مفرداتُها في الكلام اليومي؛ سواء أكان هذا الخطاب فضائحيًّا لا أخلاقيًّا «خطاب الرشوة» (2008)، أم تواصليًّا شبابيًّا مُستجدًّا «الشباب ولغة العصر» الذي حازَ جائزة أفضل كتاب عربي عن العام 2013 من «مؤسّسة الفكر العربي»، أم اعتراضيًّا ينايريًّا مصريَّ الهوى «مصر الثورة في شعارات شبابها» (2014)، أم احتجاجيًّا مدنيّا لبنانيَّ الوسمِ «الخطاب الاحتجاجي» (2018)، أم استشرافيّاً لبلاغةٍ شعبيّة مُعارضة ومبتكرة «صرخة الغضب» (2021). نَشر سنة 2009 ترجمة كتاب أندريه مارتينه «وظيفة الألسن وديناميّتها» الصادرة عن «المنظّمة العربيّة للترجمة»؛ وأَصدر لاحقًا «البيت: السوسيولوجيا واللّغة والعمران.. دراسة لسانيّة تطبيقيّة» (2017)؛ و«أفندي الغلغول شاهد على تحوّلاتِ بيروت خلال قَرن: 1854 - 1940» (2013)؛ و«معجم العربيّة المحكيّة في لبنان: ألفاظ وعبارات من حياة الناس» (2020)؛ و«بيروت جدل الهويّة والحداثة» (2023). ويُضاف هذا المُنجَز الجديد إلى معمار نادر سراج، الآنف الذّكر، الذي تتراصف فيه الأدوات المنهجيّة بمبضع الفنّان النبيه والباحث المُلتزم بقضايا المجتمع وتنهيدات اللّغة وتحوّلات الخطاب بين المركزيّات والهوامش. *أكاديمي من الأردن * ينشرَ بالتزامن مع دورية «أفق» الإلكترونيّة الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي